الأربعاء، سبتمبر 10، 2025

حين يُحتفى بمن يهدم ويُقصى من يبني: قراءة في واقع العمارة العربية

 


جمال الهمالي اللافي

في المشهد المعماري العراقي، تبرز مفارقة لافتة بين نماذج مختلفة من المعماريين الذين عملوا في بيئات غربية، لكنهم اتخذوا مسارات فكرية متباينة. فالمعمارية زها حديد، التي تبنّت الجنسية البريطانية ويعمل مكتبها من لندن، اختارت أن تنخرط في تيار التفكيكية المعمارية، وهو تيار فلسفي نشأ في سياق نقدي غربي يهدف إلى تقويض البنى المستقرة، سواء كانت معمارية أو معرفية. هذا التبني جعلها محط إعجاب المؤسسات الغربية، التي تحتفي غالبًا بمن يزعزع الثوابت، خاصة حين يصدر ذلك من "آخر" عربي أو مسلم، فيُمنح صفة التنوير والتجاوز.

في المقابل، نجد المعماريين محمد صالح مكية (رحمه الله) ورفعت الجادرجي، اللذين حافظا على جنسيتهم العراقية، واشتغلوا على تأصيل العمارة الإسلامية والعراقية، لا بوصفها فولكلورًا، بل كمشروع حضاري متكامل. مكية، الذي نال جائزتي الآغا خان والعواصم والمدن الإسلامية، قدّم مشاريع معمارية تنهل من التراث الإسلامي وتعيد صياغته بلغة معاصرة، بينما سعى الجادرجي إلى بناء خطاب بصري عراقي مستقل، ناقدًا للحداثة الغربية، ومؤمنًا بضرورة استعادة الذات الثقافية في التصميم.

ورغم القيمة المعرفية والجمالية التي يحملها هذا التيار التأصيلي، ظل حضوره الأكاديمي والإعلامي محدودًا، مقارنةً بالاحتفاء الواسع بزها حديد. ويعود ذلك إلى هيمنة المنظومة الغربية على معايير التقدير والنجاح، حيث تُمنح الجوائز الغربية هالة رمزية تجعلها معيارًا للتفوق، بينما تُهمّش الجوائز التي تصدر عن مؤسسات إسلامية أو عربية، رغم عمقها وارتباطها بالبيئة والسياق.

إن هذا التفاوت في التقدير لا يعكس فقط اختلالًا في سلم الجوائز، بل يكشف عن أزمة أعمق في مناهج التعليم المعماري في الجامعات العربية، حيث يُدرّس المنهج الحداثي والتفكيكي بوصفه "علمًا"، بينما يُنظر إلى العمارة الإسلامية بوصفها "تراثًا" أو "ماضٍ"، ما يؤدي إلى تغييبها عن الحاضر والمستقبل، ويكرّس نمطًا من التغريب المعرفي والبصري.

ومن هنا، لا غرابة أن يتهافت طلاب العمارة على مشاريع زها حديد، ويعتبرونها نموذجًا يُحتذى، بينما يُقصى مكية والجادرجي من دائرة القدوة، رغم أن مشاريعهم أكثر صدقًا في التعبير عن الهوية، وأكثر عمقًا في فهم البيئة والسياق. وهذا لا ينطبق على العراق وحده، بل على جميع المعماريين العرب الذين كرّمتهم جوائز الآغا خان ومنظمات المدن الإسلامية، فهؤلاء جميعًا لا يرتقون – في نظر المؤسسات الأكاديمية العربية – إلى مرتبة زها حديد التغريبية.

إنه واقع يعكس أزمة وعي، لا أزمة كفاءة. أزمة مناهج، لا أزمة إبداع. فحين يُدرّس المنهج المعماري الإلحادي جيلاً بعد جيل، لا غرابة أن يُستبدل الصالح بالطالح، وأن يُحتفى بمن يهدم، ويُقصى من يبني.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أنماط البيوت التقليدية في ليبيا

المسكن الطرابلسي التقليدي المنزل ذو الفناء " الحوش " جمال الهمالي اللافي مقدمة / يعتبر(...