الخميس، سبتمبر 04، 2025

في هندسة الذات ومقاومة التكلّس: تأملات في الكتابة والتصميم


جمال الهمالي اللافي 

مقدمة 

في ظل التحولات المتسارعة التي تشهدها المجتمعات العربية، تبرز الحاجة إلى مراجعة المفاهيم التي تحكم العلاقة بين الفرد والمكان، بين الفكرة وأدوات التعبير، وبين الهوية وصورها المعمارية. لم تعد الكتابة ولا التصميم مجرد أدوات إنتاج، بل تحوّلت إلى وسائط مقاومة تُستعمل لاستعادة المعنى في زمن التكرار والتشويه.

هذا النص لا يُقدّم وصفًا لحالة فردية، بل يُطرح كتأمل نقدي في مسار بناء الذات، وفي تحرير المصطلح المعماري المحلي من التبعية البصرية والوظيفية. إنه دعوة لإعادة التفكير في ما يُعدّ مكتملًا، وفي ما يُظن أنه راسخ، وفي ما يُقال باسم التطوير بينما يفرّغ المعنى من جذوره.

يخاطب هذا النص كل من يمارس الكتابة أو التصميم من موقع المسؤولية، لا من موقع التكرار، وكل من يرى في الإخفاق فرصة للنضج، وفي الإيمان صمام أمان يحفظ المعنى من الانهيار. أما العزلة، التي سبق تناولها في نصوص أخرى، فتُذكر هنا كإشارة عابرة إلى لحظة مراجعة لا أكثر.

الكتابة والتصميم: أدوات مقاومة لا أدوات تزيين 

في هذا السياق، لا تُمارس الكتابة كحرفة، ولا يُنتج التصميم كوظيفة، بل يُعاد تعريفهما كوسيلتين للتعبير عن موقف، وكأداتين لمقاومة التكلّس. تُستعاد الفكرة حين تنضج، لا حين تُستدعى، ويُكتب النص لتأدية دور لا لإبهار، ويُنجز التصميم لاستعادة علاقة الإنسان بالمكان لا لإرضاء ذائقة عابرة.

النضوج لا يُبلغ بل يُبنى، والإخفاق لا يُقرأ كفشل بل كجزء من عملية التشكّل. تُكتسب ملكة التسامح مع الخطأ من إدراك أن كل تجربة، حتى المؤلمة منها، تُضيف طبقة إلى الرؤية، وتُعمّق الحس النقدي.

الزخم لا يُقاس بعدد النصوص أو التصاميم، بل بقدرة كل منها على التعبير عن لحظة صادقة. يُعاد النظر في المشاريع المكتملة، ويُكتشف فيها ما يستحق التعديل، لأن الاكتمال ليس نهاية بل لحظة مؤقتة من التوازن. الزمن وحده يفرز ما يستحق البقاء، وكل مشروع يحمل داخله بذرة مراجعة.

تحرير المصطلح وبناء المعنى 

تُطرح مسألة الهوية بوصفها عقيدة وانتماء، لا قالبًا جامدًا. تُفهم الهوية على أنها ثابتة في جوهرها، متجددة في صورها، وأن أدوات التعبير عنها يجب أن تُراجع وتُصقل، لا أن تُجمّد أو تُشوّه. يُحرَّر المصطلح المعماري المحلي من التكرار أو التشويه، لا فقط لتوضيح المفاهيم، بل لحماية المعنى من التمييع. ويُربط المصطلح بالتجربة المعيشة، لا بالنظرية المجردة، لأن المفردة لا تُستعاد إلا حين تُجسّد في البيئة والذاكرة والوظيفة.

من المسؤولية إلى الإيمان 

تُمارَس الكتابة والتصميم من موقع المسؤولية الذاتية، لا من موقع التبعية للمؤسسات أو السوق. يُقاوَم التقليد الجامد، ويُرفض التشويه باسم التطوير، لأن الحفاظ على الهوية لا يعني تكرار الصور القديمة، بل تجديد العلاقة بين الإنسان والمكان. يُصاغ الخطاب النقدي لا كترف فكري، بل كضرورة أخلاقية، تُمارَس من باب الالتزام لا من باب المجاملة.

وفي النهاية، يُكتشف أن ما يمنح القدرة على الاستمرار، حتى حين تبدو الطريق معتمة، ليس الواقع بل الإيمان. الإيمان بأن المعنى لا يُهزم، وأن الرضا الحقيقي لا يُستشعر إلا حين يُؤدى الدور بصدق، ويُربط العمل برضى الله واستعادة كرامة الوطن. فالتعب، مهما اشتد، لا يُثقل من يعمل في خدمة المعنى، بل يُنضجه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أنماط البيوت التقليدية في ليبيا

المسكن الطرابلسي التقليدي المنزل ذو الفناء " الحوش " جمال الهمالي اللافي مقدمة / يعتبر(...