أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

{فأما الزَّبد فيذهب جُفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض}- سورة الرعد، الآية 17

الاثنين، أغسطس 25، 2008

قراءة في مشوار...




جمال الهمالي اللافي


  1. الزيارة الأخيرة إلى طلميسة بمدينة جادو[1]، التي كانت بتاريخ 17/11/2006 م، هي امتداد طبيعي لسلسلة الرحلات إلى الداخل، التي بدأت انطلاقتها مع أول رحلة تمت إلى مدينة درنة وضواحيها" المخيلي والعزيات" وما على امتداد الطريق إليها من مدن وجبال وسهول ووديان، أعقبتها رحلة أخرى إلى مدن ودان وهون وسوكنة في نفس الفترة وذلك في شهر أكتوبر من صيف 1985م[2]. ضمن فريق" جماعة التراث" التي أسستها مجموعة من طلبة قسم العمارة والتخطيط العمراني بكلية الهندسة/ جامعة طرابلس" جامعة الفاتح في ذلك الوقت" سنة 1983 م. وكانوا حين ذاك خمسة طلبة، دافعهم إلى تنظيم هذه الرحلة، الرغبة في توقيع مصالحة مع الذات والبحث عن الجذور. ومحاولة جادة لإدارة الحوار مع النفس عبر بوابة العقل... وفي حوار العقل للنفس هذا، تكبر الدائرة لتتجاوز قوقعتها الضيقة، إلى طرح العلاقة بين المعماري كذات ومحيطه الاجتماعي والحضاري كموضوع يعتمل في النفس وتتحرك مع حراكه.

  1. في إحدى محاضراته[3] التي اعتدنا على أن نتفاعل معها بإنصات، اختزل أستاذنا الفاضل/ علي سعيد قانة[4]، رحمه الله"- بخبرة العارف، وهو يشير بيديه إلى الداخل- تشخيصه لحالة التخلف التي يعيشها المجتمع، في عبارة موجزة ولكنها أصابت مكمن الداء، قائلاً:" الإنسان عدو ما يجهله".

ولكن ما الذي جهلناه حتى تخلفنا عن الركب وتجاوزتنا قوافل المجتهدين ولحقت بنا ركبان الطامحين حتى سبقتنا، وبتنا نتخبط في ظلام، خيّل إلينا من امتداد سواده الحالك أنه سرمدي؟

  1. قرأنا في مدارسنا وجامعاتنا مقررات التاريخ وتعمقنا في سيرة الحضارة الإنسانية على مر العصور وتعرفنا على ثقافات الشعوب، لكن تاريخنا ظل غائبا أو مغيبا عنّا في زحمة ما قراناه... غائبا بإهمالنا إياه ومغيبا بتجاهلنا له.

  1. زرنا معه وبعد رحيله مدنا في الساحل والجبل والصحراء، فوجدنا أن بعض أركانها قد تصدعت وبعض أحجارها قد تكسرت وتناثرت تفاصيلها هنا وهناك. إلاّ أنها لا تزال باقية صامدة، شاهدة على صفحة ناصعة من حضارة الأجداد... تنفسنا الصعداء ونحن نلحق بأثر قبل أن يزول وبتاريخ قبل أن يعتريه النسيان أو تتخطفه يد المنون من بين أظهرنا ونحن عنه غافلون... فآثرنا أن ننهل من معينه العذب، على أن نسير في ركب المغتربين أو ننزوي في جحر المقلدين.


الثلاثاء 12/12/2006 م.


[1] - تمت هذه الرحلة بالتنسيق بين المدرسة الليبية للعمارة والفنون- مهندسون استشاريون و شركة بلخير للخدمات السياحية، بمشاركة جميع أعضاء المدرسة، إضافة إلى م. رشيد كعكول، م.عزت خيرى، م. عادل أبو قرين.
[2] - في هذه الرحلة الطلابية والتي جاءت بمبادرة فردية من المجموعة- وبدعم معنوي ومادي من أستاذ مادة الرسم الحر، المرحوم. علي سعيد قانة- شارك فيها كل من / جمال الهمالي اللافي، نوري سالم عويطي، عزت علي خيري، عبد المنعم عبد السلام السوكني وأنظم إليها في مدينة درنة مفتاح الزايدي.
[3] - كانت محاضرة في مادة تنسيق المواقع حول الحديقة في المدن الليبية التقليدية، ربيع 1984 م. وذلك بناء على دعوة وجهها له أستاذ المادة أ. مصطفى المزوغي.
[4] - نحات وفنان تشكيلي واقعي. وأستاذ مادة الرسم الحر بقسم العمارة والتخطيط العمراني.

الاثنين، أغسطس 04، 2008

ميراث المدن القديمة... إلى أين ؟!



جمال اللافي

مقدمة:
مع منتصف الثمانينات من القرن الماضي وبعد عقود من القطيعة، بدأ الحديث في بلادنا حول مستقبل المدن القديمة وطرق المحافظة عليها يأخذ حيزا كبيرا من اهتمام المختصين والمهتمين وتعالت الأصوات التي تطالب بحمايتها من عوامل التشويه والاندثار باعتبارها إرث إنساني لا يجب الاستهانة به أو التعرض له وهو شاهد على عصره. وعلى هذا الأساس قامت مؤسسات ترعى هذه المدن من خلال إعادة الترميم والإحياء والارتقاء، وسنّت القوانين التي تنظم أساليب التعامل مع المباني الأثرية والتاريخية داخل وخارج هذه المدن، وأصبح المساس بمعالمها المعمارية جرم يعاقب عليه القانون!. ومصيرها المحتوم أضحى هاجسا يقّض المضاجع كلما لمسنا تقصيرا بحقها.

استدراك:إلاّ أن الملفت للنظر أن جلّ البحث والاهتمام تناول المدن القديمة كنسيج عمراني ومعماري في شكله الذي يرتبط بزمن مضي ويقف عنده ولا يتجاوزه، متجاهلا في الوقت نفسه البحث في إمكانيات إعادة توظيف المضمون الذي أفرز هذا الشكل من بين عدة مؤثرات، تشّكل البيئة المناخية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية أهم عناصرها ويعيد طرحه في صيغ جديدة تتعامل مع المتطلبات الإنسانية المعاصرة.
لهذا ستركز هذه المقالة بشكل كبير على البحث في ميراث المدن القديمة و مصيره إلى أين؟ يدفع إلى ذلك ما نجده من تجاهل صريح لهذا الميراث في مدننا المعاصرة. حيث تحول ميراث المدن القديمة إلى متحف للآثار يزوره السواح ونأت المدينة المعاصرة بنفسها عن الأخذ بمقومات هذا الميراث وارتأت لنفسها طريقا آخر، طرح أمامنا جملة من الإشكاليات التي يدفع ثمنها كل يوم سكان هذه المدن.

إشكالية العمارة المحلية المعاصرة: إذا أمعنّا النظر إلى أحدى مدننا المحلية المعاصرة علّنا نجد رؤية تستفزالعقل للتدبر في القيم الفكرية والروحية والجمالية التي إنطلق منها مخططوا هذه المدن، تقف جميع حواسنا عاجزة عن تلمس ملامح واضحة المعالم لصورة هذه المدن التي تلفها المخططات العشوائية والعمارة الهجينة المشوهة. وبذلك أضحت العمارة المحلية المعاصرة تعاني بوضوح من حالة فصام في الشخصية وهي نتيجة طبيعية لعدم القدرة على التوفيق بين النماذج المستعارة من العمارة الغربية والقيم الثقافية والاجتماعية للمستعملين ومدى ملائمة الحلول الإنشائية والمعالجات المعمارية لظروف البيئة المناخية، فجاءت عمارتنا المحلية المعاصرة تفتقر للمضمون ويغيب عنها المعنى.
خصائص المدن القديمة:يمثل الجانب الروحي الأساس الأول الذي بني عليه مخطط المدن القديمة وهي إسلامية في صورتها العامة، كما يمثل المسجد مركز القوى الروحية الذي يتمتع به مخطط هذه المدينة، حيث يؤدي دوره كعنصر ضابط لأخلاقيات المجتمع، مثلما يساهم كفراغ معماري في استيعاب النشاطات الاجتماعية والثقافية. كما عكست هذه المدن مقدرة الاجداد على التعامل مع الظروف البيئية من خلال منهجية التخطيط وتطويع العمارة لخدمة المحيط الإنساني، حيث احترم مخططها الثوابت وتفاعل مع المتغيرات، مثلما عكست العمارة التقليدية بجلاء العلاقة المتوازنة بين الساكن أو المستعمل لكل مرافق المدينة والبيئة المحيطة. وتوافق المقصد الثقافي في العمارة التقليدية والمعالجات الإنشائية لمبانيها مع الرؤية الجمالية للمدينة.

ورغم تحفظ البعض حول صلاحية المخطط التقليدي لمتطلبات العصر- إلا أن غالبية المختصين بهذا المجال والمهتمين به اتفقوا على عجز المخططات الحديثة التي اعتمدت على استعارة النموذج الغربي وعمارة الحداثة عن التفاعل مع ظروف بيئتنا المناخية وتعارضه مع قيمنا الاجتماعية والدينية. وقد انحصرت جل الاتهامات الموجهة للمخطط التقليدي والتي لم تكن محددة في جوانبها بشكل واضح، في كونه لم يعد قادرا على التوائم مع متطلبات المجتمع الإسلامي المعاصر وهي الاتهامات نفسها التي بررت لرجال التخطيط لجوءهم عند إعادة تخطيط المدن المعاصرة إلى استعارة النموذج الغربي.

وهو ما يدفع إلى طرح سؤال ملّح، حول ماهية هذه المتطلبات التي عجز المخطط التقليدي عن استيعابها حتى تم إهماله كحل تخطيطي ينسجم- من منطلق الثوابت والمتغيرات- مع ظروف البيئة المناخية والمعتقدات الدينية والتي لا يمكن بأي حال من الأحوال تجاوز ثباتها إلا في حالات حدوث خلل ما في ظروف البيئة الطبيعية أو في معتقدات المجتمع مما يستدعي بطبيعة الحالة تغييرا صريحا في النسيج العمراني والمعماري يتوافق مع الظروف والمفاهيم المستجدة؟!. خصوصا إذا ما سلّمنا بقدرة المخطط التقليدي على استيعاب التطور الحاصل في وسائل التقنية المتعلقة بإمدادات الكهرباء والغاز والمياه وعناصر التأثيث ووسائل التبريد وحفظ المواد والمواصلات ووسائل الاتصالات السلكية واللاسلكية، بل إن التقنية التي لا زالت تتجه بخطى حثيثة نحو الاستغناء عن إمدادات الخطوط السلكية إلى التعامل مع الأنظمة اللاسلكية والرقمية والتوصيلات الأرضية ساهمت في زيادة كفاءة المخطط التقليدي وحماية عناصره المعمارية والفنية من التشويه الذي تحدثه إمدادات الأسلاك الكهربائية وخطوط الهواتف.

وهذا بدوره يدفعنا إلى طرح تساؤل آخر أكثر إلحاحا وهو: لماذا لا تتجه الرؤية التخطيطية لتأخذ منحاها العلمي الجاد والمتمثل في منهج التطوير ليكون بديلا عن الرؤية التخطيطية السائدة والتي تعتمد مبدأ الهدم والإحلال لقيم ونظريات ومخططات مدن وقوانين مباني أثبت الزمن والتجربة أنها تتعارض مع الناموس الطبيعي للحياة المبني على التوازن الطبيعي في العلاقة بين المكان والإنسان والعمارة؟

نماذج وأمثلة للمعالجات والحلول التي تطرحها المدن القديمة:اعتمدت العمارة التقليدية على التعامل مع المنتوج المعماري من حيث الشكل والوظيفة:
فالشكل: كتعبير جمالي جاء كنتاج للمؤثرات البيئة المناخية على منطقتنا التي تتميز بدرجة سطوع عالية للشمس والارتفاع في درجات الحرارة، من حيث اعتماد النسيج المتضام في تخطيط المدن والاتجاه إلى الداخل والانفتاح على الأفنية لتلافي الارتفاع في درجات الحرارة والاستفادة من العلاقة الجمالية التي تتوالد بين الظل والضوء وانعكاساتهما المتبادلة على سطوح المباني.

والوظيفة: الناتجة عن حاجة المجتمع للتعبير عن قيمه الثقافية والدينية التي تحث على احترام خصوصية الفرد والأسرة وبالتالي جاءت الحلول التخطيطية والمعمارية واضحة وجلية في هذا الشأن من خلال الاتجاه إلى الداخل والانفتاح على فناء وتحقيق عوامل الخصوصية والترابط الاجتماعي في آن واحد، وتوظيف الحوائط المصمته السميكة والفتحات الصغيرة كمعالجات للواجهات لمنع أعين المتطفلين من النظر إلى حرمات البيت أو الاستماع إلى مايدور ورائها من أحاديث. كذلك اعتمد النظام الاجتماعي المترابط أيضا فكرة النسيج المتضام. وبذلك توحدت الوظيفة مع المطلب الاجتماعي والمناخي وأثمرت رؤية تخطيطية هي مزيج بين المنفعة والجمال.

توصيات:أن الواقع الراهن للمدينة المحلية المعاصرة يستوجب توحيد جهود المعماريين والمخططين والمنظّرين وكافة التخصصات ذات العلاقة لوضع رؤية جديدة ومعاصرة توّفق بيت الثوابت والمتغيرات فيما يتعلق بمسألة المدينة المعاصرة وتخرج بعمارتنا المحلية المعاصرة من قيود الشكل- الذي تفرضه علينا قوانين المباني المأخوذة عن الغرب دون مراجعة أو تمحيص- إلى حرية التعبير وفق منظور يحترم الخصوصية الإجتماعية والثقافية ويتعاطى مع المؤثرات البيئية من منطلق الإثراء والإغناء للمعنى الذي تحمله العمارة بين طياتها بإعتبارها نتاج للتعبير عن القيم الثقافية والعادات الاجتماعية السائدة في المجتمع.

ومن المنطلقات السابقة يمكن تحديد بعض الجوانب التي قد تسهم في وضع رؤية للمدينة الإسلامية المعاصرة وصورتها العمرانية والمعمارية، ممثلة في النواحي التالية/
1. احتفاظ المسجد الجامع والساحة العامة المحيطة به بمركزيته على مستوى مخططات مدننا المعاصرة.
2. إعادة ارتباط مؤسسات الدولة" أو المؤسسات الشعبية" بالمسجد الجامع على مستوى التصميم الحضري.
3. استمرارية انتشار الأسواق الرئيسية والتخصصية والمباني التجارية حول المسجد الجامع ومؤسسات الدولة والمرافق الخدمية مع الأخذ في الاعتبار نوعية الخدمات ومواقعها بالنسبة إلى موقع المسجد.
4. تقسيم أطراف المدينة إلى مناطق أو مجاورات سكنية، تصل بينها طرقات فرعية يخطط عرض شوارعها بما يسمح بمرور سيارتين متقابلتين
[1] يفصل بينها رصيف يصمم عرضه بما يسمح بغرس الأشجار و توزيع بعض الأكشاك التي توفر المطبوعات والخردوات وما شابهها على طرفيه. كما تتوفر بهذه المناطق المساجد المحلية التي تحتل مركزها في وسط هذه المجاورات، وترتبط بها المراكز الثقافية والاجتماعية والرياضية والمرافق الخدمية الفرعية كالمستوصفات ومراكز الأمن والمباني التجارية والمؤسسات التعليمية الأساسية والمتوسطة والحدائق العامة. على أن ترتبط جميع المناطق السكنية بطرق رئيسية متفرعة عن طرق سريعة تربط باقي المدن ببعضها البعض.
5. تطبيق نظام الكتل المتضامة والتي تحقق الاستغلال الأمثل للأراضي إلى جانب الحماية البيئية والتي يترتب عليها التقليل من استهلاك الطاقة الصناعية. كما يضمن أيضا فرصة تجميع مياه الأمطار الساقطة على سطوح المدينة وإحالتها إلى المواجن التي تنشأ بالخصوص بدلا من ضياعها هدرا عبر شوارع المدينة ذات المخطط غير المتضام.
6. مراعاة الاختلاف المناخي والتضاريسي والثقافي بين المدن الساحلية والصحراوية والجبلية والأرياف وما يترتب عنه من تنوع في الخصائص العمرانية والمعمارية، عند وضع المخططات الجديدة.
7. إحاطة المدينة بحزام أخضر من الحدائق والمنتزهات، تستغل كمتنفس لقاطني المدن و لتوفير تنقية طبيعية للهواء.
8. وضع المصانع والمطارات ومحطات الحافلات الرئيسية والقطارات خارج نطاق هذه المدن لحمايتها من التلوث والضجيج.



الخلاصة:وخلاصة القول أن مخططات وعمائر المدن القديمة لم تأتِ من فراغ، فبين ثناياها تنغرس قيم المجتمع وعقائده وفيها تتحقق متطلباته المادية وحاجاته الروحية وتتكشف معضلات البيئة بين أروقة مبانيها وألتواءات شورارعها وأزقتها عن تراكمات من الحلول المناخية والاقتصادية.

فهل أتت المدن المحلية المعاصرة وعمارة الحداثة وما بعدها من بين هذه الثنايا؟... قطعا ستكون الإجابة، بلا النافية


إذا لهذا السبب... ولهذا فقط نحن نخاف على إرث الماضي أن يبتلعه إنحدار الحاضر... فلا يجد أبنائنا في المستقبل ما يسترشدون به.

والمقارنة أكبر شاهد... وللحديث بقية



[1] - تجرى حاليا في أوربا دراسة تخطيطية لنقل حركة السيارات إلى أنفاق تحت الأرض أسوة بقطارات الأنفاق وتحويل سطح الأرض إلى ممرات للمشاة وذلك في إطار الجهود المبذولة لحماية البيئة.

المواضيع الأكثر مشاهدة

بحث هذه المدونة الإلكترونية