جمال الهمالي اللافي
يقدم البيت التقليدي للدراس مجموعة من القيم الاجتماعية والاقتصادية والعمرانية التي حملها ذلك البيت عبر مسيرة تشكّله التي امتدت لقرون عايشها ساكن البيت مع أسطى البناء- الذي لم يكن يوما غريبا على محيطه مثلما لم يكن مغتربا عن ثقافة مجتمعه- وذلك لتحقيق معادلة المواءمة بين الشكل والمضمون، بين الجمال والمنفعة، بين المتانة والاقتصاد، بين الأنا والمجتمع، معادلة اعتمدت على التجربة والخطأ المنطلقة من معطيات المحلية بكل ما تحمله من إرث ثقافي واجتماعي وبيئي، والتي لم تمنع من التفاعل الواعي مع الحضارات الأخرى والتقنيات المعاصرة لزمنهم.
يمكنه
أن يلاحظ بجلاء الخصائص الاجتماعية داخل هذا البيت، في هذا التنظيم البديع لعائلة
متكاملة مكونة من الأبوين والأبناء والأحفاد تربطهم نظم اجتماعية تحكمها عادات
وتقاليد متوارثة مرجـعها الشرع والعرف. ويلعب الأب والأم( الجدين) في هذا البيت
دور القيادة العليا التي تدير شؤون البيت وتوزع المهام وتفض الخلافات وتتحمل
المسؤولية الكاملة عن كل فرد من أفراد هذه العائلة فيما يتعلق بأمور حياته
ومستقبله.
وأن
يستخلص كذلك مجموعة من النظم الاقتصادية سواء التي تتعلق بالعلاقة الاقتصادية التي
تربط أفراد العائلة والتي تعتمد على مبدأ المشاركة والتكافل. أو تلك التي تتعلق
بهيكلية البيت التي تتركب من نظم إنشائية بسيطة وذكية، تعارف عليها عمالة البناء
المحليين إلى جانب استخدامهم لمواد بناء مصدرها البيئة المحلية.
كما
ينكشف للمتأمل فيه، الخصائص المعمارية والفنية الداخلة في تشكيل هذا البيت من حيث
توزيع فراغاته أو في المساحات المتقاربة لهذه الفراغات والتي لا تزيد عن الحاجة،
بل إنها تتميز بمرونة الاستعمال من خلال عناصر التأثيث التي تعتمد أساسا على
المفروشات. إلى جانب تعدد الأنشطة التي تدور بداخل هذه الفراغات( نوم، معيشة، أكل،
تخزين، استقبال نساء). كذلك ما توفره هذه العلاقات المعمارية من خصوصية تمنحها
للبيت عن المحيط الخارجي ولأفراد العائلة فيما بينهم، إضافة للخصائص الفنية للعناصر
الزخرفية والأعمال الخشبية والمشغولات المعدنية المحلية التي تثري جماليات البيت
وتزين واجهات المباني.
ولم
يهمل البيت التقليدي التعاطي وبمهارة فائقة مع الظروف المناخية حيث كان لسمك
الحوائط الزائد وإطلالة الفتحات إلى الداخل وتلاصق المباني واستخدام مادة الطين
والحجارة في البناء دوره الفاعل في تلطيف درجات الحرارة والتخلص من السطوع الشديد
للشمس وتأثيره على راحة العين، إلى جانب دور الشوارع الضيقة وانحناءاتها المتكررة
في التقليل من سرعة الرياح وحبس الأتربة وتوفير الجيوب الباردة أثناء الصيف. كما
أسهمت سطوح المدينة البيضاء في رسم صورة واضحة المعالم للعلاقة الجمالية بين الضوء
والظل.
هذه
الخلاصة السريعة لمجموعة القيم التي افتقدناها في مخططات المساكن المعاصرة، ولا
زلنا نفتقدها عند تصميم أي مشروع إسكاني جديد يتم تنفيذه من قبل الجهات الشعبية أو
القطاع الخاص، تطرح أمامنا سؤال بدا وكأنه يريد أن يفرض نفسه علينا بإلحاح شديد:
لماذا
حدث هذا الانفصام الحاد بين المجتمع وقيمه المتوارثة، وبمعنى آخر كيف ومتى أصبحت
هناك فجوة بين الموروث الثقافي ودعاة العصرنة أو الحداثة؟
والإجابة
عن هذا السؤال تجرنا إلى استعراض موجز لبدايات هذه الأزمة في منتصف القرن التاسع
عشر ومن أوربا تحديدا: حيث واكب الانهيار العقائدي والأخلاقي والاجتماعي في أوروبا
بعد رواج نظرية داروين1 ، تداعيات أحدثتها نظرية فرويد في التحليل
النفسي والذي تأثر تأثرا كبيرا بالنظرة الداروينية إلى الأنسان- التي تنكر سمو
الإنسان ورفعته عن المرتبة الحيوانية وتنفي قصد الخالق (الذي هو الطبيعة) في خلقه-
( وكان في الواقع امتدادا قويا لها في مجال الدراسة النفسية وعلم النفس التحليلي،
حيث جاء فرويد يفسر السلوك الإنساني على أساس حيوانية الإنسان المطلقة، وخلاصة
قوله: إن الأفكار والمشاعر والعقائد ليست هي التي تحرك الناس أو ترسم لهم سلوكهم
بل أن الجنس هو كل شيء وكل شيء نابع من الجنس وهو المحرك الأول والدافع الأصيل
لكيان البشرية، وسمى هذا بأنه الفهم الواقعي" للطبيعة البشرية". وأصبح
بذلك الإنسان كما رسمه فرويد عريانا من كل خُلق ومن كل دين ومن كل شعور نظيف) 2.
"وكما انعكست الأفكار الداروينية على الدين
والأخلاق والتقاليد، فكذلك انعكست أفكار فرويد الجنسية على الدوائر ذاتها، بل كانت
أشد تأثيرا فيها لأنها تمس الأخلاق والتقاليد مباشرة بل تسعى إلى تقليعها من
الجذور... فإذا كانت" العائلة والأسرة" بمفهومها التقليدي شيئا جميلا في
الماضي، ومناسبا لمرحلة معينة من التطور فليس من الضروري أن يكون هذا المفهوم
اليوم مناسبا وجميلا... بل ليس من الضروري أن توجد أسرة على الإطلاق... فليس الله
الذي صنع الأسرة كما فهم الناس خطأ من قبل، وإنما هي احتياجات المجتمع... والمجتمع
حر اليوم في الإبقاء على العائلة والأسرة أو تفكيكها... وقد قرر التفكيك3.
كما
أحدثت الثورة الصناعية تحولات كبيرة في سير المجتمع الأوروبي، تحولات اجتماعية
واقتصادية وسياسية وفكرية وُخلقية... فخيل للناس في وهلتهم من التحول السريع
المتلاحق أن كل ما حدث جديد كل الجدة, لم يحدث له شبيه من قبل، ومن تم ركبهم هذا
الوهم: أنهم خلق جديد لا ارتباط بينه وبين الخلق السابق ولا تشابه. وإذاً ليس هناك
خط متصل في الحياة البشرية، ولا كيان ثابت أسمه الإنسان4.
وقد
انتقلت هذه المفاهيم والأفكار إلى العالم الإسلامي مع بداية الاستعمار الغربي،
وتغلغل مناهجه التعليمية وبرامجه الثقافية عبر النظم الدراسية والتربوية التي
استحدثها لتكون أداته في تخريج كوادر من المعتنقين والمروجين لهذه الأفكار والقيم
الداروينية الفرويدية تحت ذريعة الأخذ بأسباب الحضارة الغربية، والترويج لها عبر وسائل
الإعلام المختلفة.
ولن نطيل الوقوف عند هذه النقطة
ومدى منطقية طرحها داخل المجتمع الإسلامي الذي لم يحصل بداخله يوما ما تضاربا بين
عقيدته الدينية وبين الأخذ بأسباب العلم والتطور كما لم يكن فيه كهنة يسيطرون على
أفكار الناس ومصائرهم- ولم يحصل فيه خلط لدى علمائهم بين ثبات الخالق- سبحانه
وتعالى- وتطور الحياة البشرية.
وأختم
ورقتي بهذه التوصيات الموجهة تحديدا إلى المؤسسات والهيئات ذات العلاقة/
·
إعادة النظر في المناهج التعليمية وتأسيس مراكز بحثية
تقوم على الدراسات التحليلية لمشاكل المجتمع وعلاقتها بالعمارة، وتمهد لحركة
إبداعية أصيلة في مجالات العمارة والفنون التشكيلية والحرف اليدوية. تستقي منهجها
الفلسفي والفكري من القيم الحضارية لتراثنا العربي الإسلامي. وتتعامل مع التجربة
العالمية في هذا المجال من منطلق التواصل الحضاري بين الشعوب والحضارات وتبادل
الخبرات وتحتفظ لنفسها بخصوصية محلية نابعة من معطيات بيئية ومخزون حضاري وفكري،
تحركها دوافع المجتمع واحتياجاته الراهنة وتطلعاته إلي مستقبل أفضل يحقق من خلاله
الانسجام بين متطلباته المادية وقيمه الروحية.
·
إعادة الثقة المفقودة في العناصر المحلية( المعماري/
الفنان التشكيلي/ الحرفي) وإتاحة الفرصة لها لوضع رؤية للعمارة المعاصرة في ليبيا
وتشجيعهم على تقديم حلولهم المبتكرة وتطويع التقنيات الحديثة واستخداماتها لخدمة
العمارة المحلية وطرح الحلول التي تراعي مقومات البيئة الثقافية والمناخية وتلبي
المتطلبات الاجتماعية للسكان. وذلك من خلال/
§
دعوة الجهات العامة المسؤولة عن تنفيذ المشاريع
الإسكانية، إلى تبني المسابقات المعمارية بين المكاتب الهندسية المحلية، عند
الشروع في اقتراح مشاريع تخطيطية أو إسكانية جديدة، واختيار المشاريع التي تستلهم
من التراث حلولا إبتكارية أصيلة.
§
دعوة جميع هذه المؤسسات الشعبية للمساهمة في إنشاء جائزة
لإحياء التراث الثقافي. تكرّم من خلالها المحاولات الجادة والإبداعية والتي تسعى
لتأصيل القيم الحضارية الإسلامية في عمارتنا الليبية المعاصرة.
·
إعادة النظر في قوانين ولوائح وتشريعات المباني المعمول
بها حاليا، والتي لم تراع مقومات البيئة المناخية وتنوعها بين مختلف مناطق
الجماهيرية، كما أنها لم تحترم القيم الثقافية والمتطلبات الاجتماعية المحلية.
·
ضرورة حماية أجيالنا من الانسياق وراء الثقافات الدخيلة
وانسلاخهم عن ثقافتهم العربية الإسلامية الأصيلة. وذلك بنشر الوعي المعماري والفني
والأثري بين أفراد المجتمع بمختلف شرائحه والتعريف بتراثنا الثقافي المحلي وإعادة
الرابطة المفقودة بين تراثنا بخصائصه البيئية والثقافية وبين المجتمع باحتياجاته
المعاصرة والنهوض بهذا الموروث الثقافي ليواكب حركة التطور الإنساني، وذلك عبر
وسائل الإعلام المختلفة.
·
تغطية النقص في هذه النوعية من المحاضرات والندوات
وحلقات النقاش والبرامج الثقافية التي تمس حياة المواطن والمجتمع، والرفع من قيمة
الحس الجمالي لديه.
[1]- جاء دارون ليقول في كتابه
الأول" أصل الأنواع" سنة 1859 وكتابه الثاني" أصل الإنسان"
سنة1871 إنه لا شيء " ثابت" على وجه الأرض: لا النبات... ولا الحيوان...
ولا الإنسان. وليس هناك قصد ثابت في الخليقة... والخالق- الذي هو الطبيعة- لم يقصد
في الأصل أن يخلق الإنسان، إنما هو قد جاء هكذا نتيجة لعملية التطور البطيئة التي
استغرقت ملايين السنين. ولم يكن " الإنسان" في منشئه إنسانا كما هو
اليوم... وإنما أصله حيوان. لم يكن ينطق، ولم يكن يعقل، لم يكن يقف على قدمين
اثنتين، وبطبيعة الحال لم تكن له تلك الخاصية التي أسبغها عليه التصـور الديني...
لم تكن له" روح". وبالتالي صار الإنسان- على هدى الداروينية- حيوانا لا
رفعة فيه ولا روحانية، وصار من جهة أخرى مطلقا من كل قواعد الخُلق وقواعد المجتمع
وقواعد التقاليد، لأن هذه كلها ثوابت زائفة لا ثبات فيها، وناشئة عن ضلالة سابقة
مستمدة من الدين.
[2]- كتاب معركة العادات والتقاليد
لمحمد قطب
[3]- نفس المرجع السابق
[4]- نفس المرجع السابق