أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

{فأما الزَّبد فيذهب جُفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض}- سورة الرعد، الآية 17

الأربعاء، يناير 28، 2009

العمل الحرفي في ممارسة مهنة العمارة.... الدوافع والنتائج




جمال الهمالي اللافي


مقدمة/
إستجابة لطلب من أخي العزيز مهاجر بصفته مشرفا عاما على ملتقى المهندسين العرب، للمشاركة في موضوع يتعلق بإشكاليات التعليم الهندسي الجامعي طرحه أخونا م. رزق حجاوي بمنتدى الهندسة المدنية، تحت عنوان" أما ان للتعليم الهندسي الجامعي ان يتطور".

عليه قررت المشاركة بموضوع كنت منذ فترة أود طرحه، وقد قررت اليوم أن أعيد طرحه عليكم. وذلك لسبب رئيس وهو أن الحديث عن التعليم المعماري وإشكالياته وتأثيراته على مستقبل المعماري وممارسة المهنة، هذا الحديث لا يمكن فهمه من قبل التخصصات الأخرى بنفس الطريقة التي يمكن أن يفهمها ويدركها المعماريون فيما بينهم.

لهذا رأيت أهمية أن أطرح عليكم هذه التجربة المعمارية التي أسعى من خلالها إلى طرح رؤية جديدة وتطبيقاتها العملية الميدانية، معالجا بها الكثير من الإشكاليات:
· إشكالية طالب العمارة، الذي يلتحق بالجامعة دون أن يكون لديه أية دراية بهذا المجال ومتطلباته النفسية والأخلاقية والمعرفية.
· إشكالية المنهج الدراسي الذي يفصل بين الدراسة النظرية والتطبيق الميداني للمنهج الدراسي الذي يتلقاه طالب العمارة.
· الكادر التعليمي الذي يمثل في أساسه نتاجا لهذا الأسلوب التعليمي العقيم، والذي يفتقر للكفاءة المهنية التي تستطيع ربط الطالب إلى جانب الدراسة النظرية وما يستجد على الساحة المعمارية الفكرية ، بأحدث التطورات التقنية.

أترككم مع هذه التجربة مع دعوتي لكم للمشاركة الفاعلة في تقييم ونقد هذه التجربة، وسأكون على أتم الاستعداد لتوضيح أي نقاط مبهمة ودعم هذه التجربة بما تقدمونه من مقترحات، كما سأتعهد بإطلاعكم على كل جديد ينتج عن هذه التجربة حتى تكونوا دائما في الصورة. ونستفيد جميعا منها.

إنطلاقة/
نتفق جميعا على أن التعليم في مختلف مراحله بصفة عامة والتعليم الهندسي بصفة خاصة ما هو إلا سبب أو وسيلة لغاية أكبر وهي تأهيل الكوادر المتخصصة في جميع مجالات الحياة والتي من شأنها أن تسهم في رقي البلد وتطوره.

كما إن العمل المعماري بطبيعته هو نتاج لجهد جماعي بالدرجة الأولى، ولا يزال في الدول المتقدمة يأخذ هذا المنحى ولا ينحرف عنه وخصوصا في مرحلة الدراسة الجامعية، لتعويد طالب العمارة على هذا المبدأ.

ومما يؤسف له أن العمل المعماري في بعض البلاد العربية يؤسس لفردية مقيته مبنية على التنافس غير الشريف وعلى حشو عقلية طالب العمارة بمعلومات جوفاء لا تسمن ولا تغني من جوع ولا تؤسس في مستقبلها لحركة معمارية ناضجة. كما يغلب على منهجها العقيم غياب التأصيل لقيم حضارية أو منهج فكري يعين الطالب على تحديد اتجاهه الصحيح في مستقبله المعماري وممارسته للمهنة.

هذا الأمر ولّّد حالة دائمة ومستعصية عند تخرج الطالب وانطلاقته إلى مرحلة جديدة وهي ممارسة المهنة، وتحديدا عند شروعه في العمل المكتبي الهندسي ليأخذ تفكيره منحيين/

أولهما: رفضه لفكرة الانظمام لمكاتب هندسية استشارية يكتسب من خلالها تجربة تعينه على زيادة حصيلته المعرفية وخبرته الميدانية وفي بعض الأحوال تكون هذه المكاتب مرحلة إنتقالية مؤقته- لا تزيد مدتها في أحسن الظروف عن السنة أو السنتين. وذلك يعود بالدرجة الأولى لعدم ثقته في كفاءة القائمين على هذه المكاتب من الناحية الفكرية والتصميمية. ولعدم قابليته بالأساس لتبني أي منهج فكري. فهذا الأمر غير وارد عنده.

والثانية: حلمه المتسارع لتأسيس مكتب هندسي خاص به يمارس من خلاله مزاولة المهنة وتقديم تصاميمه للزبائن وهدفه الأول والأخير الإثراء السريع، ليشبع حاجاته الاستهلاكية دون النظر لعواقب ما يقدمه، ما دام قد اسحوذ على رضى زبائنه.

لهذا أصبح ديدن المعماري بعد تخرجه وهمه الوحيد السعي الحثيت لتأكيد شخصيته المتفردة وتحقيق أحلامه الشخصية على حساب روح العمل الجماعي والهم الواحد المشترك الذي يصب في مصلحة أمته ويحفظ عليها كيانها وهويتها وقيمها.... مثلما أصبح ديدنه، اللاهاث وراء سراب آخر الصرعات المعمارية ومحاولة إستنساخها أومجاراتها .

ولأن تأسيس المكاتب الهندسية من الناحية القانونية يستدعي تقدم أكثر من مؤسس لهذا الغرض حتى يتم الموافقة عليه من طرف نقابة المهندسين، إضافة لشرط الحصول على مقر للمكتب.... فقد جمعت هذه المصلحة المشتركة بعض المهندسين حولها، ليحقق من خلالها كل واحد منهم حلمه الشخصي.

فما أن يباشر المكتب ممارسة مهامه حتى يقع في مطب تضارب المصالح وتفرد كل عضو بأحلامه وتوجهاته وفهمه الخاص للعمارة ولا يلتقي الجمع حتى يفترق. وتموت من ورائه ولادة مكتب يحمل إسما ما.... لهذا عند زيارتك لنقابة المهندسين ستجد آلاف الملفات لمكاتب ولدت ثم ماتت في مهدها... فأصبحت نقابات المهندسين وكأنها مقبرة تضم في رفاتها مجموعة من المكاتب الهندسية.

تتكرر الإشكالية دائما عند محاولة تأسيس أي مكتب سواء كان هندسيا أو استشاريا، وبغض النظر عن منهج هذه المكاتب وفكرها الذي تنطلق منه، وسواء كان هذا المنهج والفكر موجودان وحاضران بقوة أو غائبين عن ساحة تفكير مؤسسي هذه المكاتب.... تظل المشكلة قائمة والعائق حاضرا ليكون سدا منيعا أمام أي محاولة لتجميع القلوب وهو - أضعف الإيمان- على قضية واحدة أو على قلب رجل واحد.

ولم تنجح في هذا السياق- الاستمرارية- إلا المكاتب التي يديرها شخص واحد وهي التي تقع تحت تصنيف مكاتب" الرأي" أو في المكاتب التي يتفق مؤسسوها صراحة ودون مواربة على أنهم يتقاسمون إيجار المكان ومصاريف الكهرباء والهاتف ويبقى كل واحد بمنأى عن الآخرين في ممارسة نشاطه المعماري بالصورة التي يراها.

الطرح/
لهذا... ولهذا فقط، ومن منطلق المفهوم العام لماهية العمارة ودورها في المجتمع، لا يجد أحدنا بدا من البحث عن بدائل عملية تكون أكثر تأثيرا وأعمّ فائدة من هذا النمط العقيم المتعارف عليه في تأهيل الكوادر الهندسية وتعليمها أصول ممارسة المهنة.
إضافة إلى فشل الأساليب المتبعة في تأسيس المكاتب الهندسية ومن ورائها ما يعترض ممارسة المهنة من عراقيل وممارسات خاطئة تقف حجر عثرة أمام ممارسة المعماري لدوره ورسالته في المجتمع.

الرؤية/
تنطلق الفكرة من تطبيق تجربة قديمة ولكنها متجددة تستند إلى استرجاع دور أسطى البناء التقليدي وطرقه التقليدية في تأهيل الكوادر الهندسية التي تستطيع أداء دورها الصحيح في ممارسة المهنة، وفق منظور يحترم القيم الدينية والاجتماعية والثقافية والاقنصادية للأمة.

ومما لا شك فيه أن تجربة التتلمذ على يد معلم قدير هي مفتاح النجاح والتميز، كما إنها معلم من أهم معالم نمو الحضارات الإنسانية السابقة وركيزة من أهم ركائزها.... وتبقى مسألة ما يقدمه هذا المعلّم من قيم ومثل إلى جانب تعليمه لتلاميذه أصول الحرفة ومقوماتها حاضرة في الأذهان ومحل اعتبار.

التجربة/
تتلخص التجربة في إعادة إحياء دور ورسالة أسطى البناء التقليدي والذي كما أشرت في ما سبق، يتيح الفرصة لمجموعة من تلاميذه بمزاملته خلال مراحل تنفيذ المباني وتلقي المعارف المتعلقة بحرفة العمارة والنظم الإنشائية وطرائق تنفيد أنواع المباني من خلال المزاوجة بين التوجيهات النظرية والممارسة العملية والمشاهدة الميدانية لمراحل وخطوات تنفيذ البناء... إلى جانب تعلم مراحل تصميم المباني وكل ما يتعلق بها من معارف وممارسات مهنية وأخلاقية.

وقد تمّ التركيز على أن يكون التلاميذ المرشحين لخوض هذه التجربة من أفراد العائلة وبعض الأقارب، تحقيقا للكثير من المصالح المشتركة وابتعادا عن الكثير من المصالح المتضاربة... ولتعود تجربة ثوارت الحرفة بين أفراد العائلة لتترسخ كمفهوم حرفي وأخلاقي وممارسة عملية يومية.

كما تسعى هذه التجربة إلى دمج العلاقة بين المعماري والمهندس الإنشائي والحرفي الفني في شخص واحد والذي تعارف على تسميته فيما مضى بأسطى البناء.

وقد وقع الاختيار كتجربة أولية على مجموعة من طلبة الثانويات التخصصية الهندسية للمباشرة في تطبيق هذه الفكرة خلال الفترة الصيفية الماضية... والتي حققت بحمد لله الكثير من النجاحات التي تشجع على استمرارية متابعة التجربة حتى نهايتها.

وستأخذ هذه التجربة حتى تكتمل في صورتها النهائية في كل مرحلة منحى جديدا يتم فيها إستقطاب مجموعات أخرى من التلامذة في مراحلهم العمرية المبكرة... تبدأ بتعليمهم أبجديات العمارة وأصولها ومعارفها وتنتهي بممارسة المهنة. وذلك خلال العطلات الصيفية التي تمتد لأربعة أشهر وعلى مدى 12 سنة.
وتصبح بعد ذلك مرحلة الدراسة الجامعية، مرحلة أخرى لصقل الخبرات وزيادة التحصيل المعرفي، لمن أراد أن يلتحق بالجامعة. وبعد انتهاء المرحلة الجامعية ستنطلق التجربة الميدانية لتأخذ حقها مع مواصلة التعليم المنهجي لأحدث تطورات تقنيات البناء والفكر المعماري الذي يخدم حاجات المجتمع لعمارة جديدة ومعاصرة ولكنها تحترم قيمه وظروفه وبيئته.

12 سنة من عمر الطالب يقضيها بين المرحلة الإبتدائبة والإعدادية والثانوية، يتلقى معلومات ثلاثة أربعها مغلوطة أو مدسوسة والربع الأخير لن يستفيد منها في حياته العملية ولا تؤهله لممارسة أي حرفة أو مهنة في حالة تسربه من مقاعد الدراسة عند أي مرحلة من هذه المراحلة أو سنة من سنواتها.

في حين سيتم تأهيله خلال العطلة الصيفية وهي كما قلت أربعة أشهر من كل سنة دراسية" وقت فراغ ضائع" تمر مرور الكرام إما في اللعب أو التسكع على شواطئ البحر.

هي بمثابة إعداد تدريجي للمعماري يبدأ من أبسط المعلومات التي يجب أن يعرفها الطفل في مرحلة الدراسة الإبتدائية وهي/
تعريفه بعمارة بلده المحلية، زيارات للمدن القديمة، جولة داخل معالمها، تعريف مبسط بتاريخها، ونشأتها والتعرف على مكونات مواد البناء فيها والتركيز على تفاصيلها وجمالياتها.

• إعطاؤه قلما وورقة وتعويده على الرسم واستعمال الأدوات بطريقة صحيحة، ثم توجيهه لرسم ما يراه أمامه من معالم ومباني وبيوت مع بعض التوجيه.

• يحب الأطفال التعاطي مع أجهزة الكمبيوتر واللعب ببعض البرامج المتعلقة بالتلوين والرسم، وهو ما يتيح فرصة تعليمهم في المرحلة الإبتدائية كيفية التعامل مع مجموعة برامج هندسية مثل برنامج Sketch up ، الذي يتميز بسهولة تعلمه وقد أبدى جميع الأطفال الذين خاضوا هذه التجربة قدرة فائقة في استيعاب هذا البرنامج وقدموا من خلاله أفكارا جميلة ومتميزة.

• تنظيم عدة زيارة للمكاتب الهندسية والمواقع التنفيذية للإطلاع على سير العمل وتحبيبهم في هذا المجال.

• مناقشتهم وبجدية في الأفكار والتصاميم المعمارية التي يتم تصميمها، وقد اعتمدت إحدى هذه التجارب التي تم تطبيقها على أحدى الطالبات التي تدرس في الصف الخامس إبتدائي، حيث تمّ تسليمها مسقط أفقي لبيت من دور أرضي وطلب منها إبداء رأيها وما يمكن أن تضيفه من ملاحظات... فكانت ملاحظاتها وأفكارها تتركز حول توزيع الإضاء في أرجاء البيت واستغلال التجاويف في الحوائط كعناصر تصميم داخلي.

• أما التجربة التي أقحم فيها طالب يدرس في الثانوية الهندسية، ومن خلالها أصبح يجيد إجادة كاملة استعمال برامج الأوتوكاد، والفوتوشوب، وإسكتش أب... ووصل في غضون سنة إلى أن يتولى- وبعد توجيه- مرّكز التصميم الداخلي للمطابخ والحمامات إضافة إلى رسم التفاصيل المعمارية الإسلامية المحلية في ثلاثة أبعاد.
مرفق صور ورسومات

أخيرا/
لم يقدم هذا الطرح من فراغ، بل جاء بعد عدة تجارب إمتدت لعدة سنوات من الإختبار، كان من أهمها تجربة في العام 2003م، حيث تم تنظيم برنامج متكامل لتأهيل الكوادر الهندسية من حديثي التخرج من طلبة قسم العمارة والتخطيط العمراني إضافة إلى طلبة مشاريع التخرج، وقد قسّم هذا البرنامج إلى قسمين/

الأول: دورة تدريبية للإشراف على تنفيذ المباني/
إمتدت لتسعة أشهر في جانبها العملي، تعتمد على تعريف المعماري بمراحل تنفيذ المبنى من خلال متابعة تنفيذ المباني من أول مراحله حتى آخر مرحلة، يتولى خلالها مهندسين من مختلف التخصصات وعمالة فنية وموردين لمواد البناء بإعطاء الشروحات اللازمة.

الثاني: سلسلة من المحاضرات النظرية تناولت/
علاقة الفن التشكيلي بالعمارة قدمها أستاذنا الفاضل المرحوم الفنان التشكيلي، علي سعيد قانه.
• النقد المعماري، قدمها الدكتور رمضان أبوالقاسم عضو هيئة تدريس بقسم العمارة والتخطيط العمراني بقسم العمارة والتخطيط العمراني.
• سلسلة محاضرات حول تاريخ العمارة، قدمها الدكتور مصطفى المزوغي.
• قراءة الخرائط التنفيذية قدمها المهندس المعماري عزة علي خيري.
• التصميم الصناعي قدمها الأستاذ م. أحمد العجيل وهي مجال دراسته العليا ورسالة الماجستير بإيطاليا.
• صناعة الطوب الرملي ، وإعادة تدوير المخلفات قدمها مهندس مصطفى بن بية.
• تحديثات برنامج الأوتوكاد 2007 قدمها م. عمر بن زاهية.

إضافة إلى تنظيم عدة زيارات للمدن القديمة في ليبيا، للتعريف بخصائص العمارة المحلية الإسلامية في ليبيا.

وقد تم تنظيم دورتين أخريين بعد هذه الدورة لمجموعات جديدة.

تبقى الإشكالية كامنة في ما تمّ عرضه من إشكاليات في بدايات طرح هذا الموضوع.... ويمكنكم إعادة قراءتها لتفهم الدوافع التي استدعت اللجوء إلى البرنامج طويل الأمد.


وتفعيل هذه التجربة يتم من خلال تبني كل معماري يأنس في نفسه القدرة والكفاءة لتطبيق هذه الفكرة على من هم محيطين به. سواء بجهوده الفردية أو بالتعاون مع بعض الزملاء.

خاتمة/
أن يصل الطالب وبعد خوض هذه التجربة إلى المرحلة الجامعية وهو أكثر كفاءة ورغبة وجدية واستعدادا لها، أفضل للمجتمع من طالب لا يعرف عن مجال العمارة غير أنه قسم للبنات وليس للرجال... وأن الأقسام الهندسية الأخرى أفضل له، فقط لوكان لا يعاني من مشكلة مع المواد الرياضية.

نسأل الله العلي القدير التوفيق

هناك تعليق واحد:

  1. Hey There. I found your blog using msn. This is a very well written article. I will be sure to bookmark it and come back to read more of your useful information. Thanks for the post. I'll definitely return.

    ردحذف

المواضيع الأكثر مشاهدة

بحث هذه المدونة الإلكترونية