د. مصطفى محمد المزوغي
تأتي هذه المحاولة كقراءة تستعرض سبل مد جسور التواصل بين الحرفة الفنية وهندسة العمارة من خلال الوقوف على تجارب ، يحفظها لنا التاريخ كمحطات ، جيرة بالتوقف عندها ، لنتدارس فرص توظيفها كخطة عملية وعلمية تتيح للبيئة الحرفية تكاملها الفني في حضور هندسة العمارة كأم للفنون؛ فالعمل على تحقيق أرضية منطقية ( مشتركة) بين الوسط الحرفي و المعماري يفسح المجال لتبلور حلول معمارية ( موضوعية) تحد من كثافة المحاولات الفردية .
عند تأسيس مدرسة الفنون والصنائع الإسلامية في العام 1895ف، كان الهدف منها خلق جيل من الحرفيين في مختلف الصناعات ضمن بيئة تعليمية مهنية تكفل الارتقاء بمستوى الحرفية إلى صفوف التألق الإبداع . كما صاحب هذا الهدف حماس المواطن الطبيعي للبناء ؛ فبعد الإعلام عن تأسيس المدرسة أسهم متبرعون لصالح المشروع ، وهذه التبرعات بدأت تصل تباعاً إلى مجلس ولاية طرابلس حتى من المناطق النائية عن مركز الولاية ؛ فقد وصلت تبرعات من قضاء مصراتة (...) ووصلت تبرعات أخرى من قضاء ترهونة (...) . وهكذا بدأ أهالي البلاد متحمسين لإنشاء مدرسة صناعية لتعليم أبنائهم وتدريبهم على الحرف . أن الوقوف برهة أمام هذا الحماس والتأمل فيه ، يفصح بوضوح عن الرصيد الحضاري الفني الكامن في جنبات المواطن ، وإدراكه أهمية تأسيس مدرسة تقنن الحرفية الموروثة في عمائرنا المحلية وأثاثنا وملابسنا وحليتنا وأوانينا وحتى في عاداتنا .
إن المتتبع للرصيد المعماري الموروث (في ماتبقى) من مدننا القديمة ، لن يجد العناء في فهم ورصد التكامل البيئي المعماري والحرفي الذي يعكس تكاملاً حضارياً استدام بيئياً وثقافياً واقتصادياً ردحاً من الزمن ؛ فالمتأمل للفضاء الرئيسي بالدار الطرابلسية (وسط الحوش) ووسط البيت الغدامسي ، يجد مثالين في متباينتين لمجتمع واحد ، ساهم حسه الحرفي الفني الموروث والمصقول في الاستجابة لكل بيئة في بناء تكامل بديع وتوافق حدود الفراغ المعماري وما يحتويه من معالجات بيئية وتأثيث وتفاصيل .
فالدار الطرابلسية الساحلية التقليدية فضاء ينعم بتوافق مركباته التي تنامت بتأنٍّ عبر الزمن ، مستجيباً لمتطلبات البيئة والإنسان على حد سواء . هذا الفضاء حقق متطلبات الإنسان البيئية والثقافية والاقتصادية ضمن إطار جمالي حضاري موروث ووفق معطيات إنشائية مناسبة ، ساهمت جميعها في نشأة بيئة عمرانية نرقبها اليوم من شرفات الدور الفسيحة والحديثة متحسرين على الحقيقة الفراغية في مدينتنا القديمة ، مدركين في الوقت ذاته غيابها في الضاحية ؛ فزقاق المدينة الضيق المتفرع من الشارع العام يقودنا إلى منفذ محدد ينتهي بباب البيت معلنا حرمة ساكني الدار ، نستأذن أهلها لتستقبلها سقيفة تمنع الخيار للوصول إلى محطة الغرباء الأخيرة في دار الضيافة المربوعة ، أو أن يختبر أهل الدار سقف الفضاء الأزرق المستقطع من سماء الدنيا في فناء تتوسطه كروم وحنة ونخيل ، أحاطت به حوائط تعلن واجهات حقيقية بكل تفاصيلها قلبت إلى الداخل لاعتبارٍ بيئي وثقافي متسعة نوافذها ومشرعة أبوابها تفسح المجال لكل الحرفيين في نجارتها وخزفياتها ونسيجها ومعادنها لتستقر في ثنايا الفضاء وأرضياته ، وتكسية جدرانه بحائطيات مطرزة وبسط ومفارش .
على الجانب الأخر نجد البيت الغدامسي الصحراوي يتمتع بفضاء مركزي جامع تصب فيه كل فراغات البيت بمستوياتها المتعددة .هذا الفراغ ، الذي نجده الأكبر حجماً ، تناسبت مركباته المادية من أرضيته إلى ارتفاع ومساحات جدرانه إلى مساحة سقفه الذي تتوسطه بؤرة لضوء النهار ، كل هذا صنع فضاء معمارياً بصيغة براجماتية رسمت ركيزة النجاح لها سنون لعبة التفنن في صناعة البيئة رافدها الدائم الاَّ نكرر الخطأ بعد المحاولة . الداخل إلى الفراغ من بعد مسيرة في دروب المدينة ، تتناقله إيقاعات ضوئية وتنام إيقاعات الدف الصحراوي ، تفاجئه إزاحات فضائية للدرب الضيق ليعلن حضور مدخل البيت العنوان الأول للحرفية الفنية التي تتوافق فيها الهندسة والخامة ، وتزدان برقائق ملونة تغطي السطح في إيقاع شبكي شاهد على استطاعة أهل البيت إلى سبيل المسجد الحرام.
ينسحب الداخل بخطواته متوازناً إلى مستوى وسط البيت (الفراغ المركزي الجامع) حذراً متكئاً على الحائط ، ليشهد انفجار اللون على السطوح بكل عنفوان ، تتفتت الجدران ويصبح المرء في صندوق للعجائب الحرفية ، وخزانة مليئة بكل الفنون . رسومات زخرفيه بلون أحمر غدامسي تفسح المجال لرفوف غائرة وبارزة لتكون حجرات تسكنها أواني نحاسية لامعة ، سطوح من المرايا الصغيرة ، أقمشة نسجت وعطور وبخور وأشياء أخرى في حافظات مطرزة جمعت كل شيء يضج بالحياة تنقلت بعيداً عن الصحراء ترغمك على أن تبصر لا أن ترى .
من وراء كل هذا ؟
إنه التراكم المعرفي الحرفي المتوارث عبر أجيال من المحاولة والخطأ ، شكلت في الختام رصيداً رصيناً لا ليتم حفظه في المتاحف أو ليستثمر سياحياً ، بل ليكون زاداً معرفياً لا ينضب لجيل اليوم من المعماريين والحرفيين معاً . إنه أيضا امتداد للموروث العربي الإسلامي الذي كان هو الأخر رصيداً جمالياً إنسانياً ارتكز أساساً على رصيده العربي لأهل الجنوب في شبه الجزيرة (2) ، إضافة إلى الزخم الحضاري الإنساني للأراضي التي تم فتحها فجر الإسلام وعلى وجه التحديد الدولة الساسانية والإمبراطورية البيزنطية .
وتجدر الإشارة هنا إلى حقيقة هامة لعبت دوراً رئيسياً في إرساء ركائز الامتداد والوحدة الفنية للفن الإسلامي ألا وهي الخط العربي ، والتي كان لحركة التعريب التي قادها الخليفة عبد الملك بن مروان في القرن الأول الهجري أثرها الكبير نحو خلق ثقافة عربية جديدة ، نج شواهدها متتالية زمنياً عبر آثار العمارة والفنون ابتداء من عصر الدولة الأموية وحتى يومنا الحاضر كما تشير الشواهد إلى أن الطراز الأموي يعتبر أول الطرز التي جسدت وحدة الفن الإسلامي (3) .
إن هذا السرد استهدف تسليط الضوء على حقيقتين أساسيتين : الأولى ، بتصميم العناصر الفنية (المعمارية والحرفية ) التي نجد في تنوع وتباين التكوينات بها وخصائصها الجمالية ، قاسماً مشتركاً تعود جذوره دائما إل بداية محددة . والحقيقة الثانية ، تتعلق بتنفيذ هذه العناصر التي هي الأخرى تتحدد بمواد التنفيذ وخواصها من جهة وتقنية التنفيذ من جهة أخرى .
إن مجالات الحرف الفنية تبدو وثيقة الصلة بهندسة العمارة حتى إن المرء لا يمكنه تجاهلها . وكثيراً ما يلمس المهني الهندسي حيرة المواطن العادي في توزيع الثقة بين المعماري والحرفي . وكم من مرة رجحت كفة الحرفي ! فالحرفي يملك القدرة على بلورة الخيال إلى حقيقة مرئية في حين أن قدرة المعماري لم تتجاوز ترجمة الخيال إلى رسومات ليس إلا مما يضعه في خانة العجز عن إدراك أسرار لعبة البلورة الحقيقية.
في ظل ثلاثية الثقة المفقودة والتوافق الغائب بين المواطنين والحرفي والمعماري تبرز بعنف الفجوة الجمالية .
فكيف يجد كل منهم ملامح هذه الفجوة الجمالية في محيط بيئتنا العمرانية ؟
إن المواطن بات يدفع الثمن الأكثر فداحة ، فهو رهين غربة جمالية تنأى به كل لحظة عن موروث متجانس وهوية حضارية تضع عنوان حضوره المادي على البسيطة ليدنو كل يوم مناخ متخبط يجره فقدان الهوية البطيء . وكم من محيط عمراني يعكس قيم ساكنيه ؟
وتأتي المسؤولية الأولى التي تقع على اتق غياب الحرفي الفني الوطني ليصبح المكان مباحاً للمغامرين ؛ فعمائرنا اليوم شاهد حي على عبث حرفي لمهارات متواضعة تملك بدايات الحرفية ومبادئ جمالية مشوشة وجت بيئة ثقافية عذراء شرعوا في تزويقها بوضع مساحيق الدنيا على وجنتيها حتى صارت مدينة اليوم في ليبيا مسخاً يقنع نفسه كل يوم بأنه الأجمل بالنظر في مرآة مشروخة صنعتها الثقافة الوافدة بالمهارات البائسة ذاتها . والمعماري في ظل هذا العبث حاضر وغائب ؛ فالمئات من خريجي المؤسسات التعليمية العليا من جامعات ومعاهد يساهمون في تعمير بيئتنا بمخططات تعكس محاولات متباينة في الجدية والصدق تصرعها ضغوطات الرصيد المعماري الوافد وسيطرة الحرفية الأجنبية ويقهرها غياب كل من المنهج التدريبي وصناعة البناء وثقة المواطن .
إنه مثلث تفككت أضلاعه فكانت نتائجه عمائر تحمل كل شيء عدا الهوية المنشودة ، حاولت محاكاة العالمية فأخطأت الخطوة وفقدت أثر خطواتها ، وازدادت الضغوطات حتى بات سؤال البناء والتعمير كابوساً بدلاً من أن يكون طموحاً حضارياً . إن بنيات مدننا اليوم امتدت رقعته وطغت دون ملامح ، وسيبقى طويلاً قبل أن يغيب عن أبصارنا ، وما مطالعتنا له كل يوم إلا مسامير أخيرة في نعش هويتنا الجمالية . هذا الانتحار الجمالي البطيئ اقترفه الجميع في حق الجميع .
هل من سبيل لنتقن خطوتنا من جديد ؟
نعم وبكل ثقة . فقط إذا ما وقفنا زمناً نتدارس معطيات قائمة وضوابط منشودة يمكن معها رصف الدرب إلى بيئة عمرانية يتفاعل معها الإنسان جمالياً وحضرياً دون تغرب . وقد لا نملك في هذه القراءة السريعة مناقشة تفاصيل تنفيذية بالقدر الذي يمكن معه التفكير بشكل كتابي في أحد السبل الكفيلة برأب الصدع في بيئتنا الجمالية . إنه وفي مدرسة حرفية كمدرسة الفنون والصنائع الإسلامية فرصة للوقوف والقياس بتمن في وقعها وإدراك الدور الحضاري المناط بها خطوة يشترك في مسؤوليتها كل مواطن ، فهي مدرسة أسسها الشعب لحرفية فنية تنتمي حضارياً إليه .
إن تكثيف برنامج علمي مدروس يشترك في طرحه كافة الشرائح الفنية ذات العلاقة من أساتذة وحرفيين فنيين ومعماريين وفننانين ونقاد ومؤرخين من خلال الحوار ، ليسهم في تطوير مناهج التدريس والتدريب بشكل أساسي وليعمل على توثيق الصلة بين المصمم والمنفذ. كما أن إثراء سبيل التعاون الحرفي والمهني يشكل خطوة في وضع الأساس لبيئة جمالية تسد الفجوة الثقافية .
(2) شيحة ، مصطفى عبد الله الوحدة الجمالية في مدارس الفن الإسلامي الفكر العربي العدد 67/13 يناير 1992،ص ،74.
(3) نفس المصدر ص، 76.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق