أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

{فأما الزَّبد فيذهب جُفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض}- سورة الرعد، الآية 17

الجمعة، أكتوبر 17، 2008

كتابة الفن التشكيلي الليبي المعاصر... المحاولة أم المخاطرة!





د. مصطفى المزوغي *





عندما يتسأل المرء عن حاجتنا الى الكتابة عن العمل الفني التشكيلي بما فى ذلك من ضرورة لأن نتجاوز متعة المشاهد العفوية، فانه لن يجد سوى الميل الفكري لسد الفراغ بين الكلمة والمشاهدة كإجابة موضوعية. فمع المحاولة المرتقبة لكتابة الجزء الخاص بالفنون التشكيلية الليبية المعاصرة، تلوح لنا خطورة المحاولة فى أن نجهض وليدا لطالما ترقبناه وما طرح جملة التساؤلات هنا الا لغرض تبين جوانب المحاولة وتحديد آفاقها والتمعن فى فلسفة طرحها . فسيرتكز النقاش فى هذه القراءة على ثلاث تساؤلات رئيسة ، يرتبط أولها بمدخل تدوين التجربة الفنية التشكيلية فى ليبيا ومدى توفيق المنهجية البحثية العلمية كمدخل لموضوع الدراسة. فى حين يقوم التساؤل الثانى على خلفية وعمق التجربة الفنية ذاتها ومدى أهليتها للكتابة عنها.

وفى ظل الفرضية- إن لم نجزم بقناعتنا- بثراء المخزون التشكيلي، يختم النقاش بكيفية البحث فى مركبات التجربة التشكيلية من رؤية فنية وآلية ترجمة تعبيرية و...مشاهد ! بدت لى الكتابة عن الفن التشكيلي الليبي المعاصر وكأنها محاولة إدراكية تحليلية عندما ترتبط بهدف تصنيفى ونقدى.

وهذه المحاولة ضرورية لحركة تشكيلية آخذة فى التبلور إلا أن ما يدفعنا إلى أخذ الحيطة هنا هو العارض الطارىء الذى قد يطرأ كحالة تضاد بين الكتابة النقدية والموضوع . فالإختلاف يكمن فى الادراك التحليلى يتطلب تجزئة العمل التشكيلي إلى عناصر والتعامل معها بشكل منفصل وتفصيلى فى حين يتطلب الادراك الجمالى تكامل العمل الفني لاتجزئته والمساحة الذهبية البشرية لن تفسح المجال إلى تواجد الحالتين الادراكيتين فى آن واحد معا!
من هنا يبرز التساؤل عن القيمة الحقيقية لهذا المشروع فهل ذلك يمكن فى محاولة تاريخ الحركة التشكيلية ؟ أم هى فى الكتابة ذاتها ؟
أم هى فى كلتيهما ؟! وبتسليط الضوء على إشكالية الكتابة ذاتها وحتى تتوافق وحركة وتنوع الموضوع يفترض أن تتجاوز الأسلوب التصنيفى الناقد إلى البحث عن رؤية أدبية جديدة بدلالاتها الفنية والزمنية، رؤية تكون معها الصيغة الطموحة للمسيرة التشكيلية، وبشكل تنتفى معها حالة التضاد بين إدراكنا الجمالى والنقدى التحليلى، وبالتالى يغيب الفارق فى الرؤية للعمل الفني" كمعاناة تجربة" أو" كقامة مصنفة من العناصر" فالمنهجية البحثية والمتعددة أشكالها من تاريخية أو وصفية أتحليلية أو تجريبية وأساليب النقد المتباينة فى بحث مكامن الابداع والضعف بالعمل الفني التشكيلي قد لاتشكل بداية موضوعية إن لم يتم تبصر القيمة الحقيقية لمثل هذه "الكتابة" فالمادة الفنية ذات العلاقة على درجات من التفاوت الفني والزمنى فضلا عن كونها بحالة بحث مستمر.

فكل هذا إن لم يتم استقرار بتروي فقد يتمرد الموضوع على المدخل المنهجى المتقن، لسلبية "المنهجية التقنية " التى كثيرا ماتملى النتائج بدلا من أن تكون أداة بحث عنها.

إن هذا يعني وجوب إلمام قلم الكتابة بشروط المنهجيات البحثية مع رفض أى منهجية بحثية محددة سلفا بل أن تتحدد أساسا بطبيعة المعلومات التى يتم تجميعها.

فى حالة الكتابة عنه انطلاقة لها من المرونة الكافية التى تفسح المجال لقراءة ومعايشة كل من خاض التجربة التشكيلية فى بلادنا وقاسى همومها. فبذلك نرسم فلسفة الطرح للفن التشكيلي الليبى المعاصر كصيغة تواصل بين أجيال التشكيليين خلال قرن من الزمان وبذلك يتسنى لنا تسليط الضوء على المحطات الرئيسية فى مسيرة الرواد الإبداعية وتحديد الانعطافات الخلاقة بها. إن كل ذلك سيتم بكيفية موضوعية لا مجال فيها إلى خلط الاسماء بل البحث فى العمل الفني الحدث للفنان ويكون سياق منهجية البحث معها متعمد بشكل أساسى على خصائص العمل لادوافعه، فالأعمال التشكيلية الحدث قد يكون تلك التى ألهمها الزخم الثقافى الموروث والمستمدة جمالياتها من الصفار الصحراوى الحار والزرقة المتوسطية الدافئة.

إذن فالقالب النجى الصرف قالب متقنن لن يلبس العملية الإبداعية ثوبا متكلفا فحسب بل سيفقدنا فرصة الجديد فى كتابة تاريخنا التشكيلي! أما النقاش المتعلق بحقيقة التجربة التشكيلية الليبية يتمحور تساؤله عن خلفية التجربة؟ وهل هى بالعمق الكافى للكتابة عنها؟. فالمراقب للحركة التشكيلية الليبية تحديداً يجد أنها اعتمدت كثيرا على الصقل الذاتى! وإذا ما تتبعنا مكانة التعبير التشكيلي فى مختلف مؤسساتنا التعليمية لن يفوته غيابها إن لم يكن" تغييبها ". فهى لم تدخل فى أى مرحلة من المراحل التعليمية الأساسية مجموع التقييم التعليمى العام، بل تقف خجولة بجوار التربية البدنية والسلوك" كتربية فنية"! وقد يكون مرد ذلك قناعة القائمين على العملية التعليمية بعدم جدوى الحاجة التعبيرية للنشء! علما بأن أول أساليب التعبيرية البشرية تبدأ دائما من التشكيل.

فبعد غياب "التربية الفنية" عند مشارف التعليم الثانوى نلحظ عودتها وبقوة ضمن مؤسسات التعليم العالى التى قامت بتخريج (لا تأهيل) أعداد غفيرة تجعلنا نتسأل عن حاجتنا للمزيد من التشكيليين أو حتى لمثل هذه المؤسسات! وعلى الرغم من ذلك لم يفوتنا بزوغ عدد من الأســـــماء (لا الأعمال) بل ومقارنتها بشكل عقيم مع جيل رائد من التشكيليين.

هنا تزداد الحاجة إلحاحا إلى التحقيق من الأعمال التشكيلية "الحدث" على كافة المستويات من هواة أو محترفين، رواد أو ناشئين قبل الشروع فى عملية الكتابة أو حتى تبنى منهجية ما. وأن تكون البداية بإثارة النقاش على أكبر مقياس ممكن، فمن خلال استفزاز ذاكرة أجيال الحركة الفنية التشكيلية خصوصا الرواد منهم وتعصيف أدمغتها للبحث عن المحطات الخلاقة وتحديد القيم الجمالية والفكرية لها دون النظرإلى الخلفية البيئية أو الزمنية لها . بهذا المحطات الانتقائية تتشكل الركائز لجديد الطرح الذى من خلاله تكون الكتابة ذاتها عملا رائدا ويتحقق معها الأساس المتين لحركة تاريخية طموحة.

إن المسح العلمى المجرد للأعمال الشكلية والمنطق من أن قيمة العمل الفنية تكمن فى حقيقتها الشكلية ، يقودنا إلى استعراض ركائز هذا المسح من كيفية تشكيل العمل الفني وكيفية استقباله من قبل المشاهد . فالكيفية التشكيلية للعمل الفني هى الأخرى تعتمد على تكامل كلا من الرؤية الفنية من جهة وآلية ترجمتها إلى تشكيل مرئى جهة أخرى .والرؤية الفنية تضل المادة الخام الأساسية للعملية
التشكيلية وهى وليدة أخرى حالتين إدراكيتين حسية أو فكرية ،فالرؤية الحسية هي بمثابة إعادة صياغة الواقع من خلال وجدان التشكيلي فى حين تستمد الرؤية الفنية الفكرية ملامحها من المخزون المعلوماتي بذاكرة التشكيلي.

وما يثرى الأعمال الفنية التشكيلية هو تنوع الرؤى الفنية، فقد يختلف تعامل تشكيليين مع موضوع واحد ومنجده في الشكل(1) و(2)
إلا مثال جيد لذلك كان قد عرضه (م.أ. بفلن) فلقد قاما الفانان التشكيليان (جون مارين)John Marin 1913 و(جوزف ستيللا)1922 Joseph Stella على التوالى بتقديم رؤيتين متباينتين لذات الموضوع. فلقد أظهر (مارين) مبنى "الوول وورث" بمدينة نيويورك ضمن رؤية مناخية حساسة فهو قد أنجزمعضم أعماله مع بداية القرن بالقرب من شاطىء البحر الضبابى، الأمر الذى يقترح فى عمل الحفر شكل (1) تأجح المبنى الناطح للحساب وكأن الإنشاء الإنسانى لن يصمد ضد قوى الطبيعة. فى حين نجد رؤية (ستيللا) تبدو مغايرة، فهو يضيع ذات المبنى ضمن مجموعة... مجموعة الناطحات مؤكدة (تشكيليا) على الدقة الهندسية والخطوط الصلبة الحادة، وكأنها لن تنحنى أبدا للرياح. إن الرؤية المستقلة لكل تشكيلى تبدو مختلفة رغم وحدة الموضوع.

كما أن معالجة الرؤية تشكيلياً من خلال ترجمتها مرئياً، عملية تتطلب مساراً فكرياً تكون انطلاقته فى البحث عن" فكرة" إلى انتقاء المادة التشكيلية مرورا بالتقنية التشكيلية. كما يضع التشكيلي ضمن هذا المسار التنفيذى رصيده من أسس العلاقات التشكيلية وأسرارها. وكثيرا ما تكون الحاجة التعبيرية هى المحدد لإختيار المادة التشكيلية المناسبة، وأحيانا أخرى يكون الشكل الرئى هو المحدد الأساسى لإختيار المادة التشكيلية. فالتباين هنا صفة ملازمة للطبيعة التشكيلية الفنية بل قد تتباين آلية الترجمة المرئية لدى التشكيلي الواحد فى مجموع أعماله. فاستثمار الخواص التعبيرية والجمالية لمادة مافى تشكيل مرئى تظل أولوية هامة ضمن الآلية التنفيذية فعلى سبيل المثال نجد فى العمل التشكيلي"الأم والطفل " شكل (3) (لأستر ورثايمر) 1985 Esther Wertheimer تم توظيف البرونز اللامع والناعم لتوفير خواص يتحقق معها الشعور بالاستمرارية ضمن رمزية قوية من القوة والارتباط الأمر الذى دفع بتكوين حلقة غير مكتملة تجنبا للتعبيرية المباشرة فى دائرة مغلقة التى قد تحدث تأثيرا أضعف فى مضامين العمل.

من هنا نخلص إلى حقيقة تشكيلية وهى أن نجاح العمل الفني مرتبط بصدق "الشعور" لدى التشكيلي تجاه المواد وخواصها التعبيرية، فالخواص المرنة للمادة الطينية الرطبة تختلف عن تلك التى يحققها الأزميل والمطرقة على الرخام وإن استشعرالفنان التشكيلي غياب فرصة النجاح للعمل بصدد تنفيذه، كثيرا مايشرع فى بداية جديدة . وهنا نصل إلى معايير نجاح العمل الفني التشكيلي والتى لا أجد حرجاً فى تلخيصها كمتعة عفوية نجد صداها فى نفس المشاهد . فمتعة المشاهد العفوية تتولد من تكامل العمل الفني التشكيلي لتستقبله ذاكرتنا الجماعية وترسم له محطة ضمن المسيرة الفنية التشكيلية الليبية المعاصرة . من هنا هل لنا جميعا بمراجعة ذاكرتنا والبحث عن هذه المحطات ولتكن هى بداية الكتابة؟


* معماري واستاذ مشارك بقسم العمارة والتخطيط العمراني بجامعة الفاتح.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المواضيع الأكثر مشاهدة

بحث هذه المدونة الإلكترونية