علي عمر ارميص**
اغلب الظن أن هذا الموضوع الذي أود التحدث عنه بمثابة المحيط الذي لا قرار له. ذي الأمواج العاتية الهائلة والأفاق الشاسعة النائية. وكما يصعب الإبحار كذلك يصعب الإرساء عند شاطئ محدد أو خليج آمن. حيث أن الآراء تتعدد إلى درجة أن يصبح لكل شخص رأيان على الأقل رأى يوافق عليه حسب ضرورة الواقع و رأى يأمل أن يكون عليه الحال وكمثال على ما أقول فأنى دخلت هذه المتاهة. وما أشرت إلى موضوعها وما حددت لها عنوانا.
و السؤال: ماذا تعني الاصالة و المعاصرة ؟ التي أتخذ منها الاتحاد العام للفنانين التشكيليين العرب تفسير للشعار الموضوع على جبينه، والتي وضعت في الشعار على شكل زخرفة أسلامية وقد قطعت منها قطعة علي هيئة المثلث. لتوضع مكانه دائرة حمراء؟.
والتفسير، الذي سمعته لذلك من القائمين على الاتحاد أن الزخرفة المشطورة تعنى الاصالة والدائرة الحمراء المحشورة بين فكيها تعني المعاصرة. يا تري ما هي الاصالة التي قصدت من ذلك ؟ وما هي المعاصرة ؟ ومن خلال الإطلاع على بعض المعارض العربية وقراءة شيء من الفصول المكتوبة في عدد من المجلات المتخصصة وغير المتخصصة. والحديث مع نفر من الفنانين التشكيليين العرب تبيّن لي أن الاصالة المقصودة في الفنون التشكيلية العربية الحديثة في واقع العرب المعاصرين أنما هي تجميع نماذج زخرفية وقوالب معملية. كانت يوماً نماذج متطورة فنية ذات صيغة صناعية أو حرفية أو تأملية واكتشافات ذهنية لمعادلات جمالية.
إلاّ أن أغلب نماذج الفنون التشكيلية إبان الحضارة العربية الإسلامية كانت تطويراً صناعياً لأدوات حياتية في الصناعات الكبرى أو الصغرى، كل ذلك لفائدة الإنسان المباشرة في ملبسة ومسكنة ومأكله ومتأملّه. وكل ذلك كان يجلب الفائدتين المتلازمتين وهما الفائدة المادية البحتة والتي هي اللبس أو ذلك السكن أو غيره. ولذا كان التطور (المطرد) يتم دائماً بتقديم الأجود و الأجمل والأرفع ولم تكن تلك النماذج ترسم على لوحات زيتية أو مائية. ولا كان ينظر إليها كعمل منفصل ولا توضع في إطارات وتعرض على نظام عرض رواقي بالمعني أو الأسلوب الذي نعرفه الآن ولا حتى قريباً منه. أما أن يقول بعض نحن فنانون عرب بالأ صالة على وزن بالوراثة. ويكون عملهم الصادق هذه النماذج والقوالب التي ذكرت أو بعضها تفي لوحاتهم ويفسرون ذلك بأنهم فنانون أصليون من حيث أنهم يتعاملون مع العناصر الأصيلة في الفنون العربية الإسلامية. تميزاً عن الذين ينقصهم ذلك من الفنانين التشكيليين أو الذين يدعون المعاصرة.
وأرجو أن يتجمل الذي لا يسرهم هذا القول بشيء من الحلم وسعة الصدر وأنه ليلزمنا جميعاً حسن التدبر والقياس العدل عندما ننظر في مثل هذه المسألة. و أنه ليظهر لي ذلك من جهة وكأنه تجمع للقواقع البحرية من شواطئ المحيطات. وليس هو اكتشاف لمعطيات جديدة عن طريق أدراك لا حساسات مخضرمة بين القديم والحديث وليس من الغريب أن يستعمل الفنان بعض من هذه النماذج والقوالب أحياناً في لوحاته إذا تأتي من ذلك عمل جميل. ولكن الغريب أن يأمل من وراء ذلك حل حضاري لمعضلة الفنون التشكيلية العربية الراهنة وأني كثيراً ما أرى أنه من الضروري أن يتناول الفنانون العرب بعض من النماذج الجيدة المختارة من الفنون العربية الإسلامية المتوارثة على أساس أنها بداية للتطوير... وكبذور تلقى الرعاية والعناية لتصبح أشجار باسقة في حقول شاسعة تنتج ثمراً طيباً وزهورا عبقة. وشتان مابين الأمرين فأنك عندما تزرع بذورا ... لا تريد أن تجني نفس مقدار البذور التي زرعت ولا أن تبقى تلك البذور في نفس الطور. تريد أشجار كثيرة وأطواراً من الأشجار" مختلفة". لأنك تريد كل ما ينتج من وعن ذلك تريد التطوير للأحسن والاكثر والأعمق سواء من الناحية التأملية أو من الناحية المنهجية التقنية.
ولكني في المقابل عندما أتأمل الكثير من لوحات الفنانين العرب سواء علي مشهد من اللوحة نفسها أو علي سطح مجلة مصورة أو كتاب، أرى أن اغلب تلك النماذج تؤخذ وكأنها قطعة تذكارية وضعت في زاوية. إذ هي في النهاية ليست من صميم لحمة العمل الفني وانما شأنها شأن أعقاب سيجارة في منفضة تدلك على أن مدخنا قد قضى منها وطره ... وليس هذا بالطبع حل حضاري لموضوع الأصالة بأسلوب المعاصرة. ولعل لمستدرك أن يقول أن الأصالة في الفنون التشكيلية هي أن يصل الإنسان إلي أن يتأمل الكون والمخلوقات بإدراك بصري حريص فيتعرف الإنسان على العلاقات الجمالية التي تربط الأشياء ببعضها. وتفاصيل الجمال في كل شيء مباح قادر على إدراكه بالنظر الحسي أو ألتأملي. ومابعد هذا التآلف اللوني. وهذا التناسق الشكلي. وفي كل ما يحيط بالإنسان من جوانب الكون من سماء وأرض ومخلوقات كالإنسان والحيوان والنبات والجماد وما يمكن أن يكون من عناصر أخرى. ثم يترك الإنسان هذه الصور الجميلة المتآلفة المتناسقة تصنع من حسه مثالا يقضاً لكل ما يطرأ على عقله أو متفقداً بكل ما هو قادر على أن يجمعه ببصره أو ببصيرته. بشرط أن لا يكون هدفه هو التقليد لهذه الصور والأشكالمن عمله الفني إنمل ذلك التعبير عن هذا الإدراك، لأن التقليد الأعمى أنما هو في النهاية نوع من العبث وإضاعة عمر. فتقليد شيء خلقه الله العلى العظيم فأحسن خلقه وأضفى عليه من فضله التناسق والتكامل في كل شؤونه والاستعداد لاستيعاب ما قد خلق له.
إنما التعبير الذي هو أقرب إلي الفطرة أن ينطلق الإنسان من هذا الجوهر ومجمل هذا الإحساس الفطري أن يصنع الإنسان لنفسه وبنى جنسه ما يرى أو يأمل أن يزيد من تحسين مداركهم ويؤكد استيعابهم لهذه الحقيقة الكلية أو يزيد من اكتشافهم لمدى التناسق المحكم والجمال الرفيع حتى في الجزيئات فضلا عن الكليات ولعل في ذلك ما يقربنا لفهم أسباب تحريم الإسلام منذ عهد سيدنا إبراهيم عليه السلام للتشخيص فضلا عن عبادة الأشخاص والشخوص. وكل ما فيه تقليد للإنسان بصورة خاصة. وأقول بصورة خاصة لأن الإنسان يتمثل فيه العنصر الغيبي أكثر مما يتمثل في غيره وهو الروح أو حيث أن الروح لا يمكن أن تشخص بأي شكل من الإشكال المعروفة. وغالبا ما يتم تشويه العمل فيخرج عن صورته الإلهية التي خلقها الله عليها إلي شبح قميء ومشوه على قماش أو ورق أو غيرها من المواد صورة عاجزة عن الاستنكار لما هي عليه وهي غير قادرة على الفرار من الإطار الذي وضعت فيه. وينطبق ذلك علي الرسوم والصور التي ليست لها أطر أيضا والنحوت التي لها قواعد. ذلك أن التقليد الذي درج عليه الإنسان في رسومه وصوره وجميع فنونه التشكيلية أتى من عجزه على أن يؤلف لتصوراته نظاما معتدلا متناسقا من المقاييس الجمالية. فلجأ الى تقليد المخلوقات والتي بالطبع بها أفضل المقاييس الجمالية. وعند ذلك وقع في التشويه الكريه. ولهذا السبب وغيره يظهر جليا أن التحريم الإسلامي لذلك لم يكن فقط كما يقول البعض لقرب المسلمون الأوائل من الوثنية الجاهلية. وقد بعدت عنا الآن فبطل التحريم. وفضلا أن الجاهلية والوثنية لم تبعد عنا في هذا العصر وإنما هو أيضا لأسباب خالدة لا تتأثر بالزمان ولا بالمكان ومنها إضاعة العمر سدى في تقليد شيء قد أحسن الله خلقه وفطرته كما قلت وهذا يعتبر من العبث. والإنسان العاقل في غنى عن ذلك. ومنها للتشويه القبيح الذي يحدث من تأخر في تطوير عقل الإنسان من اكتشاف النماذج الكاملة والجزئية التي اشرنا إلى بعضها فهو إذن خسارة إنسانية على مستوى عمر البشرية وعلى مستوى التقدم المادي والروحي.
ورجوعاً إلى موضوعنا الأصلي فان الفنون العربية الإسلامية أخذت تسعى من البداية لعمل قواعد روحية وعملية لاكتشاف إمكانيات حديثة في كل يوم جديد تفيد في تطوير الحياة ومرافقها والتحسين من ظروفها في نطاق الحق. ومن تحسين الأرواح والعقول ومدركها في المجالات التي طرقها الإنسان الذي كان يسمى ضمن نطاقها ... أو تمكن من الإطلاع على مآثرها. وكمثال على ذلك فان أغلب الأمثلة الحضارية التي قامت عليها الصناعات المختلفة من كل موقع كان للفنون العربية الإسلامية اليد الطولي في وضع قواعدها واكتشاف دروبها وتسهيل صعابها وإزالة عوائق الوثنية وعبادة الذات من أمامها.
ومعلوم لدى الكثير أن الحضارة الإسلامية دفعت بالفنون والحرف والصناعات المختلفة إلى الأمام وصنعت لنفسها من ذلك نهجاً شهيراً. حتى إذا ضعف حال العرب والمسلمين لأسباب تعرفونها وتلقف الغرب زمام الحضارة المعاصرة. وجد الطرق ممهدة ووسائل العمل مشروحة. ومحاذيرها منعوتة ولنا في الوثائق الموجودة في اغلب متاحف العالم ومكتباته خير دليل فضلاً عن الآثار الباقية في بلاد الحضارة العربية والإسلامية. وقد وجد أن عصب الحياة الاقتصادي والذي تكون فيه الفنون التشكيلية عنصرا خطيرا. وبادر الغرب إلي صنع نماذج فنية. تحمل سماته علي النسق الذي يفهمه ويريده. ومثال ذلك" مرحلة النهضة" وقلد من ذلك اليونان والرومان في وثنيتهم. ولكن بعد هذه الطفرة العاطفية وبعد أن أدرك أن هذه الطريق لا يؤدي إلي غير المتاهة أصبح يتفقد تراث الشعوب الأخرى وتراث الحضارات القديمة. فابتدأوا بالفراعنة وحضارات ما بين النهرين وكذلك الهندية والصينية والأفريقية وأخيرا وبعد أحجام وعناد ومكابرة وجد أنه لا مفر من الاعتراف بأن الحضارة العربية الإسلامية هي المثل الروحي والمادي الذي إن تعرف عليه الإنسان استغنى به عن غيره وإن جهله لم يستغن بغيره عنه وأصبح الغرب والحضارة المعاصرة تستهلك من هذا المستودع الهائل الغني بالأفكار والأعمال كثيرة ومن النشاطات الأروبية التي تخص ذلك على سبيل المثال مهرجان العالم الإسلامي بلندن من 72 /1976 م.
وعندما أقول أن الحضارة المعاصرة تستهلك من مستودع الحضارة الإسلامية الملئ بشتى صنوف الجمال والأفكار فإني لا أعني أن تأخذ الأشياء بالضرورة كما هي بل هي تأخذها لتنسج على منوالها أو أن تقيس المدارك ... وتجرب الأحاسيس وتستفيد من التجارب وتتعظ من المحاذير. وتدخل كل ذلك ضمن أسلوب معاصر. وتلبسه مواد جديدة وبذلك نشط الجانب العلمي من الفنون التشكيلية، في الحضارة المعاصرة لأن العاملين عليها إستفادوا أيما استفادة من تراثنا العملي، أما الجانب الروحي و الذي غالباً ما يكون له علاقة الديني فالخلاف قائم نظراً للحالة التي عليها المسلمون والتي يظهرون فيها وهم في شغف لتقليد الغرب وتنكر لحضارتهم، الأمر الذي لا يشجع الطرف المقابل أن يترك مكانه المتبوع ويشغل مكانه التابع.
ومن بعد هذا يتبين بالقياس أن النماذج التي يتعامل معها أغلب الفنانين العرب على أنها نماذج الأصالة وبالروح التي يتلبسونها ليست إلاّ من قبيل تجميع الحفريات مادام الاتجاه الذهني مخالفاً لروح الأصالة الإسلامية. وأن المعاصرة والتي تعني أن يستعمل الأساليب والوسائل العصرية في معالجة العمل لا تعني فعلاً المعاصرة النافعة مادامت تقتصر على نقل تصورات عما تم منذ سنوات في عواصم الحضارة المعاصرة.
إنما المعاصرة أن تسبق الحضارة لا أن تتبعها، أن تسبقها بالقدوة والاكتشاف والريادة .والاصالة أن تفعل كل ذلك بالمنهج الحضاري العربي الإسلامي وأن تدفع بهذا المنهج الحضاري العربي الإسلامي الأصيل ليشق طريقه المميزة عن سائر الطرق والذي يجمع بين الفطرة السليمة والمنهج الإسلامي في الاعتقاد مع تأكيد مبدأ تحسين المدارك الحسية وتطوير العوامل المساعدة على الرفع من مستوى الدوق والحياة وذلك ما ينفع الناس ...
وذلك كان التساؤل عن مفهوم الاصالة والمعاصرة شعار اتحاد الفنانين التشكيلين العرب ولازال السؤال قائماً .
وكما قلت في البداية، فأن الموضوع أقرب على أن يكون مثل المحيط الذي لا قرار له. ذي الأمواج العاتية والأفاق الشاسعة وكما صعب عليّ الإبحار يصعب عليّ الإرساء عند شاطئ محدد أو خليج أمن، وكان لزاماً على من كانت في البحر حياته أن يتعلم العوم.
والله اعلم ...والحمد لله أولاً وأخيراً .
طرابلس 10/12/1979 ف
* مشاركة الكاتب في المؤتمر الثالث لإتحاد الفنانين التشكيليين العرب
** فنان تشكيلي ليبي
** فنان تشكيلي ليبي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق