مع الرحالة الألمانى البارون هينريش فون مالتسان عام 1869
دراسة وترجمة: د. عماد الدين غانم
عرض: الأستاذ/ سعيد علي حامد
المركز الوطنى للمحفوظات والدراسات التاريخية طرابلس
صدر هذا الكتاب ضمن منشورات مركز جهاد الليبيين للدراسات التاريخية، سلسلة نصوص ووثائق رقم (38) . وقام بالدراسة والترجمة د. عماد الدين غانم وكتب مقدمته د. محمد الطاهر الجراري. ويضم الكتاب بين دفتيه 384 صفحة من الحجم المتوسط، وبغلاف جيد. والكتاب من اسهامات مركز جهاد الليبيين للدراسات التاريخية في الاحتفالية التى شهدتها مدينة طرابلس لكونها عاصمة الثقافة الاسلامية الذي سعى لتقديم ما من شأنه القاء ضوء على تاريخ هذه المدينة العريقة في مختلف المراحل التى مرت بها.
هذه المدينة (طرابلس) كما يقول د. الجراري في تقديمه من حقها علينا أن نعنى بجمع ونشر كل مايساعد على فهم مكانتها على مدى العصور والأمر يغدو أكثر وجاهة بمناسبة الاحتفالية بها عاصمة الثقافة الاسلامية. أن الجزء الثالث من كتاب المستشرق والرحالة الالمانى البارون هينريش فوق مالتسان 1826 – 1874(رحلة في ايالتى تونس وطرابلس الغرب)كان نتيجة رحلة عام1869 واستمرت حوالى أربعة أشهر، إن هذا الجزء الذى ننشره بعنوان: "في رحاب طرابلس وتونس" يتضمن أشمل نص في المكتبة الاروبية عن طرابلس حتى مطلع القرن العشرين، ويتطرق الى مواضيع لا نمتلك عنها أية معلومات. فهو تقرير طريف بكل المقاييس ..." (ص6).
تناول د. عماد الدين غانم في التمهيد شخصية الرحالة مالتسان وذكر أنه "شخصية متعددة الجوانب، ومثلما هو رحالة فهو مستشرق، وذو اهتمامات أثرية واسعة، وهو شاعر وكاتب روائي ، وحتى المغامرة شكلت جانبا من حياته، فقد زار مكة متنكرا باسم جزائري ووقف مع الحجيج في جبل عرفات، ولم يكن من الرحالين الذين تطلعوا لاختراق الصحراء وبلوغ نواحى بلاد السودان، بل كرس سنوات طويلة للتعمق في دراسة المغرب العربي، ووجه اهتمامه الى جزر البحر الابيض المتوسط ، وركز جهوده علىسردينياالتى كان يعتبرها عالما خارجيا تابعا للشمال الافريقي . . . فقد عرف المغرب العربي ومصر والنوبة والشام وفارس وآسيا الصغرى" ( ص13).
بذل د. غانم مجهودا كبيرا لاعداد ترجمة لهذه الشخصية، فاتصل بافراد الاسرة في بون، ورجع الى فهرس المؤلفين الألمان في مكتبة الدولة ببرلين، واطلع على بعض رسائله في هذه المكتبة، واعتمد على بعض المقالات التى كتبت عنه في المجلات وكتب التراجم والموسوعات، وما تحصل عليه من معلومات عن حياة الرحالة من خلال عدد من مؤلفاته، ومن رسائله التى ارسلها من طرابلس ونشرت في العديد من الصحف الالمانية.
تعرض المترجم لحياة الرحالة مالتسان قبل دخوله عالم الرحلة، مولده ونشأته، وتعليمه، وحياته الوظيفية وبروزه في عالم الرحلة ومعرفة الشعوب والآثار واللغات، وقد أسهمت الثروةالتي خلفها والده بعد وفاته سنة 1851 في قرار مالتسان الانضمام إلى عالم الرحلة والعلم والمعرفة وتكريس حياته لهذه الاغراض. بدأ مالتسان عهده بالرحلة في الرابعة والعشرين من عمره ، جاب في رحلاته الأولي القارة الاوربية فأنه كان ولاشك يتطلع إلى الشرق ، فقد عكف أثناء دراسته على تعلم اللغات الشرقية وفي مقدمتها العربية ، وتوحي جميع كتاباته بتعلقه بالشرق وعالمه وهذا ما برر أقامته المستمرة والمتقطعة في المغرب العربي ورحلاته العديدة في المشرق العربي والجزيرة العربية على مدى عقدين من حياته قضى معظمها في الجزائر ،ويعد من أفضل من عرفوا الجزائر وفهموها في القرن التاسع عشر ساحلا وداخلا وأرضا . أن تعلمه للغة العربية يسر له فرصةالاتصال مع أبناء الشعب الجزائري بجميع طبقاته.
لقد شملت رحلاته ، بالاضافة الى المغرب ، اثيوبيا ومصر وفلسطين والشام وآسيا الصغري ، وفي العام 1853-1854 تطلع ملتسان إلى المغامرة بالقيام بزيارة الديار المقدسة بمناسبة الحج ، روى في كتابه (حجي إلى مكة) فكرة المغامرة والاجراءات التي أتخذها التى يسرت له الوصول الى مكة والقيام بجميع مناسك الحج ويشهد الوقوف بعرفه، وأثيرت الشكوك حوله إما أن يكون مسيحيا متنكرا في لباس عربي ، أو جاسوسا فرنسيا وخشى من أفتضاح أمره فعجل بالرحيل قبل زيارة المدينة المنورة فاتجه الى جدة ووجد سفينة أنجليزية صعد اليها وتوجه الى عدن ومنها الى بومباى.
تركز نشاط مالتسان في العامين 1868-1869 في الرحلات على تونس وساردينيا وطرابلس ، فقام بالعديد من الجولات في تونس وزار دواخلها للتعرف عليها ودرس أثارها . وتوجه إلى سردينيا حيث قضي بضعة أشهر أهتم خلالها بدراسة الآثار الفينيقية ، وجمع العديد من نقوشها ، وفي أكتوبر 1868 عاد لتونس ليتابع دراسة الآثار الفينيقية ، واطلع على القطع الآثرية والنقوش الفينيقية التى كانت بحوزة ابن الوزيرالأول الخزندار الذي سمح بالا طلاع عليها دون السماح له بتصويرها فاستعان مالتسان بالحكومة البروسية للتدخل في السماح له بتصويرها .وشعر مالتسان بأن الاذن بالتصوير يتطلب وقتا طويلا وربما أشهرا ، بادر بتنظيم رحلة جديدة تحمله برا على طول الساحل التونسي ،ويستمر فيها حتى مدينة طرابلس ، وتشكل هذه الرحلة التى بدأها من تونس في 1\2\1869 والتقارير التى كتبها عنها فصول الجزء الثالث من مؤلفة بعنوان (( رحلة في ايالتي تونس وطرابلس)) والذي يمثل صلب الكتاب.
اهتم فون مالتسان في عام 1870 بالجنوب العربي ، فاتجه الى عدن متخذا منها مركزا لانطلاقه فى العديد من الجولات فى مناطق الجنوب العربي لم تكن معروفة لدى الأوربيين ونجم عن ذلك دراسات لغوية أعتبرت في حينها بالغة الأهمية ، إذ كان الأول بين الأوربيين الذي لفت الأنظار الى لغة المهرة ، كما عرف بملاحظاته القيمة عن لهجات الجنوب العربي.
عاني مالتسان من الأمراض والألام النفسية، فوضع حدا لحياته في مدينة بيزا الايطالية يوم 22 /2/1874 قبل أن يبلغ الثامنة والأربعين ، وبذلك فقد ميدان العلم والمعرفة شخصية فذة فى ذروة عطائها وخاصة أنها برزت في ميدان النقوش الفينيقية والحميرية التى كرس لها إهتمامه في السنوات الأخيرة من حياته. وخلف مجموعة من الكتب التى ألفها من خلال رحلاته العديدة ، ومن أهمها ( ثلاث سنوات في شمال غرب أفريقيا : رحلة في الجزائر والمغرب )، و( رحلة الى جزيرة سردينيا سنة 1869 ) وثق فيه النقوش الفينيقية التى عثر عليها في الجزيرة . و( حجي إلى مكـة ) الذى صدر في سنة 1865 ) ، و( رحلات في الجزيرة العربية ) و( رحلة في إيالتي تونس وطرابلس ) ، إضافة الى عدة كتب أدبية ومقالات صحفية.
إقتصر المترجم د. عمادالدين غانم على ترجمة الجزء الثالث من الكتاب دون الجزئين الأول والثاني، والجزء المترجم مكرس لرحلة قام بها الرحالة مالتسان على طول الشاطئ من طرابلس إلى تونس ،مكث في الأراضي الليبية فترة أربعة أشهر تمخض عنها نص تجاوز المائتى صفحة حولها ، تميز بلغة رفيعة ، ويلاحظ المطلع عليها مدى نشاطه خلال تلك الفترة ، وإتساع دائرة علاقاته ، وتنوع مصادره ، وإستفادته من إمتلاكه ناصية اللغة العربية ومقدرته على التفاهم دون وسيط ، ومن مكانته الاجتماعية وثرائه ، وقبل كل شئ خبرته الواسعة في التعامل مع أبناء المغرب العربي والأوضاع السائدة فيه، وترتكز خبرته على خمسة عشر عاما قضاها فى التجوال والارتحال.
يعرض د. غانم نماذج من مقالات البارون فون مالتسان الصحفية بعنوان " رسائل من طرابلس " وفيها يعطى الرحالة مزيدا من التفاصيل عن رحلتين إنطلاقتا نحو بلاد السودان من طرابلس قبل وصوله اليها ببضعة أسابيع ، وكانت على رأس الرحلة الأولى الثرية الهولندية الكسندرينا تينه (1834 – 1869 ) وعلى رأس الثانية غوستاف ناختيغال ( 1834 – 1885) ، ويولى مصرع الرحالة الهولاندية إهتماما خاصا في 1/8/1869 في وادي برجوج ، وهى تلقى الضوء على تاريخ الرحلات الأوربية في ليبيا في النصف الثاني من القرن العشرين.
يبدأ الجزء الثالث من الكتاب بالفصل السادس والعشرين، ويتناول فيه المؤلف السفر بحرا من تونس الى الحدود مع طرابلس الغرب، ويستهله بمقارنة بين وسائل النقل التى شهدها خلال زيارته تونس لاول مرة عام 1854 والمتمثلة في امتطاء الدواب أو سيرا على الاقدام في حين خلال هذه الرحلة (1869) يمكنه ان يقطع الطريق بالعـربة، وهى وسيلة نقل كانت تثير قبل عشرين عاما ذهول الفلاح العربي البسيط إلا أنهم تعودوا عليها الان وقد ألفوها مثلما أصبح القطار مألوفا لدى الفلاحين الالمان.
يصف مالتسان طريقة الحصول على أمر من الباي للتجول، والذي يمنح حامله الحق أن يقدم له من جانب جميع القادة أو الكاهية او الخليفة أو مهما كان لقب الموظفين كل شي مجانا. وذلك فيما يتعلق بحاجته الشخصية وأتباعه ودوابه. وحسب التصور فإن هؤلاء الاعيان بمنأى عن الترحاب إذ توجب عليهم أن يتحملوا نفقة استضافة الغريب وإن كان وصول حامل الأمر ما زال يشكل أمرا مرغوبا، لأنهم في هذه الحالة تتوفر لديهم الفرصة المثلى لابتزاز رعاياهم بما يعادل ضعف أو ثلاثة امثال ما يقدمون الى المسافر... ويعين ثلاثة رجال من الافظاظ المتوحشين لمرافقة المسافر يدعون الحانبه (وهم من الخيالة غير النظاميين )، ويكفى ظهور هذا الثلاثى حتى يجعل قرية عربية بأكملها تحت وطأة الخوف والرعب.
تمكن مالتسان من الحصول على أمر الباي بعد انقضاء خمسة اسابيع وغادر تونس سالكا طريقا يمتد على طول بحيرة تونس المالحة مارا على منطقة جرداء بها مرابط يدعى فيض الله، يجتاز بعدها سهل فسيح تطل عليه هضاب جبل بوقرنين ويصل الى رادس ومنها الى حمام الأنف ويعطى مالتسان وصفا لهذه المناطق، محاولا تتبع اسماءها من خلال المصادر القديمة. ويستدرك هنا بان مرافقيه الثلاثة أحدهم من الحانبة، والاثنان الاخران من صنف السباهية *، الا أن خدمتهم تتشابه تماما مع الاعباء التى يقوم بها الحانبه.
أمضى الركب ليلته في قرنبالية، وهى قرية أسسها المغاربة الاندلسيون الذين طردهم الاسبان قبل ثلاثة قرون ونصف، وقد جلبوا معهم نشاطهم الذكى وصناعتهم واجتهادهم، وحتى القرن الثامن عشر كانت قرنباليه تتمتع بنوع من الازهار والذي تدين به للاجتهاد الحرفي الأندلسي إلا أنها كما يذكر مالتسان انحدرت ولا تمثل عند زيارته لها سوى صورة تعيسة لانهيار بالغ.
بات مالتسان ليلته فى دار الباي التى يكشف مبناها الرئيسي عن ملامح لا يمكن تجاهلها من تلك العمارة الاندلسية الرفيعة، إذ زينت قاعتها بأعمدة رشيقة وكوات في سقوفها نقش حديدة وأعمال جصية بالزخرفة العربية المشهورة، والمؤسف ان هذا المبنى يعانى من الإهمال والقذارة ، ويذكر أن الدار في الوقت ذاته تستعمل معصرة زيتون للباي. ثم يشير الى الوجبة التى تناولها وكانت تتشكل من كسكس فاخر بلحم الضآن ورز بلاو مع الدجاج ، وأشار الى المشاكل التي سببها مرافقوه مع نائب حاكم قرنباليه ومع الحوذي المالطي وتدخله لحل تلك المشاكل.
استمتع مالتسان بالهدوء الذى ساد أثناء الطريق بمشاهدة آثار مدينتين فى غاية الأهمية لم يجر التعرف عليهما إلا فى الفترة الحديثة ، تسمى المدينة الأولى (هنشير مدين ) وصلها بعد مسير ساعتين من قرنبالية ، ويزودنا بمعلومات مفصلة عنها ، ويدون وصفا دقيقا عن آثارها يدل على سعة إطلاعه على المصادر الأثرية القديمة ، بعدها يمر ركب الرحالة على موقع المدينة الثانية ( هنشير الأربعين ) الذى أشار اليه عالم الآثار الفرنسي فيكتور غيران (ت. 1891) بأنه ( هنشبر الخنقة)،ويطلق عليه الأهالي اسم (هنشير الأربعين )إشارة الى الأربعين شهيدا من المسلمين الذين استشهدوا فى بداية الفتح العربي الاسلامي ، ويصف بعض الآثار الى أن يصل الى بلدة الحمامات ويبدو أن نشأتها تعود إلى العصر الوسيط ، وقد شيدت فى معظمها من بقايا هذه المدينة القديمة رغم أن معظم الحجارة تحتجب تحت طبقة سميكة من الملاط واللون الأبيض ، ويصف وصوله الى البلدة والشجار والنزاع الذى كان طرفه الرئيس كالعادة الحانبة، ويستمر الرحالة فى رحلته ليمر على آثار بطبوط القديمة والضريح القديم الذى يطلق عليه العرب الآن قصر المنارة ليجد نفسه فى منطقة معزولة تماما ؛ بادية قاحلة تقطعها بعض الأودية التى أقيمت عليها جسور ، وفى وسط هذه المنطقة يوجد حصن يطلق عليه برج العصا يقيم به يوزباشي وثمانية من المحاربين الشجعان ، ويورد بعض الحكايات عن أخلاقه وتصرفاته . وبعد ساعة ونصف زار آثار هرقلة القديمة وآثار المعاصر التى ماتزال قائمة واصفا تلك الآثار من فسيفساء ومنحوتات وأعمدة... إلخ ويعرج الى تدوين مشاكل الحانبة كالعادة، لينتقل الى وصف الصناعة الوحيدة المزدهرة فى هرقلة والتى تتمثل فى صنع حصر جميلة جدا مزينة برسوم ملونة ، تؤخذ موادها من نبات الحلفاء المتوفر بكميات فائضة فى البادية المجاورة، وبعد قضاء ليلة فيها يغادرها متجها الى مدينة سوسة.
يصف الرحالة مالتسان مدينة سوسة بقوله " ربما كانت سوسة تتمتع بمظهر حضاري يفوق اي مدينة أخرى في أفريقيا ، أسوار وأبواب المدينة وأستحكامات وكل شىء في أجمل تنسيق ، وهى ناصعة البياض فقد جرى طليها مجددا ويوحي منظرها بأنها جديدة كل الجدة . منذ زيارتي الاخيرة (1854م) شيدت بعض البيوت الضخمة وهى جديدة . ومن المؤسف أنها في جزء منه حسب النمط الاوربي المتبع في الثكنات " ص88
ويهتم مالتسان بالمواقع الاثرية ، ويشير أنه وجد نقش غير معروف وضع فوق باب بالبازار وقد طلي النقش بالكلس ولذلك لم يتمكن من قراءته ورغم ذلك أكتشف فيه بعض حروف أسم ( حضر متوم Hardumetum- ) وهو اسم سوسة القديم ويستدل من ذلك على المدينة القديمة في موضع سوسة كما تمكن مالتسان من زيارة "رباط سوسة" الذي يستعمل الان جامع ،وقد شيده الوالي هرثمة بن أعين 181هجرى ، ويعطى معلومات قيمة عن تاريخ مدينة سوسة القديم ومرفأها وعن أهميتها في التاريخ الكنسي (المسيحى) .
ولا ينسى أن يزودنا بمعلومات ذات أهمية عن الحياة الاجتماعية والاقتصادية في المنطقة ويشير إلى أن الاعتماد كان منصبا على زيت الزيتون ، وأن الاهالي يعانون من فقر نتيجة الضرائب التى تفرضها الدولة ولوقوعهم ضحية المرابين الاوربيين واليهود ، وقد أندهش لوجود نيف واربعمائة سجين في مدينة صغيرة مثل "سوسة" ، ولما استفسر عن سبب هذه الظاهرة علم أن معظم هؤلاء السجناء يمكثون في السجن بسبب مرابي الزيت من الاوربيين .
وتابع مالتسان رحلته فخرج صباح 6 فبراير 1869 من (سوسة) نحو (صفاقس) عبر (الجم) واصفا حقول الزيتون وأحوال الطقس ، وخصوبة الارض التى يمكن ان يجعل منها بسهولة واحدة من مخازن الغلال التى ذاع صيتها في "مقاطعة بيزاكيوم" في العصر القديم ، ويصف دوار ( نجع ) بدوى في خيام عديدة وحالة أهله ، وسهل مزروع جزئيا .
عندما يصل الى الجم يسترسل قلمه في وصف المسرح الدائرى للجم (تسيدروس القديمة ) أعمدته وبوائكه ، ويقارن ما بين ماشاهده في زيارته الاولى 1854وهذه الزيارة 1869 أذ لم يجد سوى 45 بائكة من أصل64 في كل طابق ، واختفاء بعض اثاره ويعطي معلومات فيها بعض التفاصيل عن حالته وعن النقوش الليبية القديمة والعربية ، ويتوصل الى أستنتاج هام " أن لغة الكتابة الليبية ظلت متداولة في الجزء الشمالى من أفريقيا حتى الفتح الاسلامي، ومع الاسلام اختفت تماما. كما هو معلوم – ويقال أنها ظلت ذائعة الصيت لدى الطوارق فقط في اعماق الصحراء في آثارهم الكتابية، ولكن ليس في كتابتهم المعتادة ".
قبل ان يصل ركب الرحالة الى صفاقس يصف منظرا جميلا لارتحال احدى القبائل البدوية التى غيرت مضاربها، ويورد بعض المشاكل التى واجهها، وحياة القبائل البدوية وصراعها وموقف الحكومة التى تتخذ من سياسة فرق تسد وسيلة للتحكم في القبائل والتى لا ترغب برؤية أى اتفاق بينها فذلك يؤدى الى الاضرار بها، يدخل مالتسان إلى مدينة ( صفاقس)، فيصف الحى الاروبي بها، والطباع الخاصة بأهل (صفاقس) المسلمين، ويقوم برحلة الى (هنشير انشيله)، ويتتبع المصادر التاريخية القديمة باحثا عن اسم هذه المدينة القديمة في الفترتين الرومانية والبيزنطية، ويزور "هنشير طينه" ويحاول بالاعتماد ايضا على المصادر القديمة العثور على اسم المدينة الرومانية في هذا الهنشير.
ويحضر مالتسان عرسا عربيا الذى بدأ بأنواع من التسلية عن طريق العزف على الربابة والعود والطارة والدربوكة ورقص بعض الفتيان وقد أرتدوا تنانير نسائية طويلة ... وبعض المشاهد الاخرى ... ثم شاهد نوعا من العرض المسرحى ليس بواسطة عرائس وألعاب الخيال على نسق الكراكوز بل يؤديه أشخاص حقيقيون ، ويعطي وصفا ضافيا عن هذا العرض المسرحى .
تعذر على مالتسان متابعة رحلته عن طريق البر من (صفاقس) الى (قابس) لان المنطقة التى سيجتازها غير آمنة نظرا لنزاعات قبيلة فيها ، فاستقل سفينة نقلته من (صفاقس) الى (جربة) .
يصف الرحالة اجراءات الصعود الى السفينة ، ونزاع الحانبة مع الخليفة (النائب) للحصول على المزيد من التموين ، وتوديعه للحوذي والذي أزعجه غاية الازعاج بمرافقته له ، ويتحدث عن قبطان السفينة وبحارته من أبناء (جربة) ، وعن سير الرحلة البحرية حتى وصوله إلى (جربة) واستقباله من طرف وكيل الباى لشئون الصحة وتاجر ايطالي ، وكان يحمل لكليهما رسائل توصية ، وقاداه الى (حومة السوق) وهى البلدة الرئيسية في الجزيرة حيث وفرت له الاقامة والتى ترض الرحالة .
يورد مالتسان معلومات عن أهالي (جزيرة جربة) أصلهم ولغتهم ، القرية الرئيسية فيها (حومة السوق) ، الطائفة اليهودية بيوتها بيعها ، زيارته إلى (حومة أجيم) ، غابات النخيل ، اللا قبى وكيفية استخراجه ، ولا ينسى مالتسان أن يزور بعض المواقع الأثرية بالمنطقة محاولا التعرف على أسمائها القديمة من خلال المصادر القديمة كما يصف عرسا لأهل جربة . يغادر بعدها جربة بحرا إلى (جرجيس) .
بعد أن يصف مالتسان قرية (جرجيس) ، يبدى رغبته في زيارة الخرائب المعروفة بأسم ( مدينة زيان) ، وهى مدينة أثرية تبعد عن جرجيس الا ان الاخطار كانت جسيمة نتيجة لاضطراب الامن وجسامة المبلغ الذى طلب منه لتأمين الحراسة فتخلى عن مشروعه هذا . الا ان مالتسان لم يستطع اخماد قوة شوقه لمشاهدة آثار هذه المدينة فتمكن من تخفيض قيمة المبلغ المراد دفعه الى مجموعة من الاشخاص نظير توفير الحماية له. وفى طريقه إليها يصف بعض الأطلال الأثرية بالمنطقة ويذكر أن إسم مدينة زيان القديم هو (بونس زينه)الواردة فى قائمة المدن القديمة ثم يورد بعض التفاصيل من خلال المصادر عن المواقع الأثرية بالمنطقة ، وهى معلومات مهمة تفيد الباحثين فى التاريخ القديم لمنطقة شمال أفريقيا.
أقلع الرحالة مالتسان على ظهر سفينة متجها الى طرابلس الغرب بعد أن ألقى نظرة أخيرة على شواطئ تونس هذه البلاد التى تجول فى جميع أرجائها وربما يقول لها كلمة الوداع إلى الأبد.
منطقة الحدود والوصول الى طرابلس :ــ
يتحدث مالتسان عن منطقة الحدود بين ايالتى طرابلس الغرب وتونس ، ويذكر أنها ارض مقفرة أربعة أخماسها متروك دون زراعة ، قليلة السكان ، وهم بدو ، يستهزءون بحكومتى الايالتين ، وهذا ما يلحق الضرر الكبير بممتلكات المسافرين وحياتهم ممن يجرؤن على المرور عبر هذه المنطقة المضطربة ، ويتحدث عن قبائل الحدود وموقف حكام الايالتين منها ، وعن الاحوال الجوية السا ئدة أثناء فترة الرحلة والتى لم تمكنه من الاقتراب من الشاطئ عند منطقة فروة مما جعله يستكمل الرحلة بحرا الى طرابلس.
يصف الرحالة لحظة وصوله إلى "طرابلس" فيذكرأن منظرها" من البحر شاطئ من النخيل ظريف تغطيه غابة تكتظ بأجمل أبناء عالم النبات . وإنها تختلف كثيرا عن أشجار جربة البعيدة عن بعضها البعض ، ها هى تستقبلنا بالابتسامة ، والى جانبها تمتد المدينة الصغيرة البيضاء الوضيئة على اكمتها الصخرية التى تستمر الى داخل البحر . وبين شاطئ النخيل والمدينة يتوسع بإتجاه البر خليج على شكل هلال تفصله عن البحر مجموعة من الصخور ومواضع قليلة العمق , وهذا الخليج كان يشكل مرسى طرابلس ، الذى أطلق عليه بعض الرحالين مرفأ طرابلس وتباينت أراؤهم فى ذلك كثيرا ."(ص.196)
ويستطرد واصفا سوء حالة المرفأ الذى ليس من الصعوبة تحويله الى مرفأ جيد ، والإجراءات المتبعة في الحجر الصحي ، ثم دخوله الى المدينة والاستقبال الذى حظى به لدى القنصل النمساوي والذى استأجر له بيتا كان منذ أسابيع قليلة مسكن اثنين من الرحالة الألمان هما رولفس (1831-1886 ) وناختيغال (1834ــ 1885م) ونظرا لأهمية شخصيات الرحالين ذاتهم فقد ارتفعت مكانة الألمان فى طرابلس ، ولاحظ مالتسان بكل سرور سمعة طيبة لابناء قومه لدى الرأى العام في طرابلس.
يتحدث مالتسان في الفصل الثامن والعشرين عن (مدينة طرابلس)، فيورد بعض التقارير القديمة عنها كتبها رحالون سابقون أمثال الفرنسي CONDAMINE LA لاكوندامين عام 1731 والإنجليزيان ليون (1820) وبيشى ( 1828) ويذكر " ان جميع الرحالين يؤكدون المنظر الرائع لمدينة طرابلس من الخارج، وعلى وجه الخصوص من البحر. أسوار المدينة البيضاء الوضاءة ذات الفرضات والابراج الصغيرة كتلة السراي الخلابة ..... والبيوت القائمة...ذات الطراز المغربي والبعض منها ذو طراز أروبي، إلا أنها جميعا ذات سطوح مستوية، وتعلو من بينها القباب ومآذن الجوامع والزوايا والمدارس على شكل أعمدة. هذه العناصر تشكل كلا تدعه الشمس الافريقية يبتسم. وينعكس على سطح البحر المتوسط الازرق. إنها ولا شك تشكل منظرا أخاذا لا نجده إلا في قليل من مدن الشمال الافريقي". (ص204)
ويصف مالتسان مآذن طرابلس ويقارن بين منظر المآذن المغربية والمآذن المشرقية " فإذا كان منظر المآذن المغربية عن قرب يوفر متعة فنية رفيعة، فإن المآذن الشرقية تبدو عن بعد ذات منظر جذاب، ويزداد جاذبية منظر هذا الاسلوب المعماري في مآذن طرابلس برأسها المدبب، التى تخفف من وطأة منظر البيوت الشرقية ذات السطوح المستوية، وتحسن المنظر برفعة الذوق، دون ان تقع في تطرف زائد وتغدو بالغة الطول والضيق والتدبيب". (ص205 ) وهذا الطراز من المآذن الطرابلسية مستلهم من الطراز العثمانى الذي أثر على العمارة المحلية منذ منتصف القرن السادس عشر.
يتحدث مالتسان عن طبوغرافية مدينة طرابلس قديما وأثناء وجوده بها. فيورد اشارة الرحالة بيشي ورواية الرحالة ليون الافريقي ( محمد حسن الوزان الذي زار طرابلس في سنة 1518م.) والتغيرات التى شهدتها المدينة من انشاء شوارع جديدة، وأبواب، وضاحية وأسواق، وتشييد برج للساعة وابنية عامة جديدة، مدارس، مسلخ عام ، حمامات ، وبئر ارتوازي. . . إلخ كل هذا يجعل المدينة غريبة عن اولئك الذين يقتصرون على دراسة تقارير الرحالين السابقين وهم يسعون للتعرف عليها. إن طرابلس تعتبر مدينة الصحراء . . . ولكن ليست تلك القفراء القاحلة الشاسعة الفقيرة بالواحات والآبار والتى تدعى الصحراء الكبرى، بل تلك البادية الغنية بالواحات ومازال بوسعها ان تنتج محاصيل كثيرة، ويقدر مالتسان عدد سكان طرابلس بأنه لا يزيد عن خمسة عشر حتى ثمانية عشر ألف نسمة، وهذه المجموعة السكانية القليلة تسكن باكتظاط الى جانب بعضها البعض، فبيوت طرابلس تمثل كتلة مترابطة، بل أن معظم ابنيتها تظهر متداخلة تداخلا كبيرا حتى تكاد تختفى معماريا ، لأن الكثير من الشوارع تظللها أعداد كبيرة من الاقواس التى تربط البيت مع البيت المقابل له، وهذا ما يظهر بالطبع في الشوارع الأضيق التى تدعى زنقة.
يتحدث مالتسان عن أهم الشوارع مدينة طرابلس وعن مبنى القلعة (السراى الحمراء) ، وعن الحديقة (بستان الباشا) والسوق ويرصد النشاط التجارى به ورواده وأصناف البضائع المعروضة به وأساليب تعامل التجار، ويشير الى دكانين بيع الدخان التى تنتشر بطرابلس بعدد مدهش بحيث انه لم يعد ينظر إلى كلمة أحد البحارة بأنها مبالغة عندما يقول يوجد لدينا بائعو دخان أكثر من المدخنين . ويضم السوق العديد من المقاهى والفنادق التى تستعمل كمأوى للتجار، وتكوم فيها بضائع بلاد السودان المتنوعة وتباع فى ساحاتها.
يأتى مالتسان إلى وصف بيوت مدينة طرابلس ويذكر انها تشبه إلى حد بعيد البيوت فى تونس ... ويزور بيت يوسف باشا القرمانلي ( الكائن الآن "بشارع الاربع عرصات" – معرض طرابلس التاريخى ) ويملكه أحفاده اثناء فترة زيارة مالتسان 1869 ، ويصف مخططه وزخارفه ، ويعرج على سوق اليهود الذى ربما كان جزءا من (سوق الحرارة) وهوسوق تباع فيه الأقمشة والمنسوجات الحريرية ،فيذكر تفنن اليهود فى ابراز اى طلب رغم أنهم لا ينتجوه وفق الطلب ، وقد راهن مالتسان رجلا مشهورا (يقصد الرحالة رولفس ) ان بوسع اليهود توفير كل شىء ، وتوجها إلى سوق اليهود ، وطلب الرجل علم بروسيا ولكن يا للعجب فلم يجلسا اكثر من ربع ساعة في الدكان ، حاول خلالها اليهودي الماكرأن يختصر بحديثه العذب والسيجارة والقهوة الوقت... حتى أحضر السلع المطلوبة . فقد قام بلمح البصر بخياطته فى دكان مجاور، وكان النسر اشبه ببغاء من بلاد السودان الا انه وضع طائرا اسودا على الحيز الابيض ..." (ص224) ويتميز هذا السوق بأنه مفتوح طوال النهار.
ويصف مالتسان العديد من أحياء المدينة وحارة اليهود ، وحي المالطيين الذى يعد بيئة مغايرة تماما ، فى حى أراد الرحالة أن يدعوه حى المالطيين ، على الرغم أن مثل هذا الحى بهذا غير موجود اذا ما أخدنا ذلك بالمعنى الدقيق . لان المالطيين الذين يمثلون هنا غالبية المسيحيين فى المدينة ، اعتادوا على العيش في كل مكان وحتى بين الاهالى من المسلمين ، كما هو شأنهم فى جميع مدن الشمال الافريقى تقريبا ، اذا ما سمح لهم هؤلاء العيش بينهم كما هو الحال فى طرابلس ... أن حى هؤلاء يقدم صورة مطابقة لبلدة سياحية ايطالية ، ولهذا لا يوجد فيه ما هو طريف للرحالة الاوربي الذى يفتش فى أفريقيا عما هو محلي ، الا أنه ينبغى أن يكون ذا أهمية للرحالة ، اذ يتزود من دكاكينه الكثيرة بالسلع الانجليزية ، والايطالية والمالطية التى يحتاجها الاوربي.
يصف الرحالة مالتسان جوامع مدينة طرابلس وهو يقسمها من الناحية المعماريةإلى: ــ
أولا :- جوامع عثمانية الطابع وهى:ـ
1) جامع أحمد باشا القرمانلي (1738م).
2) جامع سوق الترك وهو جامع محمد باشا شايب العين (1699).
3) جامع سيدى درغوت (1559م).
4) جامع قرجي (1834) .
5) جامع محمود (1680).
6) جامع الخروبة ( القرن الخامس عشر مع اضافة فى فترة تالية ).
7) جامع الدروج ( بداية القرن السادس عشر).
8) جامع سيدى سالم ( أسس الجزء الحديث منه ومئذنته رمضان بن عثمان رايس عام 1670 أما الجزء القديم و ضريح سالم المشاط ( ت. 1493) فيعود على الأرجح الى ما قبل هذا التاريخ ).
وتتميز جميع هذه الجوامع بمآذنها ذات الطابع الشرقى ، على أنه فى بعض الحالات تتخد شكلا معدلا .
ثانيا:- جوامع مغربية الطابع :-
ومآذن هذا النوع تتبع النموذج المغربي القديم المربع الشكل ، وتتوجه فرضات ويحمل زخارف على الجدران الخارجية للمآذن العريضة ، وقد أورد أسماء أربعة منها وهى :-
1) جامع الناقة وبيت الصلاة فيه دون أية زينة ، ومئذنته مربعة ومنخفضة، وموقعه خلف الأسواق.(ص.237). يعد جامع الناقة من أقدم جوامع مدينة طرابلس ويرجح أنه يعود إلى القرن الرابع الهجري، هدمه الاسبان عند إحتلالهم مدينة طرابلس عام 1510 م. وأعاد بناءه الوالي العثماني صفر داي عام 1610م. كما تشير اللوحة الرخامية المثبتة أعلى مدخله.
2) جامع ابن مقيل ، وهو مبنى قديم جدا ويقال أنه توجد كتابات كوفية فى داخله . (ص.237.) وقد اشتهر بهذا الاسم لقيام محمد بن مقيل (ت. 1110هـ / 1698م.) بتولى الإمامة فيه كما ا شتهر هذا الجامع بإسم جامع بن موسى لتولية الإمامة به ، وبجامع كوشة الصفار لوقوعه بشارع يحمل نفس الاسم.أما المؤسس لهذا الجامع فهو عبدالله المكني في نهاية القرن السادس عشر أو بداية القرن السابع عشر.
3) جامع سيدي عطية الفلاح ، ليس بعيدا عن السور الجنوبى الشرقى وهو ذو منارة مربعة قديمة جدا .(ص 238) .وقد أشار الى زاوية عطية الفلاح عبدالسلام بن عثمان فى كتابه الاشارات لما فى طرابلس من مزارات الذى ألفه فى القرن السابع عشر. وقد فتح بالسور المشار اليه فى سنة 1908 بابا عرف باسم (باب الحرية) اسبشارا بعهد الحرية فى عهد جمعية الاتحاد والترقي .
4) جامع العقاب (هكذا ) وربما كان أقدم جامع فى طرابلس الا أنه حاليا فى وضع مهمل تماما .(ص 238).
ويذكر د. غانم فى الحاشية أنه لم يقع على جامع بهذا الاسم كما أنى لم أطلع على جامع بهذا الاسم رغم بحثى فى المصادر والمراجع التى تؤرخ لهذه الفترة. ويشير مالتسان الى أنه يوجد فى طرابلس عدة مدارس ومؤسسات دينية ، يتعلم فقراء المسلمين فيها دروسا دينية هى العلوم الوحيدة التى مازال المسلمون يهتمون بها ، وتعتبر مدرسة عثمان باشا احدى أجمل المدارس ، وتمكن الرحالة من الدخول اليها اثر صدفة مناسبة ، ويعطى وصفا لها وقد أسسها الوالي عثمان باشا الساقزلي (عام 1064هـ / 1654م.)، ويذكر أن المدرسة الرشدية تمثل حالة اسثنائية ، وهى مدرسة أسسها الوالي علي باشا الجزائرلي (1866-1870) ، حيث يدرس فيها بالإضافة الى القرآن اللغتين العثمانية والفارسية ، وهذه المدرسة تمثل احدى التحسنيات المختلفة التى تدين المدينة بها لعقلية الوالي علي باشا الذى كان يتولى امور الولاية أثناء اقامة الرحالة مالتسان فيها ويوضح بعض الاصلاحات التى قام بها كتنوير الشوارع وتبليطها والمسلخ الجديد ، واقنية البحر ، والآبار الارتوازية على أن هذه الاصلاحات تواجهها عدة عوائق ومع ذلك فانها تحظى بكل التقدير من الرحالة ويأمل أن تستمر .
يصف مالتسان قوس النصر الروماني المعروف بقوس ماركوس أوريليوس الواقع الآن "بمنطقة باب البحر" وهو يسخر من رأى الرحالة بيتشي الذى إفترض أن القوس الرباعى الواجهات" قد وجد قبل تأسيس الاستيطان المدني بالمدينة ، والغرض من ذلك ان يجد الصيادون الذين كانوا يرتادون هذه المنطقة المهجورة بين الحين والآخر ، مأوى مؤقتا يقصدونه "(ص. 242). لقد كرس القوس للامبراطورين ماركوس أوريليوس ولوكيوس فيروس وشيد على يد القنصل غايوس أورفيتوس عام 162م.
يبحث الرحالة مالتسان عن اسم المدينة القديم ،( أويا وطرابلس) فالاسم الأخير يبدو أنه يعود لزمن متأخر وقد يعود إلى أواخر القرن الثالث الميلادي، وكان يطلق في العصر القديم على المنطقة التى تضم المدن الثلاث (صبراته ، أويا ، لبدة) . وموضع المدينتين (صبراته ولبدة) معروف منذ زمن قديم ، ويحاول معرفة موقع (مدينة أويا) بالتحديد ، ويعود من أجل ذلك الى المصادر التاريخية القديمة التى تحدد المسافات بين المدن والمواقع ، ويذكرأن " نشأة المدينة تعود الى زمن أقدم من عهد السيطرة الرومانية . . . وأن تأسيس (أويا) على يد الفينيقيين ثابت لدينا من خلال المسكوكات . إننا نمتلك قطعة نقدية نقرأ عليها بوضوح الكتابة الفينيقية اسم ( أويا مدينة مكار ) وبذلك يبرز لنا الأصل الصوري(نسبة لمدينة صور) للمدينة إذ أن مكار هو الإله الرئيسى لدى الصوريين.."(ص.245 ) ويصل الى نتيجة أن (مكارايه) كانت تقع فى موضع (طرابلس) الحالية ، وأن (أويا ومكارايه) هما مدينة واحدة.
طرابلس الحكومـة والشعب :-
تناول الرحالة مالتسان فى الفصل التاسع والعشرين طرابلس الحكومة والشعب ، ويبدأ بمقارنة الأوضاع فى الإيالات الثلاث الجزائر وتونس وطرابلس ، ويعطى بعض التفاصيل عن الاسرة القرمانلية التى حكمت طرابلس من 1771- 1835 وعن كيفية إعادة السلطان العثماني سيادته المباشرة على ولاية طرابلس ، وعن حالة يوسف باشا القرمانلي بعد سقوط حكم أسرته وما يعانيه من فقر ، ومعيشة أفراد الأسرة القرمانلية الذين لم يغادروا طرابلس ، وعن حياة أحمد القرمانلي الذى فر إلى مالطا ثم إتجه إلى تونس بعد سقوط حكم أسرته ومعيشته فى تونس والمعاملة الكريمة التى يتلقاها من حاكم تونس. ويأتى مالتسان بالحديث عن الولاة العثمانيين الذين حكموا طرابلس وكان جميعهم من أصل تركي صميم حتى أنهم لا يفهمون لغة الشعب الذى يحكمونه ، بل يتباهون بعدم معرفتهم إياها . " ان أهالي طرابلس الغرب لديهم أوجه الأسباب للسخط على السيطرة العثمانية ، فالقضاء تسوده الرشوة ، والأوضاع القانونية غير منتظمة والضرائب المفروضة باهضة والطغيان لا يحتمل وعلى الرغم من ذلك فإنهم يتحملون هذا النير ، لأن مضطهدهم يحمل لواء الإسلام ولذلك لا يشعرون أنه من واجبهم أن ينتفضوا لإزاحة هذا النير عن رقابهم." (ص. 269)
يتحدث مالتسان عن الوالي علي باشا واصلاحاته فيذكر انه عربي من الجزائر، أى انه يرتبط بأواصر القربى في الأصل مع الشعب الذى يتولى حكمه، وقد أدخل بعض الاصلاحات في الولاية، وتلك الاصلاحات في بعض الاحيان ليست للتباهي فقط، إذ ينتظر منها جديا أن تحقق منفعة، فقد أمر بحفر آبار ارتوازية. وأدخل تنوير الشوارع وأقام طرقا صحراوية ... إلخ على أن الحال في عهد هذا الوالي أصبح أسوأ في الادارة، وهو شخصيا لا يسلم من التهمة، إذ أصبح بالغ الثروة خلال فترة قصيرة ، وأعمال السلب التى يقوم بها الموظفون الثانويون قد بلغت أوضاعا فاقت أعمال رئيسهم ، وتمكن صهره ، الذي عينه الوالي قائمقاما على قضاء مسلاته ، من أن يجمع ثروة طائلة خلال تسعة أشهر.
ويتناول الرحالة شخصية شيخ البلد علي القرقني وهو عربي تونسي ولد في ط جزيرة قرقنه" وفهم جيدا كيف يكسب ود الباشا الحالى ( علي باشا) إلى جانبه ، كما عرف كيف يكسب ود سلفه بحيث أفسحت له منذ سنوات حرية التصرف في المدينة، وعند تسلمه لمشيخة البلد وهو منصب شرفي لم يعرف عنه أى ثراء إلا انه بعد أن شغله حوالى 12 عاما بدأ في رفاهية مخجلة في بلد فقير، فهو يقيم احتفالات سخية بالمفاهيم الاروبية، ويمتلك باخرة خاصة، وثلاثين بيتا في المدينة ، وحماما عاما، كما يمتلك سوقا. ويتحدث الرحالة عن اختصاصات شيخ البلد، والطرق التى تحايل بها علي القرقني للحصول على الأموال والممتلكات، وهو بمقدرته واشقاءه واعوانه يتواجد في كل مكان، وقد زاره الرحالة في منزله زيارة مجاملة وكان هذا المنزل يتكون من نيف وستة بيوت وجميعها تم شراؤها من ضحايا تعيسين وبالأحرى سلبت ، جعل منها الشيخ بناء واحدا منسقا لأن عدد حريمه كبير، إضافة إلى أفراد أسرته وأقاربه وإمائه يحتاجون إلى مكان فسيح، أن علي القرقني لم يستطع ان يجعل من هذا المبنى الكبير شيئا ينم عن ذوق رفيع. ويصف البيت ومخططه وأثاثه ( البيت الآن خرابة تتوسط شارع "قوس الصرارعي" بطرابلس القديمة ) كما يعطى أوصافا لعلي نفسه، وحريمه الشركسيات.
يشير مالتسان إلى أن الوالي علي باشا رأى ان يؤسس مستوطنتين ( بمبة وطبرق )، وتبنى هذا المخطط مع أصدقائه، ولم يكن السبب في ذلك لأنه يتلائم مع طموحه، بل لأنه أرضية ذهبية أيضا... سبيل لاغتناء الباشا والمعين والدفتردار وشيخ البلد وجميع عصابة الأعيان المتطلعين إلى أعمال السلب المسيطرة على مقدرات هذه الولاية ."( ص289) ويوضح مالتسان الطرق التى شجع بها الناس للاستيطان بهما.
ويعرج الرحالة على أحد المخططات الاصلاحية لباشا طرابلس علي الجزائرلي ، وهو استحداث مؤسسة المصرف العمومى لولاية طرابلس ، ويطرح سؤالا وهو هل تتطلب تجارة التجار المسلمين الضئيلة الأيلين الى الفقر –المصرف للمسلمين فقط – مثل هذا المصرف ؟ ويجيب عن ذلك التساؤل بأن المصرف لم يحدث من أجل التجار ورجال الاعمال . وهدفه الوحيد ذو نمط شرقي حقيقي . بحيث يدفع المتقدمون إلى وظائف الدولة مبالغ الرشوة التى يؤدونها للحصول على وظائفهم ، وتؤول الى الباشا ... ولمجموع العصابة الرسمية . (ص291)
تمكن الباشا من الحصول على رأس مال للمصرف وذلك بأن يقوم كل ضابط كبير أو صغير وكل موظف كبير أوصغير فى ولايته بدفع مرتب شهرين ... وترتب على ذلك أن يغرقوا جميعا فى ديون مدمرة لا يستطيعون أن يتخلصوا منها طيلة حياتهم ... الخ.
ويأتى الرحالة مالتسان للحديث عن كبار الموظفين ومنهم المعين (المساعد) والدفتردار اللذين يأتى ترتيبهما في السلم الإداري ما بين الباشا وشيخ البلد ولكنهما فى الحقيقة يليانه من حيث النفوذ . ويقوم الرحالة بزيارة الى المهندس مصار بك الذى أثنى عليه فالرجل ذكى وطموح إلا أنه يضيع فى البيروقراطية العثمانية اذ يجد أمامه موانع فى ضيق أفق الاتراك الاقحاح ، والمهندس مصار بك ليس متحمسا اطلاقا لنجاح خطط الباشا الاصلاحية انه (الباشا) لايستطيع أن يسمع من يتكلم عن المستوطنات الجديدة فى بمبه وطبرق دون أن يثير غضبه . وحسب رأى المهندس فان تأسيس المستوطنات لا يمثل سوى تضحية جماعية بحياة الناس فلا توجد فى المركزين نقطة ماء صالح للشرب ، والمواشى لن تجد عشبا ترعاه ، والمهندس مصار بك يراقب هذه المهمة برعب إذ أنها ستسند إليه دون شك إلا أن النتيجة لن تكون سوى ما ذكر أعلاه.
أحوال المجتمع :ــ
يتناول مالتسان أحوال المجتمع ، ويذكر أن الشعب يعانى ويتجمل بالصبر وهم يسلبونه . ولايحظى بشئ من الراحة من بين مواطنى طرابلس سوى اولئك الذين ما لبثوا يتوددون إلى شيخ البلد النافذ بالتزلف الصارخ والهدايا النقدية المحسوبة بعناية .(ص299).
فى هذه البلاد لا توجد طبقة ثرية على أساس ملكية وراثية . . . والطبقة الوحيدة الثرية تتمثل فى الموظفين وتتألف بمعظمها من الاتراك الاقحاح . والطبقة التى تتمتع بداوم الاحترام عند المسلمين هم أصحاب الوظائف الدينية مثل المفتي والقاضي والإمام . . . الخ .
ويتحدث الرحالة عن أوضاع الدراويش والطرق الصوفية والفقهآء والفداوية وهم الذين يحكون القصص إنهم مهاجرون من المغرب وتتسم حكايتهم باجمعها بالطابع الدينى وهذا يعنى أنها ذات أتجاه تعصبى الاسلامى ، وعادة ما يمثل دور الجاحد رومى لعين (نصرانى) أو يهودى كافر ، ويكاد مسلم أن يقع ضحية لهما ، ويظل هذا الخطر محدقا به إلى أن ينقذه بالطبع مرابط من أهل الكرامات من براثنهما .
يصف مالتسان اللباس فى طرابلس ؛ ملابس الرجال والنساء ، ويتحدث عن أوضاع السود فيها والذين اتى معظمهم عن طريق قوافل الرقيق رغم أن تجارة الرقيق قد منعت رسميا تحت ضغط القوى الاوربية الكبرى خاصة انجلترا وإن هذه التجارة مازالت قائمة الا أن الضغط قد خفف من قساوة مصير هؤلاء الارقاء مما كان عليه فى السابق، ويتابع الرحالة الحديث عن أوضاع سكان طرابلس فيذكر أن هناك هجرة جماعية جزائرية إلى طرابلس إثر الاحتلال الفرنسى للجزائر عام 1830 ويشكل الجزائريون نسبة كبيرة لعدد سكان طرابلس وتزوجت بناتهم من الاتراك القورغلية وهكذا كان أصهارهم غالبا من ذوى الثراء الذين لايستهان بهم ، ويعتبر الجزائريون فى صفاتهم الأخلاقية الأفضل بين المسلمين من أهالى طرابلس فهم يتسمون بالنبل الواضح . . . معتدلون وشرفاء وعفيفون ومخلصون . . . طيبو المعشر ظرفاء.( ص.323)
أما الجرابة وهم المهاجرون من جزيرة جربة بسبب معاناتهم من ضغوط الحكومة التونسية فهم يمتلكون جميع الدكاكين الجيدة فى الأسواق تقريبا ويتبعون الوكيل خاص بهم وهو يستغلهم بقدر ما يستطيع . وقد تقلد هذه الوظيفة فى ربيع 1869 صادق بن علي قاسم الذى شغل فى السابق وظيفة الوكيل . . وتسلم وظيفة خليفة ( أى نائب حاكم ) فى الجزيرة واستغل مواطنيه من هذا الموقع وثابر على ذلك إلى أن أخذت منه ، وبعد ذلك عاد إلى طرابلس ويزعم أنه أحضر معه ثلات سفن حمل عليها مسروقاته . لاشك أن تونس طلبت تسليمه إلا أن ذلك لم يحصل لأنه عرف كيف يرسخ علاقاته مع المسؤلين في طرابلس بطريق الرشوة المعتادة . وهكذا فإن أبن علي قاسم يتجول بعربته الرسمية فى طرابلس ويرهق أبناء بلده كما يحلو له . ويستمر الرحالة فى وصف أوضاع سكان طرابلس ، الأتراك والقورغلية واليهود والمالطيون والأوربيون .
الرحلة إلى آثار صبراته :
إن المسافة بين ( أويا وصبراته )، والتى تحددها جداول بوتينغر ، هى تسعة وأربعين ميلا تطابق تماما المسافة بين طرابلس والبلدة المعروفة باسم (زواغة) والتى تعتبر مطابقة لموقع آثار صبراته القديمة ، وقد قطع الرحالة مالتسان هذه المسافة خلال فترة طويلة نسبية وهى ستة أيام ، ويعزو ذلك لإستخدامه للجمال في رحلته إذ أن أصحابها الذين رافقوه لا يمتلكون براعة أبناء الصحراء فى شد الحمل على ظهر الجمل شدا يجعله ثابتا . لذلك فكثير ما كانت الامتعة تتفكك ويضطر الراكب للتوقف وإعادة شد الامتعة إضافة إلى وقوع بعض الحوادث الصغيرة مما جعل الرحلة تتطلب ستة أيام ولو إتخد مركوبا غير الجمال لقطع المسافة فى ثلاثة أيام.
غادر الرحالة مع مرافقيه طرابلس فى 12\4\1869 عبر باب المنشية وسار بإتجاه الغرب مباشرة ، إلى أن وصل قصر قرقارش ويصفه بأنه ذو منظر معمارى أوربى لكنه لا يعود إلى العصر القديم بل إلى العهد الاسبانى ، بدون شك لانهم بناة الحصون البحرية فى طرابلس وعلى مقربة من هذا الحصن توجد مغارة عميقة في الصخر الكسلى لم يشاهد فيها الرحالة أية آثار حقيقة لموضع التوابيت، ويواصل مسيرة إلى أن يصل (واحة جنزور) وهى تتكون من بيوت مبعثرة تتوزع على بساتين النخيل. وجميع البيوت تقريبا بسيطة ، مبنية من اللبن، وبها مركز صغير فيه مجموعة من البيوت والدكاكين وجامع . انه كل مترابط يمثل مركز الواحة ولو أنه لا يتركز هنا جميع التعامل، بل يجرى أيضا قرب القصر (الحصن) الذى يعتبر أحد مراكزه . ويذكر مالتسان أن جداول بوتينغر تشير إلى موقعين أثريين على الطريق بين أويا وزواغة (صبراته) وهى تذكر اسما لا يصعب مطابقته مع جنزور الحالية وهو إنزارية وهو يقترح المطابقة بين الاسمين أى أن (جنزور) هى (إنزارية) أو (أزاريا)الواردة في جداول بوتينغر القديمة.
يصف الرحالة إستقباله من طرف المدير فى (جنزور) وقاعة المحكمة وطريقة تداولها فى القضايا المعروضة عليها . وزيارته رفقة المدير إلى السوق وأنواع التسلية به وذلك بواسطة مشعوذ مغربى بالثعابين . يواصل في اليوم التالى الرحلة حيث قطع ثلاثة أميال فقط ليصل إلى الزاوية وجد قصرا خرب فى وسط غابة النخيل تتبعثر فيها بيوت فلاحى القرية.
إستقبل الرحالة من طرف القائد الذى أعلمه أنه ينتظره منذ شهور وأنه أرسل حرسا من عشرين شخصا منذ شهور إلى الحدود التونسية لاستقباله ، وأقام هؤلاء فى الحصن قرب مصيف (جزيرة فروة) إلا أن رايس السفينة الشراعية التى نقلته من جربة إلى طرابلس لم يلب رغبته فى النزول لانه كان يعتقد ان مسألة النزول مسألة كلام بكلام . وقد وجد مالتسان مفرزة الحرس مع قائدهم الذى أبدى أسفه لعدم مرافقته إياه من الحصن الذى بالقرب من فروة . وبعد ان بات ليلته فى منزل شخص يقوم بمهمة جلاد وهو أرفع شخصية فى الزاوية بعد القائد ، ويقع منزله في حارة اليهود وكان المسلم الوحيد وسطهم.
واصل الركب رحلته فى صباح اليوم التالى وبعد أربع ساعات أطلت أطلال مدينة قديمة . لقد بلغ مالتسان الأثار الكبيرة بعد ساعة ونصف من السير وذلك على الجانب الغربى حيث السور الهائل الذي يحمي المدينة، وتظهر بوضوح أساسات هذا السور ولا تعلو بعض الجدران بارتفاع قدم من الارض . . . كما وجدت أساسات العديد من البيوت ومعبد وصهاريج ومسرح ويمكن تتبع آثارها جزئيا . . . إن الاتساع الكبير لاسوار المدينة يثبت أن المستوطنة الفينيقية كانت تقع هنا ، وأنها أصبحت فيما بعد مدينة رومانية لا تبزها فى الاهمية سوى لبدة الكبرى ، وهذه المدينة كانت ولاشك ( صبراته) . وقد إشتهرت هذه المدينة وعرفت بأنها البلدة التى ولدت فيها فلافياد دوميتيللا زوجة الإمبراطور الروماني فسباسيان ووالدة الامبراطور تيتوس وعلى الأغلب أنها رفعت وقتئذ إلى مرتبة مستعمرة. وفي عهد الوندال فقدت أسوارها ومكانتها الإقتصادية . وفي الفترة البيزنطية، وتحديدا في عهد الإمبراطور جستنيان (527- 565م.) تم بناء سور جديد حولها ونتيجة لذلك تقلصت مساحتها ، وبنى بها كنيسة رائعة ، أرضيتها من الفسيفساء الجميلة ،أكتشفت عام 1934 وهى معروضة الآن بمتحف صبراته الأثري.
لا يعرف على وجه التحديد متى أنتهت صبراته كمدينة ، يبدو أنها ظلت بعد الفتح العربى بفترة طويلة مدينة أهلة ، أى بعد أن فتحها عمرو بن العاص عام 22 هو فالبكري يذكرها بإسم ( صبره) ،وفي القرن الحادى عشر كانت مدينة كثيرة السكان ، وقد وصف السوق الكبير الذى كان يعقد فيها ثم هجرت تدريجيا. ويشير ماتينغلي في كتابه " منطقة طرابلس فى العهد الروماني " أن مدينة صبراته لم يكن لها " فى صفحات المؤرخين القدامى والجغرافيين سوى ذكر ضئيل ، وإننا نعول على المكتشفات من النقوش والأثار القديمة فى استعادتنا لتاريخها . لقد هجر موقع البلدة القديمة فى مرحلة ما مبكرة من الحقبة الإسلامية."(1) وظلت صبراته منذ نشأتها على يد الفينيقيين كمركز تجاري( أمبوريا) تتمتع بمكانة مهمة فى التجارة البحرية بفضل مرفأها وموقعها الممتاز طيلة الفترتين الفينيقية والرومانية. وبعد أن هجرت غطتها الرمال واستغل الأهالي موقعها في الزراعة والرعى إلى أوائل العشرينيات من القرن العشرين فبدأت أعمال التنقيب بها وتم الكشف عن الكثير من معالمها وضمت في عام 1982م .إلى قائمة التراث العالمي من قبل المنظمة الدولية للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو).
إن هذه الرحلة التى قام بها الرحالة الألماني البارون هينريش فون مالتسان عام 1869 إلى( أيالتى طرابلس وتونس) تعد من أهم الرحلات فى النصف الثاني من القرن التاسع عشر ، إذ أن صاحبها يتميز بثقافة واسعة ومكنته اللغة العربية التى تعلمها من الاحتكاك مباشرة مع الأهالى دون الحاجة إلى مترجم إضافة إلى الثروة التى ورثها عن والده وشغفه بالعلم والمعرفة واهتمامه بعالم الرحلة أن يقدم لنا مجموعة من كتب الرحلات التى تمتاز بروعة الاسلوب ودقة التفاصيل وتدل على سعة ثقافته و إطلاعه على المصادر التاريخية والأثرية القديمة.
لقد قام د.عماد الدين غـانم بدراسة وترجمة الرحلة متتبعا نشأة الرحالة دارسا كتبه ومقالاته فأعطى تعريفا شاملا عنه ، كما بذل جهدا كبيرا فى ترجمة الكتاب محاولا إظهار الترجمة مقاربة لنصها الأصلى مع أعطاء بعض الشروح والقيام بالتعليقات الضرورية.
وأسهم مركز جهاد الليبيين للدراسات التاريخية بنشر هذا الكتاب بجهد مشكور فى إستجلاء تاريخ طرابلس في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ، وأثرى المكتبة التاريخية الليبية بعمل قيم يغطى فترة تاريخية بدأت فيها بوادر الاصلاح فى الدولة العثمانية وانعكست ، ولو جزئيا ،على الولايات التابعة لها.
* السباهيه : الفرسان . وهى محرفة من التركية سباهي : فارس.
1) د.ج. ماتنينغلي.منطقة طرابلس في العهد الروماني. ترجمة د.محمد الطاهرالجراري ،د.محمد الهادي حيدر. الجماهيرية العظمي : المركزالوطني للمحفوظات والدراسات التاريخية .2009م. ص.316