التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الحرفية .. ناموس القيم



د. مصطفى  المزوغي

نعم .. الحرفية دون غيرها مفتاح الارتقاء بالحياة العمرانية في بلادنا .. الحرفية هنا هو أن يتم صنع أشياؤنا بمهنية عالية وصدق وتفان واخلاص، ذلك يشمل ملاعقنا وحتى مدننا. لقد فعل غول الارتزاق فعلته، ودفع بكل حرفي فنان متمكن ينزوي في ركن لا تدركه الأضواء. نحن لا نندهش من الأخرين في ما تعارفنا على تسميته بالغرب بل ما يدهشنا إتقانهم وحرفيتهم في صنع اشياؤهم وعمرانهم، ونعتقد أنه احد الأسرار التي يقفلون عليها في خزائنهم ويضعون آلاف الحراس متناسين حقا أن تقاليد الحرفية وحدها سبب كل ذلك، فلقد  كانت هناك منذ قرون تماما كما كان حالها في ربوعنا، إلا أنهم تنافسوا على حمايتها لأنها تحمل في طياتها قيم موروثة شكلت ناموس لا يقبل المساومة لكل من يرغب في العيش بذلك الوسط العمراني وأشياؤه !!

ما الذي فعلناه نحن بنواميسنا، العبث طالها شيئا فشيئا، حتى صارت عبئاً على الناس في القبول بها فانحدرت القيم وتدنت ليكون العمران وأشياؤه يحمل في طياته تقاليد غريبة تحمل في باطنها كل شيء إلا القيم.

في طفولتي لا زالت النظرة الحانية التي كان يرمقني بها رغم صرامة وعبوس ملامح وجهه الخطاط صبري في دكانه بجنان النوار وانا اقف على عتبة دكانه مفتونا برحيله وخطوطه الساحرة .. من لم تشده الصفحات الأولى لصحف طرابلس الغرب والرائد والحرية والحقيقة والبلاغ وغيرها من جرائد خمسينيات وستينيات القرن الماضي وهي تتباهى بلمسات خطوط صبري وساسي والنعاس وغيرهم، في عناوينها الرئيسية.. أين أصبحت عناوين الصحف الرئيسية اليوم ؟ وكيف هو حالها ؟.. لقد فعل الكمبيوتر فعلته ليحط بهذه القيم وتصبح خطوطا بلاستيكية جامدة لا تملك أي من قيم أولئك الرجال .

أين أولئك الحرفيين في نسج الأردية ؟ وتنافس ابتكار موضة الموسم من الخطوط، فكم كان سوق اللفة مسرحا للتنافسية الحرفية، وكم كان ذلك الحرفي بإطلالته يحمل عنوانا لقيم مجتمع يأبى أن يرتدى سوى ما نصت عليه نواميس الأزياء وقيمها .

          افتقد ذلك الخيط الذي غزله عمى محمد بن سعيدان من القطن كي استغنى على خيط “السباولو” لأنه متين وفاعل للعب بما تعارفنا على تسميته “الزربوط” وأطلقنا عليه تسميات عديدة .. اليوم أصبح “الزربوط بلاستيكيا وليس بحاجة الى خيوط عمي بن سعيدان وتلك القيم..

همس الأستاذ على قانه (رحمه الله) بأنه يجب علينا اللحاق بالشيخ الزناتي لنقش السوار وهي حلية ذهبية ، فأخذ بيدي لشراء “السوار ” من شركة الذهب والمعادن الثمينة لنتجرع مرارة احتضار الحرفية لدى صناع وأسطوات الذهب والفضة، فما كان من استأذنا الشيخ إلاّ أن يصهر ما اشتريته ويعيد صنعه بحرفية، ولن تختفي من ذاكرتي ابتسامة السعادة والحبور التي كانت على وجه الأستاذ علي لأن يرى أن درس الحرفية قائم وأن ناموس الصناعة قائم .. إلاّ أنه اليوم رحل كل منهما الأستاذ والشيخ  ورحل معهما ناموس الحرفية والقيم.
من منا لم يفتنه العمران التقليدي المحلي .. أبوابه نوافذه تفاصيله حتى الزائر من وراء البحار يقف احتراما له، وحده ناموس الحرفية والاتقان ما يجعل هذا العمران استثناء الأجيال ..  لماذا إذن يختفى كل هذا في عمران اليوم وأشياؤه لماذا نتحالف ضد القيم لماذا نتدنى بجماليات كانت لدينا ..؟ 

الارتزاق عنوان العصر، فالمعلم اختفى برسالته، والأسطى انزوى بأسرار صنعته، والمصمم رحل بأفكاره، فجميعهم لن يضيرهم العيش في عزلة من عصر فقد ناموسه، وأفلس من قيمه وأضحى عنوان كل من ينشد الارتزاق.

في صحوة الألفية، ، هل يعود المعلم والأسطى والمصمم ؟

هل يملك الجيل الشاب  الصبر والطاعة الكفيلة  بمسح الغبار عن التقاليد وإعادتها للحياة من جديد؟


فلن يقوم عمران ويمتلك عنوان حضاري بدون ناموس للقيم.


تعليقات

  1. الهوية العمرانية المحلية التي تعبر عن الشخصية المحلية وتعكس مفهوم الموروث الحضاري للمجتمع ، هي اساس العمران الحديث ... مشكور جدا دكتورمصطفى .

    ردحذف
  2. الهوية العمرانية المحلية التي تعبر عن الشخصية المحلية وتعكس مفهوم الموروث الحضاري والثقافي للمجتمع ... هي اساس العمران الحديث ....
    كل الشكر والتقدير للاستاذ الفاضل الدكتور مصطفى المزوغي .

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

التهوية الطبيعية في المباني

م/ آمنه العجيلى تنتوش المقدمة تتوقف الراحة الفسيولوجية للإنسان على الثأتير الشامل لعدة عوامل ومنها العوامل المناخية مثل درجة الحرارة والرطوبة وحركة الهواء والإشعاع الشمسي . وللتهوية داخل المبنى أهمية كبيرة وتعتبر إحدى العناصر الرئيسية في المناخ ونق الانطلاق في تصميم المباني وارتباطها المباشر معها فالتهوية والتبريد الطبيعيين مهمان ودورهما كبير في تخفيف وطأة الحر ودرجات الحرارة الشديدة ، بل هما المخرج الرئيسي لأزمة الاستهلاك في الطاقة إلى حد كبير لأن أزمة الاستهلاك في الطاقة مردها التكييف الميكانيكي والاعتماد عليه كبير والذي نريده فراغات تتفاعل مع هذه المتغيرات المناخية أي نريد أن نلمس نسمة هواء الصيف العليلة تنساب في دورنا ومبانينا ونريد الاستفادة من الهواء وتحريكه داخل بيئتنا المشيدة لإزاحة التراكم الحراري وتعويضه بزخات من التيارات الهوائية المتحركة المنعشة . فكل شي طبيعي عادة جميل وتتقبله النفس وترتاح له فضلا عن مزاياه الوظيفية . وعلى المعماري كمبدأ منطقي عام البدء بتوفير الراحة طبيعياً ومعمارياً كلما أمكن ذلك ومن تم استكملها بالوسائل الصناعية لتحقيق أكبر قدر ممكن ...

بيوت الحضر: رؤ ية معاصرة للمسكن الطرابلسي التقليدي

تصميم وعرض/ جمال الهمالي اللافي في هذا العرض نقدم محاولة لا زالت قيد الدراسة، لثلاثة نماذج سكنية تستلهم من البيت الطرابلسي التقليدي قيمه الفكرية والاجتماعية والمعمارية والجمالية، والتي اعتمدت على مراعاة عدة اعتبارات اهتم بها البيت التقليدي وتميزت بها مدينة طرابلس القديمة شأنها في ذلك شأن كل المدن العربية والإسلامية التقليدية وهي: · الاعتبار المناخي. · الاعتبار الاجتماعي ( الخصوصية السمعية والبصرية/ الفصل بين الرجال والنساء). · اعتبارات الهوية الإسلامية والثقافة المحلية. أولا/ الاعتبار المناخي: تم مراعاة هذا الاعتبار من خلال إعادة صياغة لعلاقة الكتلة بمساحة الأرض المخصصة للبناء، بحيث تمتد هذه الكتلة على كامل المساحة بما فيها الشارع، والاعتماد على فكرة اتجاه المبنى إلى الداخل، وانفتاحه على الأفنية الداخلية، دون اعتبار لفكرة الردود التي تفرضها قوانين المباني المعتمدة كشرط من شروط البناء( التي تتنافى شروطها مع عوامل المناخ السائد في منطقتنا ). وتعتبر فكرة الكتل المتلاصقة معالجة مناخية تقليدية، أصبح الساكن أحوج إليها من ذي قبل بعد الاستغناء عن البنا...

المعلم/ علي سعيد قانة

موسوعة الفن التشكيلي في ليبيا 1936- 2006 جمال الهمالي اللافي الفنان التشكيلي" علي سعيد قانة " هو أبرز الفنانين التشكيليين الذين عرفتهم الساحة التشكيلية في ليبيا... انخرط في هذا المجال منذ نحو أربعة عقود. ولد بمدينة طرابلس الموافق 6/6/1936 ف ترعرع في منطقة سيدي سالم (باب البحر) بمدينة طرابلس القديمة.والتحق بأكاديمية الفنون الجميلة بروما- إيطاليا سنة 1957 وتخصص في مجال النحت بمدرسة سان جاكومو للفنون الزخرفية، كما حرص خلال وجوده في روما على دعم قدراته الفنية من خلال دورات تخصصية في مجال الرسم الحر والطباعة والسباكة وبرز في هذه المجالات جميعا.• التحق عند عودته إلى ارض الوطن بمعهد للمعلمين ( ابن منظور ) للتدريس سنة 1964ف• انتقل للتدريس بكلية التربية جامعة الفاتح سنة1973 ف• انضم إلى كلية الهندسة/ جامعة الفاتح بقسم العمارة والتخطيط العمراني سنة 1974- وتولى تدريس أسس التصميم و الرسم الحر لغاية تقاعده سنة 2001 ف• عمل مستشارا للشئون الفنية بمشروع تنظيم وإدارة المدينة القديمة. مساهماته الفنية/ اقتنى متحف مدينة باري للفنون بإيطاليا لوحتين من أعماله الفني...