نماذج من العمارة الإسلامية |
جمال اللافي
عمارة التجسيم أو فنون التجسيم لا فرق بينهما. وهذا النوع من العمارة
والتصاميم المرتبطة بعناصر التأثيث والمستعملات والزخرفة أصبح رائجا بصورة ملفتة
للنظر خلال العقدين الماضيين ولا يزال حتى يومنا هذا يحضى باهتمام المعماريين
والمصممين والنحاتين والرسامين والساسة ووسائل الإعلام ودور الثقافة المختلفة التي
تدعم هذا التوجه.
في العمارة التاريخية بمدارسها المتنوعة تظهر مسألة التجسيم في العمارة
من خلال تطعيمها بمنحوتات تجسد الإنسان والحيوانات والطيور والحشرات. أما العمارة
نفسها فاحتفظت بخصائصها الهندسية التي تعتمد على توظيف الأشكال العظمى الصريحة
(المكعب والدائرة والهرم) في تشكيلها. وعلى اعتماد الخطوط المستقيمة الرأسية
والأفقية في هيكلها الإنشائي مع تطعيم البوابات والمداخل وفتحات النوافذ بالخطوط
المائلة على شكل هرمي أو مثلث أو المنحنية على شكل قوس أو نصف قوس كعنصر إنشائي
وجمالي. في حين تلاشى هذا التجسيم للبشر والكائنات الحية ودخل في بند التحريم مع
ظهور الإسلام، فاتجهت العمارة إلى تعويض ذلك بالإطناب في تفاصل العمارة وتكسية
حوائطها بالخط العربي والزخارف الهندسية والأشكال النباتية التجريدية. مع الاحتفاظ
بالخصائص الإنشائية ومواد البناء نفسها.
نماذج من العمارة التاريخية |
ثم اختفت هذه الظاهرة بصورة ملفتة للنظر في العمارة المعاصرة (أواخر
القرن التاسع عشر حتى منتصف الستينيات من القرن العشرين)، التي اعتمدت مبدأ التجريد
والبساطة والبعد عن جميع أنوع التجسيم والزخرفة في كسوة أو تغطية حوائط وواجهات
المبانى. واعتمدت على مبدأ صراحة التعبير عن مادة البناء الأصلية. بالإضافة
لاحترامها لقاعدة اعتماد الخطوط المستقيمة الرأسية والأفقية كعنصر إنشائي.
نماذج من عمارة الحداثة |
في حين بدأ الاتجاه إلى العودة للتجسيم ولكن في أبعاد غير إنسانية
(ضخمة) يطال عمارته نفسها بعد ظهور نظرية التفكيك على يد منظرها الفيلسوف الفرنسي
جاك دريدا ( منتصف الستينيات حتى الوقت الحاضر)، التي تعتمد على إعلاء مبدأ
اللاعقلانية والتحلل من أي التزام أخلاقي تجاه كل القيم والنظم والضوابط التي تحكم
العلاقة بين الإنسان وخالقه وبينه وبين محيطه البيئي والاجتماعي
و"الاقتصادي". وذلك بتحطيم المتعارف والمتفق عليه من النظم والقواعد
والضوابط والقيم والتعرض لكل المعتقدات الدينية والأخلاقية بتحطيم المقدس منها
وأنسنته وتعريضه للتفكيك والتشكيك والامتهان والرفض والإقصاء. فأصبحت تتماهي بشكل
كبير جدا مع مسألة التجسيم بحيث تحولت العمارة نفسها إلى تجسيد كامل لعناصر
الطبيعة المختلفة كالجبال والصخور والأعاصير والنيران مثلا أو لبعض الكائنات الحية
كجسد الإنسان أو الحشرات والزهور، بالإضافة لتجسيدها لأشكال أدوات ومستعملات
حياتية كمقدمة سيارة أو قطعة آلة أو سلة فواكه أو غيرها من أشكال التجسيم التي رغم
كونها حققت حالة إبهار سلب الألباب من خلال توظيفها للتقنية المتقدمة إلاّ أنها لم
تحمل معها أي قيمة تعبيرية لها دلالات فكرية أو ثقافية يمكن فهمها أو استيعابها
وبالتالي تقييمها. وفي المقابل حطمت كل القواعد والنظم الإنشائية المتعارف عليها،
باستخدامها لمواد أكثر مرونة في التشكل طوعا لشكل المبنى وحالته الإنشائية، بإسراف
شديد في تنفيذ هذه العناصر بميزانيات ضخمة تكفي لتغطية احتياجات العديد من الدول
الفقيرة لعدة عقود في جميع مجالات التنمية والتأهيل.
نماذج من عمارة التفكيك |
على الرغم من ذلك نجد من يتعاطف مع هذه التوجهات في العمارة المعتمدة
على التجسيم استنادا لكونها تخضع لنسب الجمال والتناسق والانسجام (وهنا تكمن
خطورتها في تشكيل رأي عام منحاز لها). ويتفاوت هذا التفاعل تبعا لقوة عقيدة
المعتنقين لها ومدى إدراكهم ووعيهم أو قابليتهم للتأثر بوسائل الإعلام والتعليم
المسوقة لهذا التوجه.
هذا يصل بنا إلى نقطة مهمة جدا وهي أن اتجاه الانسان لتجسيم عناصر
الطبيعة أو للكائنات الحية سواء في عمارته التاريخية أو الراهنة يمثل في حقيقته
انعكاسا صريحا لحالة انتكاسة عايشها في مراحل سابقة ويعيشها اليوم مرتبطة بانحراف
عقائدي في العلاقة بين الإنسان وخالقه سبحانه وتعالى كمعبود مستحق للعبادة وحده.
لهذا لجأ هذا الإنسان في الماضي عندما انحرف عن الفطرة السوية بعبادته للأوثان
بعمارته وفنونه إلى تجسيم معبوده على أشكال تماثيل (أصنام) لبشر أو كائنات حية
وتوزيعها داخل المحيط العمراني والمعماري. وعندما استعاد هذا الإنسان علاقته
السوية مع خالقه اتجهت عمارته وفنونه إلى النأي بنفسها عن التجسيم والتصوير لكل
اشكال الكائنات الحية والاكتفاء بتجريد الأشكال النباتية والتعاطي مع الخط العربي
والأشكال الهندسية بصورة كبيرة.
من هنا نخلص إلى حقيقة مفادها، أن الإنسان يلجأ للتجسيم في عمارته
وفنونه كلما اختلت علاقته بخالقه وانحرفت فطرته السوية عن مسارها. وفي المقابل
يبتعد عن التجسيم كلما توثقت علاقته بخالقه فيلجأ إلى الأشكال الهندسية العظمى
والتجريد في صياغة عمارته وفنونه بتنوع أشكالها وأغراضها.
وهذا يجرنا إلى التشديد على خطورة مؤسسات التعليم ووسائل الإعلام
المختلفة في تشكيل رأي عام ينحاز لمثل هذه الاتجاهات ويعتقد في جدارتها واستحقاقها
للظهور كمنجزات معمارية ومدارس فنية لا تعترف بالمنطق ولا بالقيم ولا بالجدوى ولا
بالأهلية.
مصدر الصور:
https://www.pinterest.com/
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق