![]() |
منطقة كوشة الصفار بمدينة طرابلس القديمة |
جمال الهمالي اللافي
غالباً ما تُمثل
المدن القديمة بشوارعها الضيقة والمتفرعة للغريب مصدر تهديد وشعور بعدم الأمان.
هذا ما اختبرته شخصياً عند محاولتي دخولها لأول مرة. كانت أزقة طرابلس القديمة،
التي تبدو وكأنها متاهة لا نهاية لها، تثير في نفسي شعوراً بالرهبة، وكأنها ترفض
الغرباء. لكن هذا الشعور بدأ يتبدد تدريجياً، ليحل محله فهم عميق وتقدير كبير.
تحول
الإدراك: من الرهبة إلى الألفة
تحول إدراكي هذا
لم يأتِ من فراغ. ففي بداية التسعينيات، سنحت لي الفرصة للعمل في مشروع تنظيم
وإدارة المدينة القديمة بطرابلس. كانت إحدى أولى خطواتنا في المشروع هي جولة
جماعية بين دروبها وأزقتها. تلك الجولة لم تكن مجرد استكشاف بصري، بل كانت تجربة
حسية غيرت نظرتي تماماً. زال شعور التهديد أو الإحساس بعدم الأمان، وحلت محله
الألفة. أصبحت أتغلغل في أعماقها وحيداً، وأدخل بيوتها بعد الاستئذان المسبق من
أهلها بيوم واحد، دون أن يخالجني ذاك الشعور المريب. لقد أصبحت هذه الأزقة، التي
كانت في البداية تبدو معادية، بمثابة امتداد لبيتي، وأهلها امتداداً لأهلي.
المدن
القديمة: الحميمية والخصوصية المتأصلة
تُجسد المدن
القديمة، بتصميمها العضوي، نموذجاً فريداً من التخطيط الحضري الذي يُعزز الحميمية
والخصوصية. شوارعها الضيقة والساحات الصغيرة ليست عشوائية؛ بل هي نتاج تطور
تاريخي يعكس احتياجات مجتمعاتها. تهدف هذه المساحات إلى تشجيع التفاعل البشري
المباشر، وتوفير بيئة آمنة تشعر فيها بالألفة والتواصل. القرب بين المباني،
والأفنية المشتركة، والأسواق المحلية التي لا تزال تنبض بالحياة، كلها عوامل تساهم
في خلق نسيج اجتماعي متماسك، حيث يكون الجار قريباً والنسيج المجتمعي قوياً.
المدن
المعاصرة: الانفتاح والملكية العامة
في المقابل،
تمنح المدن المعاصرة بشوارعها الواسعة الرغبة الجامحة في استباحتها دون استئذان.
إنها توحي بالملكية العامة لها، للغرباء قبل سكانها. هذا التصميم، الذي غالباً ما
يركز على الكفاءة والسرعة وسهولة الوصول، يهدف إلى استيعاب أكبر عدد من الناس
والمركبات. الشوارع الشاسعة والمخططات الشبكية تعكس فلسفة الانفتاح الكلي، حيث
يشعر أي شخص بالحرية في التحرك والتصرف كما يشاء في أي مكان عام. ورغم أن هذا يمنح
إحساساً بالحرية المطلقة، إلا أنه قد يأتي على حساب الخصوصية والحميمية لسكان هذه
المناطق. هذا الانفتاح الشديد قد يجعل المدينة تبدو أقل شخصية، ويقلل من الشعور
بالانتماء العميق للمكان، تماماً كما أن المرأة "السافلة" لا تُثير في
النفس سوى شعور بالاستباحة والتصرف بوقاحة.
السعي
نحو التوازن: دمج الأصالة والمعاصرة
لقد أدرك مخططو
المدن المعاصرون أهمية دمج أفضل ما في العالمين. هناك محاولات جادة، خاصة في العديد
من المدن العربية وغيرها، لخلق بيئات حضرية تجمع بين مزايا الحداثة ودفء المجتمعات
التقليدية. مشاريع مثل "مشيرب قلب الدوحة" في قطر هي مثال حي على
هذا التوجه. حيث تم إعادة تصميم قلب المدينة ليُعيد إحياء مقاسات الشوارع الضيقة،
والساحات الداخلية، والمساحات الصديقة للمشاة، مع دمج التقنيات الحديثة والممارسات
المستدامة. الهدف هو خلق شعور بالألفة والخصوصية ضمن نسيج حضري عصري.
إن هذه المشاريع
تؤكد أن المدن ليست مجرد كتل خرسانية، بل هي كائنات حية تتفاعل مع سكانها وتؤثر
على مشاعرهم. إن تصميمها يمكن أن يحوّل الخوف إلى أمان، والرهبة إلى ألفة، ويدعم بناء
مجتمعات مترابطة في عالم يتزايد فيه الانفصال. رحلتي مع أزقة طرابلس القديمة
علمتني أن القيمة الحقيقية للمدينة لا تكمن في اتساع شوارعها، بل في قدرتها على
احتواء الروح الإنسانية وتوفير مأوى آمن للجسد والوجدان.