في فترة
التسعينيات، بدأت أُعبّر كتابةً عن الصراعات الفكرية التي كانت تدور في داخلي بشأن
النهج والتوجه المعماري الذي ينبغي عليّ تبنيه في مسيرتي المهنية، خاصة في ظل حالة
الاغتراب التي يعاني منها المجتمع. كانت هذه الأفكار تظهر في شكل سلسلة من الخواطر
المعمارية، التي كنت أدوّنها على الورق نفسه الذي أصمم عليه اسكتشات أفكاري لخرائط
أحد القاصدين لطلب خدماتي.
بعد أن
بدأت أستخدم جهاز الكمبيوتر للكتابة مباشرة، قمت بطباعة هذه الخواطر وجمعتها في
ملف أسميته "إبحار في متون الوعي"، حيث أدرجت مقدمة تعبر عن تلك السلسلة:
"إبحارٌ... في متون الوعي" هي
محاولة لإيقاظ ذهني الغافي، والإبحار به على سفينة الوعي، لعلي أدرك حقيقة ذاتي
واتفهم أدواري في هذه الحياة، وأحدد مكاني في هذا المحيط المجهول، الشاسع والمبهم،
الذي أطلق عليه اسم الوجود. عساي أكون نقطة فاعلة ومؤثرة فيه، وأمنح لحياتي العابر
معنى وقيمة.
جعلت لتلك
الخواطر المعمارية تحديداً عنواناً فرعياً ضمنته فلسفتي الخاصة في العمارة تحت
عنوان "قراءة في فلسفة العمارة"، ذلك أن فلسفة العمارة ليست مجرد مجموعة من القواعد والتقنيات، بل
هي تأمل عميق في العلاقة بين الإنسان والمكان، وبين الشكل والوظيفة. العمارة، وهي
تجسيد ينعكس فيه الإبداع البشري، تعكس ثقافات وحضارات متعددة، وتروي قصص المجتمعات
التي أنشأتها.
عندما نتحدث عن فلسفة العمارة، يجب علينا أن نتطرق إلى مفهوم الجمال.
هل الجمال هو مجرد تناغم في الأشكال والألوان، أم أنه يرتبط أيضًا بالراحة النفسية
والوظيفية للمستخدمين؟ العمارة الجيدة تتجاوز الشكل الخارجي، لتشكل تجربة حياة
متكاملة تعزز من جودة الحياة.
علاوة على ذلك، فلسفة العمارة تتعلق أيضًا بالاستدامة. في عالم
يتصارع مع تحديات التغير المناخي والموارد المحدودة، يصبح واجب المعماريين تصميم
مساحات تعكس الاحترام للبيئة وتؤكد على استخدام الموارد بشكل فعال. العمارة
المستدامة ليست فقط واجهة خارجية، بل هي فلسفة تعيش وتنمو مع الزمن.
وأخيراً، علينا أن نأخذ بعين الاعتبار بعد الزمن في عملية التصميم.
العمارة ليست ثابتة، بل هي كائن حي يتحول ويستجيب للتغيرات الاجتماعية والثقافية.
كيف يمكن أن نتوقع أن تتفاعل المباني مع مستخدميها بعد عشرين أو ثلاثين عاماً؟ إن
فهم هذا البعد الزمني يمنح المعماريين قدرة على الابتكار والتكيف مع احتياجات
المجتمعات المتغيرة.
في النهاية، فلسفة العمارة ليست مجرد نظريات، بل هي استكشاف لروح
الإنسانية وتجسيد لمفاهيم الحب، والصدق، والجمال، والاستدامة، مما يجعل العمارة
إحدى أرقى الفنون التي تعبر عن وجودنا في هذا العالم.
سأعيد نشر بعض من تلك الخواطر
المعمارية على فترات، وهذه واحدة منها:
قراءة في فلسفة
العمارة
(إني خضت بحر العمران... فوجدته عميق الأغوار، تتقاذفني فيه تيارات
شتى... فلم أر لنفسي النجاة، إلا بالتمسك بمرساة التاريخ والسباحة مع تيار
الأصالة، حتى استطعت الوصول إلى شاطئ الأمان. ولو لم أفعل ذلك لرمتني إحدى
التيارات الفكرية المتضاربة، على صخور التبعية والانقياد الأعمى، محولة فكري إلى
أشلاء تنهشها حيتان الغربة الثقافية).
الأحد 24/4/1994 م.
تعقيب من هذا الزمن 6 نوفمبر 2024:
تاريخ العمارة هو مرشد لنا في هذه الرحلة؛ إنه هوية تنقلنا عبر
الزمان والمكان، وتذكرنا بجذورنا الثقافية والمعرفية. عندما نتشبث بأصالتنا، نجد
أن العمارة ليست مجرد بناء، بل هي تجسيد لروح المجتمعات وتاريخها. كل صرح معماري،
كبر أو صغر في حجمه يعبر عن قصة، كل زاوية تحمل ذكريات وطرزًا تعكس رؤية كل جيل.
فقد علمتني هذه التجربة أن العمارة ليست زينةً أو مجرد تقنيات
تُستخدم للبناء، بل هي منارة تنير الطريق أمام الأجيال المستقبلية، تعزز من شعور
الانتماء والهوية. إن السباحة مع تيار الأصالة لا تعني التوقف عن التجديد، بل تعني
دمج الفلسفات الفكرية والعصرية مع الجذور التاريخية والثقافية، ما يُمكّننا من خلق
أماكن معاصرة تحمل في طياتها عبق القدم وتحديات الحاضر.
كان كل مقطع من هذه الخواطر يعكس عمق تفكيري وتفاعلي مع البيئة
الاجتماعية والثقافية التي كنت أعيشها. كنت أسعى للبحث عن معاني جديدة للعمارة،
تلك المعاني التي تعكس واقعَ المجتمع وتساعد في معالجة أغرب مشاكله من خلال
التصميم المعماري. كنت أسأل نفسي: كيف يمكنني كمُصمم أن أعبّر عن الهوية الحقيقية
لمكانٍ ما؟ كيف يمكنني أن أخلق فضاءاتً ليس فقط لتلبية الاحتياجات المادية، ولكن
أيضًا لتعزيز الروابط الإنسانية وإعادة تشكيل نسيج المجتمع؟
كانت هذه التساؤلات تمثل دافعاً لي للبحث والتفحص، وكانت النتائج في
كثير من الأحيان تشكل مصدر إلهام لأفكاري التصميمية. إن هذه الخواطر كانت رحلة
داخلية للبحث عن الإجابات، وليست مجرد تعريفات نظرية بحتة.