جامع طورغود باشا، المعلم الوحيد المتبقي من الإنجازات المعمارية التي بنيت في عهده
علي الصادق حسنين
بعد الاستئناس براي الأخ المحترم الدكتور عبد الكريم أبو شويرب _ الذي هو غني عن التعريف كباحث تاريخي دؤوب ومترجم ماهر من التركية وكمتخصص في طب الأطفال _ اتضح اسم أمير البحر_ الذي اعتدنا نطقه (درغوت) كان يكتب بالتركية العثمانية (طورغود) مع العلم بان الدال في آخر الكلمة تنطق تاء ولنا أمثلة في الكلمات التي يرسمها الأتراك اليوم بالحروف اللاتينية نحوmurat, mevecut , ahmet حيث استبدلت الدال بالتاء مباشرة مما يستدعي الانتباه حقا ما يبديه بعض المؤرخين _أحيانا_ من تجرد وأنصاف فيما يكتبون عن العرب والمسلمين اذكر منهم على سبيل المثال أستاذين ايطاليين هما: الراحل ايتوري روسي وصافتوري بونو.
يقول الأخير في كتابه (I corsair barbareschi) (القراصنة المغاربيون) : إن حرب القرصنة فرض نفسه على مجريات الحياة في حوض البحر الأبيض المتوسط وكان سكان شمال أفريقيا من ابرز ابطالها إذ لم ينفردوا بممارستها وان هذا الضرب من النشاط الحربي كان من شأنه انه جعل من البحر المذكور ساحة مفتوحة أمام كل مغامر جرئ مستسلم لإغراءات السلطة والثراء .
فمن المغامرات ماكان ابطالها مرتدين ناقمين ومنها ماكان ابطالها مدافعين غيورين على ديارهم ومنها أبطالها أرقاء استطاع بعضهم- بعد التكيف مع الظروف الرُق- أن يشقوا طريقهم وان يتبوأوا مراكز سلطوية متميزة وكان رائدهم متاع الدنيا بينما ضاق بعضهم الأخر بحياة الرق ذرعا وفقدوا كل أمل في الافتداء فحاولوا بجرأة وتحايل سلوك الفرار سبيلا .
أما أولئك الذين كانوا يركبون البحر كجدافين أو لأداء خدمات ملاحية أخرى على السفن المغاربية فكان بوسعهم أحيانا استعادة حريتهم تبعا لتقلبات حرب القرصنة ذاتها وذلك في حالة سقوط سفينة مغاربية في قبضة النصارى عما بأنه كلما شق ملاح بسفينته عباب المتوسط في ذلك العهد كان يعتريه الخوف والرعب .
هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى اشتمل واقع الحياة المتوسطية على نظام آخر قد تجوز تسميته " نظام الاتفاقيات " الذي كان من شأنه ان يهيئ للأسرى فرصة العودة إلى المسيحية من خلال عمليات استبدال أسير نصراني في قبضة النصارى أنه بعبارة أخرى " نظام تبادل الأسرى ".
ومما هو جدير بالذكر إن المراجع والأبحاث التاريخية تكاد تغفل كلياً حقيقة أن الأسرى المسيحيين في شمال أفريقيا كان يقابلهم – ولو بنسبة ضئيلة – أسرى مسلمون بربوع أوروبا .
ومن الملاحظ أن الأوربيين كثيرا ما يقصدون بلفظة "أتراك" قراصنة شمال أفريقيا ايضاً وأن كلا من الجانبين قد مارس القرصنة مستهدفاً سفن وسكان سواحل بلاد الجانب الأخر وأن القرصنة كانت تعتبر في الأقطار المغاربية أذاك النشاط الأساسي للدولة التي تشارك فيه مباشرة ولذا فإن سكان هذه الأقطار لا يندرجون تحت فئة " لصوص البحر " ( pirati ) بل يدخلون في عداد " القراصنة " ( corsari) إذ أن بعض أعمالهم لم تشكل خرقا لهدنات أو اتفاقيات كانوا طرفاً فيها .
غير أن ورود التسمية الأولى – أي " لصوص البحر" – في بعض المراجع أو فيما ألفه كثير من البحاث العصريين يدفعنا إلى عدم الاكتراث بالفرق بين التسميتين . وتوضيحاً للعلاقة القائمة بينهما وتبياناً لخطأ استعمال كل منهما أو لصوابه يقول ألبيرتوغولييلوتي في كتابه " تاريخ السلاح البحري البابوي " إن لفظة " قرصان " يوصف بها الفرد العادي المزود ببراءة – أي رخصةٍ خطيةٍ – من حكومة بلده والذي يتولى مع ذلك قيادة سفينة مسلحة ويركب البحر ويقاتل – في أوقات الحرب – أعداء وطنه متحملا شخصيا ما ينجم عن تصرفه من خسائر أو جانبا ما يثمره هذا التصرف من مكاسب .
وبالعكس فأن " لصوص البحر " يتساوون في كل شئ مع المجرمين القتلة . وباعتبارهم عصابات من البلطجية لا يحكمهم تشريع سوى شهوة التضامن معاً لغرض السلب والنهب في عرض البحار غير رافعين علماً معروفاً أو ناصبين علماً مزوراً وغير ملتزمين بشروط سلم أو هدنة وغير حاملين لبراءة : أنهم في الحقيقة أعداء البشرية جمعاء وأنهم طاعون البحر وبية من بلايا الدهر ( انتهى كلام الأستاذ بونو).
ويفيدنا ايتورى روسى – في كتابه " ليبيا منذ الفتح العربي حتى سنة 1911 " – قائلاً : ان القرصنة لم تكن قاصرة ممارستها على العرب ، بل كان نشاطاً يغوص في القدم غوص نزاعات البشر فيه إذ أنها كانت قائمة شائعة في العصور السحيقة.
اجل ، ظل حوض البحر الأبيض المتوسط – لحقبة طويلة – ساحة مثل لهذا النشاط الذي كان من جمل أبطاله طور غود ولد هذا القرصان سنة 1485م (وجاء بالموسوعة التركية 1512 ) بجزيرة واقعة على الساحل الغربي من الأناضول وانصرف منذ شبابه البكر إلى ممارسة القرصنة وورد ذكره ضمن زمرة القراصنة العثمانيين الذين اعترضوا سبيل سفن جمهورية البندقية وانقضوا عليها في بحر ايجه سنة1533م وتحول فيما بعد إلى العمل تحت خيرالدين بربروس واشتهر بسلب السفن المسيحية في مياه أفريقيا . وشهد عام 1540 سقوطه أسيراً في قبضة جانيتو دوريا الذي باغته على مقربة من سواحل جزيرة كورسيكا ، ثم باعه إلى أسرة لوميلّيني الجِنْويّة التي استخدمته في التجديف على مراكبها وبعد أربع سنوات فك أسره بفضل الاهتمام الذي بذله بربروس .غير انه سرعان ما عاد إلى مزاولة نشاطه بمزيد من الشدة والتحدي تحت راية السلطان العثماني .
وفي سنة 1549 م تعاون مع مراد آغا على إنشاء قواعد على سواحل الأقطار المغاربية للانطلاق منها مستهدفاً السفن المسيحية والسواحل الايطالية : الأمر الذي أثار الخوف والفزع في نفوس فرسان مالطا والنصارى أجمعين ودفعهم إلى التضامن والتحالف معاً بغية مقاتلة الأتراك في البحر درءا لبأسهم .
كما كان لطورغود نشاط كبير بدواخل الديار التونسية وعلى طول شواطئها وبجزيرة جربة . وكانت له مشاركة فعالة في الحملة التركية التي أدت إلى طرد فرسان مالطا من طرابلس سنة 1551 م . ورغم أنه بلغ من العمر عتياً بدا هذا القائد العجوز – أبان مقاتلته النصارى – أنه مازال محتفظا بقوته وحيويته.
هذا- وخلافا لما أورده ابن غلبون في " التذكار " – تولي طورغود باشا الحكم على طرابلس عقب وفاة مراد آغا في عام 1556 م مع العلم بأنه طالما أخفى قبلئذ تطلعه إلى هذا المنصب الهام . لقد أولى المدينة عناية كبيرة إذ جهزها بتحصينات وأنشأ برج التراب قرب حوش انجيلو ورمم القلعة وبنى قصراً كبيراً في قلب المدينة واتخذ منه مقراً لإقامته. ووسع مجال سيطرته بحيث شملت كذلك منطقة غريان ومصراته وغرب طرابلس وجربة والجنوب التونسي وصفاقس والمنستير وسوسة والقيروان ونظراً لديمومة حالة الحرب بين الأتراك والنصارى اقترح طورغود على السلطان سليمان إنزال اشد العقاب الرادع بالمسحيين للحد من تجاوزاتهم . فوافق العاهل العثماني وجرد حملة ضد مالطا. وفي أثناء الحصار الذي ضرب على الجزيرة أصيب طورغود بشظية صخرية أودت بحياته بعد أيام قلائل . ولذا اعتبر شهيداً فصارت ذكرى استشهاده مناسبة مقدسة لدى الأتراك.
أما الطرابلسيون فلا يكترثون بأحياء ذكراه إلاّ أن أسمه يقترن في أذهانهم بمسجده وضريحه ليس إلا ذلك لأنهم كانوا لايحبونه بل كانوا ينظرون إليه كحاكم أجنبي ( انتهى قول ايتورى روسي ). بعد هذا التمهيد ادخل في صميم الموضوع الذي ما حدا بي إلى التصدي له إلاّ اهتدائي في الآونة الأخيرة إلى العثور على مصدرين إيطاليين اعتمدت – بالدرجة الأولى – عليهما في إعداد هذه الورقة كمحاولة متواضعة تهدف إلى اطلاع غير الملمين باللسان الايطالي والمصدران عبارة عن مقالتين نشرتا منذ أكثر من نصف قرن . كانت إحداهما بقلم الراهب كورّادينو ( Fratello Corradino) ، عضو البعثة التعليمية لإخوان المدارس المسيحية بطرابلس " (Scuole Cristiane Missione dei Fratelli)" بطرابلس ، وكان عنوانها " الذكرى الخامسة والعشرون لنشاط إخوان المدارس المسيحية بطرابلس " ، (Venticinquesimo di Attivita Tripolina dei Fratelli delle S.C ) وقد نشرتها له دورية الإخوان " الروزنامة اللاصالية " ( Almanacco Lasalliano) في عددها الصادر بتورينو سنة 1938 م. وأما الأخرى فحررها الراهب الفرانتشيسكاني والمؤلف المعروف الأب كوستانتروبيرنيا ( Costanzo Bergna) وكان عنوانها " حمام سيدنا ميكال / السجن التركي القديم " ( Vecchla Prigione Turca II no di San Micheie / La) وقد نشرتها له مجلة "ليبيا" ( Libia) في عددها الثالث من السنة الاولى الصادر بطرابلس في شهر يونيو 1937م ، علما بأن كلتا المقالتين تنطوي على بعض الأخبار الهامشية الطريفة التي ارتأيت إيرادها تعميماً للفائدة.
مما لاريب فيه أن مدينة طرابلس كانت لاتحتضن سوى بضع عمائر فاخرة أهلكها الدهر فأضحت أثراً بعد عين. غير ان ذلك لا يعني ان مثل هذه الآثار غير جديرة باهتمام المؤرخين والدارسين من حيث تحديد مواقعها وتواريخ إنشائها والوظائف التي خصصت لها عبر الأحقاب علما بان نذرة المراجع أو صعوبة الوصول إليها تشكل في الحقيقة عائقاً من العسير اجتيازه .
صحيح ان في ليبيا قلة قليلة من التحف المعمارية المعروفة إلا ان اخبار ما تم تشييده منها قبل العهد العثماني غير متوفرة . ومما لاغبار عليه إن جميع الولاة الأتراك الذين تولوا الحكم بطرابلس اتخذوا من قلعة المدينة مقراً لإقامتهم عدا طورغود باشا الذي أنشأ لنفسه قصراً على مقربة من المسجد الذي مابرح يحمل اسمه مع ملاحظة ان حكم هذا الوالي دام ( 12 ) سنة ابتداء من سنة 1553م وكان عهده حافلا بالحملات العسكرية البرية في داخل القطر الطرابلسي وبالمغازي والمعارك البحرية في حوض البحر الأبيض المتوسط وقد ذاع صيته تبعاً للدور البطولي الذي اداه في حصار مالطا ، تلك الواقعة المشهورة التي كتبت له فيها – كما سبق القول – نعمة الاستشهاد سنة 1565 م.
إن موضوع سراي طورغود باشا ظل محل اهتمامي منذ نحو عقدين من الزمن إذ استرعى انتباهي لدى قيامي بترجمة الكتاب الذي سهر على تأليفه الباحث الايطالي الراحل الدكتور غاسبري ميسانا وعنونه " المعمار الإسلامي في ليبيا ". مما ورد في هذا الكتاب إن القصر عينه قد زالت معالمه ولم يبق له من اثر سوى المنظر الوارد في الصفحة رقم (129) من ترجمته العربية ( الطبعة الاولى ) وان هذا المنظر منقول من مطبوعة يرجع عهدها إلى عام 1559م /966هـ . وبهذا الصدد لا مناص من استرعاء الانتباه إلى حقيقة إن " طوبوغرافية " أي مدينة تخضع لتطور مستمر وبناء على ذك فان طوبوغرافية طرابلس لم تبقى مستقرة على الحالة التي كانت عليها عند قدوم الأتراك العثمانيين إليها عام 1551م. ولكنها شهدت – في فترة حكمهم – مرحلة من التطور البطئ الذي عايشه سكانها وما كان ليفطن به وليلاحظه منهم إلا من طالت غيبته عنها.
وتيسيرا للتوضيح لعله من المناسب أن نتصور إن المساحة المنحصرة بين باب البحر وسور المدينة –شرقاً- وشارع الاسبنيول –غربا- وشارع الكواش – شمالا – وزنقة جامع سيدي طورغود – جنوبا – كانت أذاك ضمن منطقة يغلب عليها الطابع الريفي . ومما يؤيد هذا التصور قول الأب كوستانتزوبيرنيا إن رهبان الإرسالية الفرانتشيسكانية اشتروا - في سنة 1747م – بستاناً مجاوراً لمصلاهم كانت تملكه الأسرة القرمانلية .كما تؤيد التصور ذاته تلك البئر ذات الجناحين التقليديين ، التي مازالت قائمة ضمن مركب حمام سيدي طورغود " والتي كانت – بواسطة الدابا ماضيا – وعادت- بواسطة المضخة الكهربائية حاضراً – تمد هذا المرفق بالماء اللازم .
وقياساً على ما تقدم نستطيع أن نتصور أيضا أن المنطقة نفسها كانت عارية من كثير من المباني التي نشاهدها اليوم مثل مسجد قرجي وفندق زميت ومبنى بنك روما ومدرسة عثمان باشا والكنيسة اليونانية الارثودكسية وغيرها من المباني المختلفة . ولنتصور – في النهاية – إن سراي طورغود باشا كانت كل أو جل المساحة المذكورة وكان يحفها بستان فسيح وكانت لها – بطبيعة الحال – جملة من الملحقات كثكنة رجال الحراسة وإسطبل خيولهم والمطبخ والحمامات والبئر والماجل وما إلى ذلك من المرافق.
هذا ويخبرنا الراهب كورّادينو في مقالته بما يلي :" في اليوم الخامس من أكتوبر 1912م وصل إلى طرابلس أول لفيف من إخوان المدارس المسيحية لغرض تولي شئون مدرسة النيابة الرسولية للبنين . أنهم قدموا من إقليم بييمونتي متحمسين تحمس المناضلين تصبحهم دعوات إخوانهم في ايطاليا وتحفهم – بصورة خاصة – بركات قداسة الحبر الأعظم الراحل بيوس العاشر. لقد وجد هؤلاء المبعوثون هنا كل مايشرف ويقدس رجال الدين المتحلين بدماثة الأخلاق: أنهم وجدوا فقراً مدقعاً ومجالا واسعاً للتبشير .فأخذوا يعملون بعزم أكيد متجاوزين كل الصعاب المادية لم يثنهم عن أداء واجباتهم لا انعدام المسكن اللائق ولا ما ترتب على اندلاع الحرب الكونية الأولى من انتكاسات ولا ما أصاب بعضهم من أسقام . ان مبنى المدرسة التي انيطت بهم مهمة إدارتها والتعليم فيها كان – في حقبة خالية – محل إقامة قائد مشهور يدعى طورغود ، واستعمل فيما بعد كمحجر صحي لعزل المصابين بالطاعون ، ثم تحول الى سجن للأرقاء المسيحيين الذين كان يقبض عليهم القراصنة.( انتهى كلام الراهب كورادينو ) ومن جهة أخرى يخبرنا الأب كوستانتزوبيرنيا قائلاً: " في ميدان السيدة مريم " ذات الملائكة بطرابلس وفي مواجهة مبنى المتحف الطبيعي – الذي كان في حقبة اسبق مقر لبنك روما – وتقوم عمارة ذات عقود مسدودة تحط على ستارة تشبه كتفاً كتلك التي تشاد عادة لدعم الحصون والقلاع.
ان ترميم هذه العمارة حديثاً حسب التصور الذي وضعه المعماري دي فاوستو (Di Fausto ) قد أراده حاكم ليبيا ايطالوبالبو (Italo Balbo ) وذلك لإنقاذ المبنى من خراب وشيك وحفظه ضمن المعالم القليلة التي ما برحت قائمة داخل أسوار المدينة. لقد درج الأهالي على تسميته "السجن التركي القديم" لأنه ظل يؤدي هذه الوظيفة – منذ إلغاء القرصنة الطرابلسية – في العهد العثماني بطرابلس في السنوات الأولى من احتلالنا . كانت الواجهات الثلاث لهذه العمارة الغريبة خلوا من النوافذ وما كان يتسرب الضوء الى جوفها إلا من خلال بضع فتحات بالقبوات التي تشكل سقفها.أنما أنشئت في الأصل كسجن كان يحشر في دياجيره الأرقاء المسيحيون الذين يسقطون في قبضة القراصنة الطرابلسيين في عرض البحر الأبيض المتوسط وكان يسمى في ذاك العهد " حمام سيدنا مالك" كما أطلق عليه اسم "الحمام الحديث" لتمييزه عن "الحمام القديم" أو "حمام العذراء ذات المسبحة" الذي كان يقع بالميدان المواجه لكاتدرائية السيدة مريم ذات الملائكة والذي يعود تشييده الى عام 1615م أبان عهد الوالي صفر داي ولتمييزه كذلك عن "الحمام الجديد أو حمام القديس انطونيو" الذي جرى بناءه حالياً "النزل التجاري" ( فندق بن زكري سابقاً ) بسوق الصاغة. ومن الجدير بالتنويه ان "حمام سيدنا ميكال" – الذي جاء مسقوفاً بقبوات ومقسماً الى (86) زنزانة ويتسع لإيواء (672) رقياً – قد أنشأه – في سنة 1664 م – عثمان باشا على أنقاض سراي طورغود.
وحيث ان كل سجين من سجون الأرقاء المسحيين كان له مصلى صغير ,فقد أطلق على الحمام الحديث ميكال إحدى كبار الملائكة فأطلق اسم هدا الملاك على السجن أيضا .إن عمارة هدا السجن ما انفكت تشف ترميماتها عن ملامح البساطة الصارمة التي تكتسبها وتنم نوعا ما عما رددته جدرانها طيلة قرنين ونيف من صيحات اللوعة والشقاوة والحرمان .
وبعد أن هدأت هذه الزوبعة حصل اليونانيون على تصريح ببناء الكنيسة الصغيرة المذكورة القائمة خف "حمام سيدنا ميكال" وذلك على نفقتهم الخاصة فباشر هؤلاء القوم الأعمال على الفور وبسرعة لا تصدق الأمر الذي إن دل على شئ فإنما يدل على مدى تحمسهم الشديد لملتهم , ويدل كذلك على شدة تخوفهم من تراجع السلطات الحكومية عن قرارها وإلغائها للتصريح إن هذه الكنيسة التي ضلت موضع تبجيل عظيم ومحل عناية فائقة تزداد جدرانها وحاجزها الايقوني الفاصل ين المذبح وجمهور المصلين- تزدان صورة مخضبة رسمت على الخشب ثم كسيت رقائق من فضة ينطوي بعضها على قيم فنية (انتهى كلام الأب كوستانتزوبيرنيا).
وفضلا عن ذلك ورد بالصفحة (180) من كتاب الأب كوستانتزو بيرنيا" طرابلس من 1510 إلى 1850" إن أيله طرابلس الغرب شهدت في أواخر القرن الميلادي السابع عشر- واحده من أصعب الفترات في تاريخها وكان ذلك ليس فقط لانعدام الرجال الأذكياء الأقوياء القادرين على حكمها ولعدم اكتراث الآهلين بما كان يجرى من تكالب على السلطة أيضا لإطلال أساطيل الدول الأوروبية- من حين لآخر- على مرسى طرابلس لمعاقبة القراصنة الطرابلسيين على تجاوزاتهم فكانت مدافعها بضع قذائف على المدينة لتذكير أهلها ضرورة الوفاء بالعهود ثم تنصرف إلى عرض البحر إن قائد الأسطول الانجليزي ناربر قد اغرق في أثناء إطلالته عدة سفن قرصانيه.
ومما زاد الطين بله تفشي الطاعون تفشيا واسع النطاق وفتكه بعدد كبير من الناس وكان من شأن هذا الوضع أن غادر القنصل الانجليزي نتانييل براندلي البلاد وحل محله قنصل بالنيابة كما غادرها أيضا ذلك العدد القليل من المبشرين اللذين احتموا بالقنصلية الانجليزية معلنين أنفسهم من رعاياها وذلك باستثناء الراهب الأب ماسيشو دا منطوفا الذي ظل وحده يقدم خدماته للأرقاء النصارى ملئا هكذا الفراغ الذي تركه إخوانه المذكورون.
أما النسبة لمصابين بالطاعون اللذين كانوا اخطر حالة فقد تم نقلهم إلى قاعة بالطابق السفلى من قصر طورغود باشا الواقع بشارع الإسبانيول والذي نال من عمارته القدم والذي اتخذ كمحجر صحي .
وجاء بالصفحة (182) من المؤلف نفسه أنه " ورد في أخبار البعثة التبشيرية أن ثمة بطرابلس مكان شبه معزول تحتم ضرورة الانتقال إليه إلا هو الموقع القائم حاليا ميدان بنك روما حيث يوجد حمامان متجاوران هما حمام سيدنا ميكال والحمام القديم وشارع الاسبانيول الراهن كانت مسافة غير بعيدة نواة مستشفى خاص بالأرقاء جرى إنشاؤه أطلال سرايا طورغود هذا وحوالي سنة 1750م كتب المؤرخ الاسباني كارفاخال مارمول قائلا: "ان طورغود باشا انشأ في طرابلس قصرين قبالة البحر (رما كان احدهما الحصن الذي صار يحمل اسمه وكان موقعه في الركن المواجه للمدخل الراهن للميناء ) ودعم السور بأبراج وقلاع .
وفي الختام يمكننا إن نستخلص مما تقدم سرده من أخبار :
أولا- إن المساحة التي افترض تصورها حدودها المشار اليها آنفا كان يحتضن ركنها الجنوبي / الغربي سراي طورغود باشا.
ثانيا: استعملت هذه العمارة كمحجر صحي إن تفشي الطاعون بالمدينة .
ثالثا: أقيم على أنقاض هذا القصر مبنى حمام سيدنا ميكال الذي احتلت الكنيسة اليونانية الارثودكسية مكانها جواره والذي اصح في مطلع القرن الميلادي التاسع عشر مقرا لأول مدرسة أسستها البعثة التبشيرية الفرنتيشيسكانية في طرابلس.