التخطي إلى المحتوى الرئيسي

حانت الساعة





جمال اللافي


عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، في قصة سؤال جبريل عليه السلام عن الإيمان والإسلام والإحسان، وفي آخره قول جبريل عليه السلام: فأخبرني عن الساعة؟ قال صلى الله عليه وسلم : " ما المسؤولُ عنها بأعلمَ من السائل " قال: فأخبرني عن أمارتها ؟ قال: " أن تلد الأمةُ ربَّتها، وأن ترى الحُفاة العُراةَ، العالةَ رِعاء الشاء، يتطاولون في البنيان"[1].



بداية،

      هذه المقالة ليست محاولة لتفسير نص شرعي. ولكنها قراءة لهذا الحديث الشريف من منظور واقع المجتمع الإسلامي اليوم. وتأمل لظاهرة معمارية تنتشر في عالمنا الإسلامي، لا يرتجى من ورائها خير.


الموضوع،

لماذا أخبرنا رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، أن من علامات الساعة، أن ترى الحفاة العراة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان. ولماذا وصفهم بهذا الوصف تحديداً (الحفاة العراة العالة رعاء الشاء)؟

ما يجب أن نعرفه أولاً، أن حالة التطاول (على وزن التفاعل)، نفهم منها أنها تعني التنافس في الارتفاع بالمباني إلى أقصى حد ممكن والتفاخر بذلك، وكلما وصل مبنى إلى حد معين نافسه الآخر بالزيادة عليه ولا تتوقف العملية عند حد، بل هي في استمرار لا يتوقف إلاّ بوجود رادع أو مانع قوي.

وهذا التطاول في البنيان (أي الارتفاع به في السماء) ليس مذموما لذاته، عندما يأتي ذلك تعبيراً عما وصلت إليه الحضارة الإنسانية من تقدم علمي وتطور تقني ولضرورة تستدعيها الحاجة لذلك ومنفعة لعموم الناس. فالإسلام لا يتعارض، لا مع العلم ولا مع التقدم التقني ولا مع عمارة الأرض ولا مع المصلحة العامة، في غير إسراف ولا تبذير.

·        إذاً، أين تكمن المشكلة في هذا الموضوع؟
·        وهل هناك مشكلة أصلاً؟
·        ولماذا لا نعتبر الأمر مجرد إقرار بمرحلة من التقدم العلمي والتقني ستصل إليها الحضارة البشرية. وتكون تلك المرحلة علامة على استيفاء الدنيا عمرها الزمني. فقط ليس إلاّ؟

كان يمكن أن يأتي حديث الرسول صلى الله عليه وسلم بغير تلك الصيغة، إذا كانت الغاية من الموضوع هي الإقرار بنهاية الدنيا عندما تصل الحضارة الإنسانية إلى هذه المرحلة من التقدم العلمي والتقني. ولكنه الذي قال فيه المولى عز وجل في محكم كتابه الكريم: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى(3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}[2] ، وبالتالي لا يمكن أن تأتي هذه الجملة عبثاً.

إذاً، هي إلى جانب كونها إقراراً بمرحلة ستأتي، فهي ذم في معرض مدح. ذم لحالة أقوام (الحفاة العراة رعاء الشاء) في معرض مدح لمرحلة من التقدم العلمي والتقني (التطاول في البنيان) ستصلها البشرية في يوم ما.

·        ولكن، من هم هؤلاء الحفاة العراة- وسنتجاوز قليلا عن مسألة الخوض في معنى "رعاء الشاء"؟
·        ولماذا وصفوا بهذا الوصف المشين تحديداً؟

لا أعتقد جازماً كغيري، أن رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، وهو القائل: " ليسَ المؤمِنُ بِطَعّان ولا لعّان ولا فاحِش ولا بَذيء" [3]. يصدر عنه كلمات تستهزئ بقومه أو يستهين بهم أو ينتقص من قدرهم. وهو في معرض تعليمهم أمور دينهم ويأمرهم بحسن الخلق. فيخاطبهم بوصفه لهم بالحفاة العراة رعاء الشاء وبأن الدنيا ستنتهي عندما يتطاولون في البنيان.

عندما يوصف الإنسان بأنه حافي القدمين عاري الجسد، فهذا يعني أنه وصل في مرحلة الفقر إلى درجة شديدة من العوز بحيث لا يمتلك ما يستر به جسده أو يحمي به قدميه عند المشي على الأرض.


وعليه نفهم من هذا الحديث الشريف، أنه يقرُّ بوجود حالة من التمايز الطبقي ستكون بين المسلمين تصل إلى ذروتها القصوى من السفه وانعدام الضمير، أن يطلع حكام المسلمين وأثرياهم على سوء أحوال عموم المسلمين في أوطانهم أو في كثير من دول العالم نتيجة استشراء الظلم والعدوان الواقع عليهم وانعدام فرص العيش الكريم لديهم، فيكتفون بمجرد النظر ولا يبالون بنجدتهم ولا بتحسين أحوالهم ولا بتوفير مصادر العيش الكريم لهم ولا بالدفاع عنهم ولا بتأمين حاجاتهم الضرورة من كساء وغطاء ومأكل ومشرب. وربما يشاركون في تأزيم هذه الحالة لغاية في نفوسهم. وهي في بعض منها استغلال لحاجة هؤلاء البؤساء وتسخيرهم في خدمتهم وتلبية رغباتهم وإشباع شهواتهم. وصرف أموالهم في بناء ناطحات السحاب التي تتنافس في الطول والزيادة، لمجرد التفاخر بهذا الأمر بينهم وإشباع نزعة الغرور عندهم. وهذا واقع تقره الكثير من المصادر الإعلامية والحقائق المرصودة اليوم.


وهذا الحديث الشريف في صيغته هذه، هو إقرار أيضا  بحجم الانحدار الحضاري والتخلف القيمي والاجتماعي، الذي ستعايشه الأمة الإسلامية على وجه التحديد في يوم ما، يقابله مظاهر فارهة من العمران في نطاق الخواص من حكامها ومترفيها، ولا يصب في مصلحة وفائدة ومنفعة عموم المسلمين، الذين يفترشون الأرض ويلتحفون السماء ولا يجدون مأوي يقيهم حر الصيف وبرد الشتاء. يقابلها مظاهر استهلاكية، لا تعرف طريقها للإنتاج. ولهذا جاء الإقرار بكونهم عالة رعاء الشاء، لتدل على أن كل هذه المظاهر العمرانية لا تقابلها أي مظاهر حقيقية للمدنية في واقع حال المسلمين. بل هي مدنية مستجلبة بفعل كثرة الأموال من دول أخرى متقدمة علميا وتقنيا وصناعيا لتوضع في بلاد المسلمين فقط من باب التطاول والتفاخر والمباهاة. أما الواقع فيقول أنهم قد انحدروا في سلم الحضارة الإنسانية إلى مرحلة بدائية هي مرحلة الرعي (رعي الشياء).


      ولهذا جمع الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم المترفين مع عامة الناس تحت مصطلح أو معرف (الحفاة العراة رعاء الشاء)، للإقرار بحالة عامة ستكون منتشرة في آخر الزمان يغلب عليها هذه الصفات. بغض النظر عن وضع المترفين وهم قلة، ترتدي أفخم الملابس وتنتعل أجود أنواع الأحدية، لأن القاعدة تأخذ بالغلبة وليس بالاستثناء.

     وكيف تستقيم الأمور في مجتمعات غالبتها العظمى من الحفاة العراة المتخلفين في السلم الحضاري عن الشعوب والأمم التي تجاورهم، أن يصرفوا أموالهم في التطاول في البنيان بدلاً من تحسين أحوالهم وظروفهم المعيشية ودفع ضرر العوز عنهم؟! وبالتالي فهذا الحديث جاء في معرض ذم لهذه المرحلة، التي يتفشى فيها الظلم الشديد والفساد، إلى هذه الدرجة من التباين الطبقي بين مجموعة من المترفين ومجتمعات من المعوزين. رغم توفر الأموال والثروات الطائلة التي تكفي الجميع وزيادة. 



      وكان من الطبيعي والمفترض، أن يتداعى الجسد الإسلامي لبعضه البعض في أحلك الظروف، فإن اشتكى عضو فيه تداعت له سائر الأعضاء بالسهر والحمى. وإن لم تتداعَ سائر الأعضاء لشكوى عضو، فهذا يعني أن الخلل أو المرض أو ضعف المناعة قد أصابها كلها بحيث أعجزها عن نجدة بعضها البعض.

     ولهذا اعتبر المترفون وهم قلة يعيشون في مجتمعات غلب عليها الفقر المدقع وغياب فرص العمل والعيش الكريم لعامة المسلمين، في حالة ميؤوس منها لا تمكنهم من نجدة إخوانهم المسلمين المحتاجين إلى عونهم، لأنهم هم أيضا يعانون. ولكن ليس من الفقر، بل من حالة نفسية مرضية مستعصية هي قسوة القلوب وانعدام الرحمة فيها وانتفاء العدل عنها .

      وقسوة القلوب مجلبة لغضب الرب. وهو إقرار في حقيقته بما ستصل إليه البشرية في عمومها والمجتمع الإسلامي على وجه التحديد من انحطاط أخلاقي في مقابل التقدم العلمي. ولأن الأخلاق هي المقوم الأساسي لوجود البشر بعد توحيد العبودية لله على وجه الأرض. فقد انتفى بغيابها هذا المبرر لاستمرار الحياة البشرية.

وحيث أن هذا الحديث الشريف يقر بعلامة من علامات آخر الزمن، إلاّ أنه لا يعني بالضرورة نهاية العالم. بل ربما هي إقرار بوضع غير طبيعي، لا يفترض أن يكون عليه حال الأمة الإسلامية في يوم ما. حال وجب تغييره عندما يقع. ولأنه واقع اليوم، فلا نجد ما نقوله غير:


حانت الساعة... ساعة التغيير للأفضل.




[1] الحديث بطوله رواه مسلم 

[2] - الآية (4) - سورة النجم.

[3] - رواه البخاري في الأدب وأحمد وابن حبان والحاكم.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

التهوية الطبيعية في المباني

م/ آمنه العجيلى تنتوش المقدمة تتوقف الراحة الفسيولوجية للإنسان على الثأتير الشامل لعدة عوامل ومنها العوامل المناخية مثل درجة الحرارة والرطوبة وحركة الهواء والإشعاع الشمسي . وللتهوية داخل المبنى أهمية كبيرة وتعتبر إحدى العناصر الرئيسية في المناخ ونق الانطلاق في تصميم المباني وارتباطها المباشر معها فالتهوية والتبريد الطبيعيين مهمان ودورهما كبير في تخفيف وطأة الحر ودرجات الحرارة الشديدة ، بل هما المخرج الرئيسي لأزمة الاستهلاك في الطاقة إلى حد كبير لأن أزمة الاستهلاك في الطاقة مردها التكييف الميكانيكي والاعتماد عليه كبير والذي نريده فراغات تتفاعل مع هذه المتغيرات المناخية أي نريد أن نلمس نسمة هواء الصيف العليلة تنساب في دورنا ومبانينا ونريد الاستفادة من الهواء وتحريكه داخل بيئتنا المشيدة لإزاحة التراكم الحراري وتعويضه بزخات من التيارات الهوائية المتحركة المنعشة . فكل شي طبيعي عادة جميل وتتقبله النفس وترتاح له فضلا عن مزاياه الوظيفية . وعلى المعماري كمبدأ منطقي عام البدء بتوفير الراحة طبيعياً ومعمارياً كلما أمكن ذلك ومن تم استكملها بالوسائل الصناعية لتحقيق أكبر قدر ممكن ...

بيوت الحضر: رؤ ية معاصرة للمسكن الطرابلسي التقليدي

تصميم وعرض/ جمال الهمالي اللافي في هذا العرض نقدم محاولة لا زالت قيد الدراسة، لثلاثة نماذج سكنية تستلهم من البيت الطرابلسي التقليدي قيمه الفكرية والاجتماعية والمعمارية والجمالية، والتي اعتمدت على مراعاة عدة اعتبارات اهتم بها البيت التقليدي وتميزت بها مدينة طرابلس القديمة شأنها في ذلك شأن كل المدن العربية والإسلامية التقليدية وهي: · الاعتبار المناخي. · الاعتبار الاجتماعي ( الخصوصية السمعية والبصرية/ الفصل بين الرجال والنساء). · اعتبارات الهوية الإسلامية والثقافة المحلية. أولا/ الاعتبار المناخي: تم مراعاة هذا الاعتبار من خلال إعادة صياغة لعلاقة الكتلة بمساحة الأرض المخصصة للبناء، بحيث تمتد هذه الكتلة على كامل المساحة بما فيها الشارع، والاعتماد على فكرة اتجاه المبنى إلى الداخل، وانفتاحه على الأفنية الداخلية، دون اعتبار لفكرة الردود التي تفرضها قوانين المباني المعتمدة كشرط من شروط البناء( التي تتنافى شروطها مع عوامل المناخ السائد في منطقتنا ). وتعتبر فكرة الكتل المتلاصقة معالجة مناخية تقليدية، أصبح الساكن أحوج إليها من ذي قبل بعد الاستغناء عن البنا...

المعلم/ علي سعيد قانة

موسوعة الفن التشكيلي في ليبيا 1936- 2006 جمال الهمالي اللافي الفنان التشكيلي" علي سعيد قانة " هو أبرز الفنانين التشكيليين الذين عرفتهم الساحة التشكيلية في ليبيا... انخرط في هذا المجال منذ نحو أربعة عقود. ولد بمدينة طرابلس الموافق 6/6/1936 ف ترعرع في منطقة سيدي سالم (باب البحر) بمدينة طرابلس القديمة.والتحق بأكاديمية الفنون الجميلة بروما- إيطاليا سنة 1957 وتخصص في مجال النحت بمدرسة سان جاكومو للفنون الزخرفية، كما حرص خلال وجوده في روما على دعم قدراته الفنية من خلال دورات تخصصية في مجال الرسم الحر والطباعة والسباكة وبرز في هذه المجالات جميعا.• التحق عند عودته إلى ارض الوطن بمعهد للمعلمين ( ابن منظور ) للتدريس سنة 1964ف• انتقل للتدريس بكلية التربية جامعة الفاتح سنة1973 ف• انضم إلى كلية الهندسة/ جامعة الفاتح بقسم العمارة والتخطيط العمراني سنة 1974- وتولى تدريس أسس التصميم و الرسم الحر لغاية تقاعده سنة 2001 ف• عمل مستشارا للشئون الفنية بمشروع تنظيم وإدارة المدينة القديمة. مساهماته الفنية/ اقتنى متحف مدينة باري للفنون بإيطاليا لوحتين من أعماله الفني...