أحمد الغماري
جاءت
النسخة الرابعة من معرض دواية لفن الحروفيات هذا العام لتؤكد مرة أخرى على عزم
وإصرار لدى ثلة من الفنانين الشبان القائمين على هذا الحدث الفريد، أنهم مستمرون
في رهانهم الكبير الذي راهنوا عليه، وهو المضي قدماً في مواجهة الصعاب والتحديات
التي واجهتم وتواجههم في كل دورة من دوراته التي أقدموا على تنظيمها بالقيمة
وبالشكل الفني المراد. قد تبدو مسألة الإعداد والتنظيم – منذ الوهلة الأولى - مثل هذه المناشط التشكيلية لمن ينظر إليها من
خارج المنظومة الثقافية، أنها أمرٍ سهلٍ، ويمكن مجاراتها، بل والإقدام على إقامة
مبادرات مماثلة، وحتى إظهارها بشكلٍ أفضل، لكن من يطلع على خبايا الأمور، ويكون
على مقربة من سير الإستعدادات والترتيبات لإقامة مثل هذه المناسبات التشكيلية،
سيقرُ بصعوبة مجاراتها، واستحالة تنظيمها – لاسيما - في حال إن أراد أن يؤكل أمور
دعمها ورعايتها إلى الجهات العامة. تظل الصعوبات والتحديات والعوائق التي تقف أمام
إقامة وتنظيم مناسبات (تشكيلية) – لاسيما في الأونة الأخيرة- عديدة ومتشعبة ومربكة، وتحتاج من المنظمين والقائمين
عليها جهداً مضنياً ومضعفاً، صباح ومساء، حتى يتمكنوا من تأمين - ولو الحد الأدنى
- الاحتياجات المطلوبة لإقامة مثل هذه الأحداث التشكيلية، تلك التي أضحت ملحة
وواجبة التوفير لإقامة أي منشط ثقافي كـ(البحث عن راعي وداعم مالي ثم طباعة
المطوية أو كتالوج المعرض والملصق الدعائي، مروراً بتوفير مائدة الضيافة
"البو فا" التي باتت من التوابث والتقاليد المصاحبة لكل الفعاليات
الثقافية وغير الثقافية، وصولاً إلى توفير تذاكر السفر والإقامة الفندقية في حال
وجود مشاركات أجنبية).
كل
هذه الضروريات واللوازم التي تستدعيها اليوم عملية الترتيب والتنظيم لإقامة - خاصة
- أية مناسبة تشكيلية تقع بأكملها على كاهل الفنان التشكيلي، وحده دون غيره وفي ظل
غياب الجهات الرسمية أو الأهلية كالجمعيات والمنظمات الثقافية، تعينه على رفع جزء
من هذا الحمّل الثقيل، وتوفر له بعض الدعم اللوجستي كطباعة المطويات والملصقات
والدعوات وخدمات "البو فا" كما يحدث في بعض الدول الغنية. لكن القائمون
على معرض (دواية لفن الحروفيات) هذا العام، تحدثوا عن مفاجآت عدة قد برزت دون أن
يتوقعوا حدوثها ولم يكونوا ينتظرونها، منها: (إغلاق البوابة الحدودية لمعبر رأس
جدير مع الدولة التونسية، ما حال دون وصول أعمال الفنانين: التونسي محمد سحنون
والمغربي عبدالفتاح بلالي في الموعد المحدد) حدث هذا في ظل إرتفاع تكلفة خدمة
الشحن البريدي التي تقدمها الشركات العالمية في طرابلس كـ(شركة ARAMEX & DHL) فضلاً
عن غياب الآليات والإجراءات القانونية الضامنة لتحويل الدعم المالي من الخارج بعد
أن توصل القائمون على الحدث لإتفاق مع جهات داعمة للمناشط الثقافية، وهذا ما حدث
تماماً فيما يخص الإجراءات المالية التي تكفلت السفارة الألمانية بدفعها باعتبارها
أحد الجهات الراعية.
لئن
كان مقياس نجاح هذا الحدث التشكيلي يكمن فيما ظهر من ترتيبات وتجهيزات تمثلت فيما
عرض من لوحات بجودتها ومطبوعات بجمالها ومائدة "البو فا" بتميزها، لقلنا
أنه يستحق بأمتياز أن يصف بأنه معرض ناجح لاسيما في ظل الأوضاع القائمة. لكن
العبرة والنجاح الذي نراهن اليوم عليه- في رأيي - يكمن في قدرة هؤلاء الشبان على
ترسيخ تقاليد لم تكن معتادة في مناسبات تشكيلية فائتة. أولها: المحافظة على موعد
إقامة المعرض في تاريخه المحدد أواخر أكتوبر من كل عام، واستمرار إقامته ووصوله
لدورة الرابعة على التوالي دون توقف.
ثانيها: إقحام
الشركات الخاصة والجهات الرسمية في رعاية ودعم هذا الحدث التشكيلي مع إتاحة مساحة
صغيرة جداً في مطبوعات المعرض لتظهر شعاراتهم عليها.
ثالثها:
الإلتزام بطباعة كتالوج وبطاقات دعوة للمعرض وبجودة وتصميم فني راقي وهو ما كان
غائباً دائماً حتى في المعارض العامة وبطبيعة الحال الخاصة منها.
رابعها: ترسيخ
عادة حميدة تتمثل في عمل الفنانين التشكيليين ضمن فريق واحد متجانس في الأفكار
والأداء لتنظيم دورات هذا المعرض كل عام والوصول به إلى دول مجاورة وحتى العرض في
القاعات بألمانيا.
ما
دعانا للذهاب إلى ما ذهبنا إليه - في هذا المقام - إلا ما وقفنا عليه من حسرة في
عيون هؤلاء الشبان الذين أصابهم الإنهك
جراء ملاحقتهم جهات متعددة من أجل الاستيفاء بالاستحقاقات الواجبة لإقامة هذا
الحدث الفني، وما لمسنا من نبرة حزن في حديثهم وقلق يختفي وراء مشاعرهم خوفاً من
أن مسألة استمراره باتت مهددة في ظل تصاعد التحديات والعوائق وارباكات التي لاقوها
لاسيما في هذه الدورة التي أقيمت في أجواء الحرب والأزمات المتلاحقة التي تعيشها
مدينة طرابلس.
إن
التجارب الماثلة أمامنا اليوم من تعطل لمحافل تشكيلية "عامة" كان من
المفترض أن تقوم بأعبائها مؤسسة الثقافة باختلاف مسمياتها ومهامها، والجهات
الرسمية الأخرى ككليات الفنون والهندسة المعمارية، لهي خير دليل على عجز المؤسسات
والنخبة المثقفة وعدم قدرتها كي تتغلب على الصعوبات التي تواجهها، ولست هنا في باب
التطرق إليها، ثم إن تجارب أهلية هي الأخرى منها من يجاهد لأن يحقق وجوده على أرض
الواقع برغم قلة الإمكانات وشح الموارد المالية والدعم العيني، الذي يمكن أن تقدمه
الجهات الرسمية ذي النشاط الاقتصادي والتجاري، ومنها من أصابها الجمود والانكفاء
على نفسه وأضحت عبارة عن لافتات وعناوين ليس لها أي نشاط ولا حتى وجود مادي في
الواقع، أساءت في المقام الأول إلى نفسها وفي المقام الثاني إلى الحراك التشكيلي في
ليبيا بشكل عام. بل قد لحق الجمود والمراوحة في المكان ذاته الحراك التشكيلي كافة،
الذي لم يسجل سنة 2019 المشرفة على الانقضاء بعد شهرين من تاريخ هذا اليوم، أي
معرض تشكيلي محكم، يمكن للمرء أن يعود إليه ويعتبره حدث تشكيلي ذو تأثير فني
وثقافي في خضم الحراك الثقافي في البلاد التي هي الأخرى للأسف الشديد تشهد ارتكاسة
لا أحد يعلم متى يمكنها الخروج منها؟!.