تمهيد/
* التقليد، الاقتباس
أو المحاكاة للموروث المعماري ليس بالضرورة عيباً أو قصوراً في المنهج الفكري للمعماري،
فقد يكون حفاظاً على ما تحقق في الماضي من معالجات بيئية أو متطلبات اجتماعية لا تزال
تؤدي وظيفتها المعمارية بكل كفاءة إلى يومنا هذا.
* الحداثة أو التجديد،
لا يعني بالضرورة أمراً جيداً أو مقبولاً، حين يأتي معه بمعاول الهدم لكل ما هو متوارث،
دون أن يستند على مبررات منطقية ومنهجية مدروسة العواقب ومضمونة النتائج، بحيث لا تترك
آثارها السلبية على سلوك المجتمع واستقراره المادي والمعنوي.
من هذا
المنطلق على المعماري الليبي- الذي يسعى للتواصل مع عمارته المحلية- أن يدرك هذه الجوانب
وينطلق منها في مسيرة التأصيل للعمارة الليبية المعاصرة:
•
أن ما وصل إليه الأجداد
هو نتاج خبرة متواصلة ومتوارثة لأسطوات البناء التقليديين للتوفيق بين قيم ومعتقدات
المجتمع ومتطلباته الحياتية اليومية والإمكانات المتاحة من مواد البناء والتشطيب وطرق
الإنشاء وعناصر التأثيث.
•
أن اسطى البناء التقليدي
حينما تعاطى مع عمارته المحلية بكل تلك الكفاءة والاقتدار، إنما هو نابعٌ من إخلاصه
وتفانيه في معالجة الإشكاليات وطرح الحلول الناجعة، التي أثبتت كفاءتها البيئية والوظيفية
والاقتصادية، وملاءمتها لمتطلبات المجتمع. وقدرتها على استيعاب المتغيرات والمستجدات
إلى يومنا هذا.
•
العمارة المحلية
تستمد مقوماتها، من قدرتها على المواءمة بين المتطلبات المادية والعاطفية للمجتمع من
جهة، والمعطيات البيئية والاقتصادية من جهة أخرى.
•
أن العمارة المحلية
ليست نمطاً معمارياً واحدا، يقبل التعميم على باقي المدن، بقدر ما هي علاقة مترابطة
بين الشكل والمضمون من جهة، والمحيط الاجتماعي والبيئي الذي أنتجها من جهة أخرى.
•
أن العلاقة بين المفردات
وتفاصيلها المعمارية والزخرفية من جهة والتوزيع الفراغي للعمارة المحلية من جهة أخرى،
هي علاقة متينة الصلة ولا يمكن فصلها عن بعضها البعض،بل هي كل متكامل يعكس أساليب التعبير
المتنوعة للتعريف بهوية المكان والمجتمع الذي يقطنه.
•
أن العمارة المحلية
التقليدية تتنوع من حيث انتشارها الأفقي والعمودي. حيث تنتشر أفقيا في عمارة مساكن
الريف وضواحي المدن الساحلية وبعض المدن الصحراوية، وتنتشر رأسيا للأعلى في عمارة مساكن
غدامس، مثلما هناك عمارة تنحت في الأرض مساكنها كعمارة بيوت الحفر في غريان. وهناك
عمارة تتدرح مع مناسيب الجبال وأخرى تخترق تلك الجبال وتحفر فيها عمقاً كعمارة الدواميس
في الجبل الغربي. لهذا لن تكون هناك تصاميم لمباني سكنية بمفردات معمارية وزخرفية،
بعيداً عن طبيعة التوزيع الفراغي المرتبط بها في بيئتها التي نشأت فيها.
•
أن ما حصل من انقلاب
جذري على هذا الموروث كان مرجعه بالدرجة الأولى إلى تفسخ المجتمع عن قيمه ومعتقداته
وفقدانه لبوصلة التوجيه التي كان يستعين بها على معرفة ما يحتاجه فعلاً، حتى يمكن تحويله
إلى شكل معماري وتوزيع فراغي يعكس هويته ويحقق له متطلباته المادية والعاطفية في رؤية
معاصرة. (للإعلام دور كبير فيما حصل ويحصل).
•
إضافة إلى أنصراف
مؤسسات التعليم المعما ري والاتجاه بها فكراً ومنهجاً وتطبيقاً وتشريعاً عن التواصل
مع هذا الموروث والانحراف بها إلى تبني مناهج وتشريعات بناء غربية، دون أن تحظى ولو
بالقليل من المراجعة للتوفيق بينها وبين المعطيات البيئية والخصوصية الاجتماعية والظروف
الاقتصادية لكل بيئة محلية.
•
أن الإبداع لا يكمن
في البحث عن كل ما هو جديد وغير مألوف، في مقابل القطيعة مع الموروث المعماري.
•
أن المنهج التصميمي
للمشاريع المعمارية يعتمد بالدرجة الأولى على تلمس تلك الملامح الأصيلة لكل عمارة محلية
من واقع الزيارات الميدانية لمعالم المدن التاريخية، والبحث في إمكانيات الحفاظ على
أصالة التوزيع الفراغي وفرادة التفاصيل والمفردات المعمارية والزخرفية، التي تميز كل
عمارة محلية عن الأخريات.
•
أن المحاولات التصميمة
الجادة في إعادة الاعتبار للعمارة المحلية، تنطلق في حقيقتها من احترام خصوصية كل نمط
معماري منها واقتصار تصاميمه وتنفيذها على البيئة التي نشأ فيها كل نمط معماري منها،
دون سواها من المدن، التي تمتلك بدورها نمطا معماريا يميزها.
•
أن البحث في مسألة
الابتكار في تصميم المشاريع المعمارية والتفاصيل والمفردات المعمارية والزخرفية، أو
تطوير التقليدي منها، يستوجب من المعماري أن يستند في ذلك على دراسة واعية لمستدعيات
هذا التجديد وضرورات الإلغاء أو التعديل.
•
البحث عن تلك القواسم
المشتركة التي تصنع (حقيقةً وليس وهماً) صورة العمارة المحلية التي تستحق أن توصم بالمعاصرة،
من حيث قدرتها على التوفيق بين التوابث التي لا يمكن الخروج عنها بأي حال من الأحوال
(ممثلة في الظروف البيئية وقيم المجتمع ومعتقداته)، والمتغيرات التي تشكل مساحة واسعة
للمعماري للتعبير والتجديد من خلالها (كمواد البناء والعزل الحراري ومصادر توفير الطاقة
الكهربائية وتقنيات الإنشاء التي لم تكن متاحة في الماضي، وأيضا الظروف الاقتصادية
للمستعملين، التي تتحكم في حجم المبنى وثراء تفاصيله المعمارية والزخرفية).
•
محاولة فهم أبعاد
ومنطلقات ودوافع هذا التوزيع الفراغي ووظائفه، ومن تم الإبقاء على شكل وتوزيع كل فراغ
وظيفي أثبت ملاءمته لمتطلبات العصر، والتعديل فيما يحتاج للتعديل من حيث الشكل والمساحة
ليتلاءم الفراغ مع متطلبات العصر والتجديد في عناصر التأثيث (التي لا مناص من تعديلها
لتكون أكثر فاعلية). ونقل فراغ من مكان إلى آخر حتى يواصل أداء وظيفته على أكمل وجه
وتنتفي عنه أوجه القصور. وأخيرا إلغاء أي فراغ أو توزيع فراغي لم يكن في حقيقته ملائماً
حتى في عصره، وإنما فرضته ظروف الواقع فرضا على مستعمليه بتلك الصورة لدواعي عادات
اجتماعية تتعارض مع العقيدة الصحيحة، أو لتأثيرات اقتصادية أو إنشائية صِرفة.
•
أن يحصر مساره المهني
والبحثي، في التأصيل للعمارة الليبية المعاصرة، متجاوزاً بذلك كل دعوات التشكيك والتثبيط
التي ترى في هذا المنهج تقليدا يتنافي مع مستدعيات الإبداع والتجديد من منظوري التغريب
والتسطيح لرسالة المعماري وفهمه لأدواره في المجتمع الذي يعايشه.
•
أن يحصر مناقشة مشاريعه
وإدارة الحوار حولها ضمن دائرة مدى توفيقه في حل معضلة التأصيل من عدمها. وأن غير ذلك
هو سعي للنأي به عن منهجه في العمارة الذي اختاره عن قناعة بجدواه كدرب في مسيرته المهنية
لتحقيق رسالته السامية في الارتقاء بمجتمعه عمرانيا وحضاريا.
وما التوفيق
من قبل ومن بعد إلاّ من عند الله سبحانه وتعالى.
المعماري/ جمال اللافي
الأحد 12 شعبان 1441 هـ.
5 إبريل 2020
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق