جمال اللافي
يمكن
تقسيم العمارة في مجملها إلى نمطين متمايزين وهما:
العمارة غير الإسلامية، وهي عمارة غير المسلمين من الشرائع والديانات والملل المنحرفة عن شريعة الإسلام (اليهودية/ المسيحية/ الماجوسية/ الهندوسية/ البودية/ الوثنية... وكل ما في حكمها). ويمكن للمتخصص والباحث الإبحار في هذه العمارة من خلال الاطلاع على مصادرهم. فهذا الجانب لن يكون ضمن سياق هذه المقالة الموجزة.
العمارة الإسلامية، وهي عمارة المسلمين أينما كانوا فرادى أو جماعات، داخل المجتمع الإسلامي أو في غيره من المجتمعات، صممت لهم إنطلاقاً من قواعد وتشريعات وأحكام مستنبطة من القرآن الكريم والسنة النبوية، لتوفر للمسلمين بيئة عمرانية صالحة تساعدهم على العيش وفق شرع الله.
تتنوع العمارة الإسلامية في طرازها المعماري وتوزيعها الفراغي تبعاً لفهم المسلمين في كل بيئة إسلامية لهذه الأحكام والتشريعات وآلية تطبيقها على أرض الواقع. كما أن للبيئة الجغرافية والطقس والمناخ السائد فيها دوره في وفرة هذا التنوع، إلى جانب ثراء كل بيئة بمواد البناء، وطرق الإنشاء المتاحة، والحالة الاقتصادية، وتطور الفكر المعماري وثراء الأفكار المطروحة بالحلول والتفاصيل والمفردات المعمارية بين بيئة وأخرى في معالجة الإشكاليات القائمة والمستجدة. وهذا ما أوجد حالة ثراء وتنوع بين عمائر المسلمين وأفرز لكل بيئة إسلامية هويتها المتفردة.
لهذا من المعيب جدا والمخل بالمنطق السوي أن يتم استنساخ عمارة إسلامية وليدة بيئتها وإعادة نقلها إلى بيئة أخرى غير إسلامية بقضّها وقضيضها (بشكلها المعماري ومواد بنائها)، يعيش فيها مسلمون تختلف عنها في كل المعطيات المذكورة سالفا إلى جانب الفوارق الحضارية بين البيئة المستنسخ منها تلك العمارة والبيئة المنقولة إليها، بحجة أن هذه البيئة غير إسلامية والمطلوب أن تتوفر للمسلمين فيها بيئة تخصهم.
مثلما
حدث في مشروع نيومكسيكو، عندما استدعى المعماري الأمريكي المسلم نورالدين دوركي المعماري
المصري حسن فتحي ليبني للمجتمع الإسلامي هناك عمارته الطينية بشكلها المعروف. متجاهلا
بذلك الفارق الحضاري والتقني بين دولتين إحداهما موغلة في التخلف والأخرى في قمة التقدم
العلمي والتقني، إلى جانب اختلاف العادات والتقاليد.
وكان من باب أولى بهذا المعماري الأمريكي أن يستحضر قيم وتشريعات وأحكام البنيان في العمارة الإسلامية ليصيغ منها عمارة إسلامية في البيئة الأمريكية تستوعب معطيات تلك البيئة وزخمها العلمي والتقني. أو كان أولى بهما أن يجلسا معا على طاولة الحوار لصياغة هذه العمارة، بدلاً من هذا المسخ الممجوج (الذي يشبه الجمل الأجرب وسط قطيع البقر).
قد تتفق
في بلاد المسلمين العمارة الإسلامية مع العمارة غير الإسلامية في المناطق والمدن التي
تتعايش فيها عدة شرائع وأديان وملل تحت نفس الظروف والمعطيات البيئية والاقتصادية،
فتأتي هذه العمارة متشابهة في شكلها العام إلى حد ما. ولكنها تأخذ خصوصيتها وفقاً لهذا
التنوع العقائدي وتحديداً في التوزيع الفراغي وفي المفردات المعمارية والزخرفية وأيضا
في الألوان. بالإضافة إلى اختلاف الشكل العام لمساجد المسلمين عن معابد ودور عبادة
غير المسلمين.
يمكن هنا الاستدلال بعمارة مدينة طرابلس القديمة كمثال على كل ما ذكر، حيث كانت تتعايش فيها ثلاث شرائع سماوية (الإسلام والمسيحية واليهودية)، فنجد أن الشكل العام لنسيج مدينة طرابلس القديمة واحد لا يمكن التمييز في مخططها المتضام ومبانيها التي تفتح إلى الداخل على الأفنية بين هذه الشرائع الثلاث. ولكن عندما نقترب من عمارة مباني هذه المدينة سنجد في مفردات واجهاتها الخارجية والداخلية اختلافا في التفاصيل والمفردات المعمارية والزخرفية وأيضا في ألوان أبوابها ونوافذها وجدرانها وزخارفها.
حيث نجد
أن بيوت المسلمين تطلى جدرانها من الخارج والداخل باللون الأبيض، وتطلى أبوابها ونوافذها
وعناصر تأثيثها الخشبية باللون الأخضر (تفاؤلاً بالجنّة ولباس أهلها). بينما تطلى جدران
بيوت المسيحيين من الخارج والداخل باللون الأصفر (رمز علم البابا) أما أبوابها ونوافذها
فتطلي باللون البني، كذلك عناصر تأثيثهم(وبعض بيوتهم تطلى الجدران باللون الوردي من
الخارج). بينما تطلى بيوت اليهود من الخارج باللون الأبيض ومن الداخل باللون السماوي
(كناية عن حلم اليهود بدولة من الفرات إلى النيل)، وتطلى أبوابها ونوافذها وعناصر تأثيثها
وزخارف القيشاني باللون الأزرق.
إلى جانب الاختلاف في التوزيع الفراغي، فنجد أن الخصوصية البصرية والسمعية في بيوت المسلمين تأخذ الجانب الأكبر في هذا التوزيع الفراغي، فالداخل إلى بيوت المسلمين يجد أن أبوابها تفتح على سقيفة منكسر تمنع الضيوف من النظر إلى الفناء وداخل البيت، بينما نجد الأبواب في بيوت المسيحيين تفتح على أحد أروقة الفناء. وفي المقابل نجد أبواب بيوت اليهود تفتح مباشرة على الفناء.
من هنا يمكننا التأكيد على أن الجدل القائم بين مصطلحي العمارة الإسلامية وعمارة المسلمين لا يستند على مبرر منطقي في طرحه، أكثر من كونه يخوض في بحر الشتات والإلهاء وتفريغ المصطلحين من المعنى الذي يعطيهما قوة حضور واستمرارية تواصل في إنتاج عمارة لها مقوماتها ومنطلقاتها وأهدافها وغاياتها. ويمكن تقديم تعريف مبسّط لهذين المصطلحين على النحو التالي:
• العمارة الإسلامية، هي الإطار العام النظري المتعلق بفهم المسلمين لمقتضيات الشرع من مسألة العمران، من خلال استنباط التشريعات واللوائح وأحكام البنيان من القرآن الكريم والسنّة النبوية، التي تحدد ما يجب أن تكون عليه عمارة المسلمين باختلاف المعطيات المرتبطة بالظروف البيئية والحالة الاقتصادية والعادات والتقاليد المتوارثة لكل مجتمع إسلامي.
• عمارة المسلمين، تتمثل
في الجانب التطبيقي من العمارة الإسلامية المتعلق بالمنتوج المادي لهذه الأحكام بتنوع
طرزها المعمارية وتوزيعها الفراغي وتفاصيلها ومفرداتها وعناصر تأثيثها وزخرفتها المستمدة
من أحكام البنيان، الذي يحقق التطبيق العملي لشرع الله في أرضه وفي أماكن معيشة المسلمين
وأماكن عملهم وعبادتهم أينما كانوا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق