التخطي إلى المحتوى الرئيسي

من التراث إلى المعاصرة- رؤى فكرية في العمارة المحلية:

 


المعماري/ جمال الهمالي اللافي

تمهيد/

تمثل العلاقة بين التراث والمعاصرة في العمارة موضوعًا غنيًا يحتاج إلى فهم عميق وتوجه فكري واضح. إن التقليد، الاقتباس، أو المحاكاة من الموروث المعماري لا تمثل بالضرورة عيوبًا أو قصورًا في المنهج الفكري للمعماري. بل يمكن أن تكون هذه الممارسات وسيلة فعّالة للحفاظ على ما تم تحقيقه في الماضي من حلول بيئية واجتماعية لا تزال تلبي الاحتياجات الوظيفية بفاعلية. يجب أن نكون واعين أيضًا أن التجديد أو الحداثة ليستا دائمًا إيجابيتين، خصوصًا عندما يترافقان مع تدمير عناصر تراثية دون مبررات منطقية أو منهجية واضحة، مما يؤدي إلى آثار سلبية على استقرار المجتمع وتماسكه.

في هذا السياق، ومن خلال رؤاي الفكرية حول العمارة المحلية، ينبغي على المعماري الليبي الذي يسعى للتواصل مع تراثه المعماري أن يأخذ بعين الاعتبار عدة جوانب أساسية مساعدة في تأسيس عمارة معاصرة تعكس الهوية الثقافية للبلاد:

·     الإلهام من الحرفيين التقليديين: يجب أن نستمد إلهامنا من الحرفيين التقليديين الذين تمكنوا من التوفيق بين القيم الاجتماعية ومطالب الحياة اليومية. إن نجاحهم نابع من تجربتهم العميقة ومهاراتهم في استعمال مواد البناء والطرق الإنشائية المتاحة. وبالتالي، يمكن للعمارة المعاصرة أن تستفيد من هذه الخبرات لتقديم حلول معمارية فعالة وملائمة.

·     تنوع العمارة المحلية: العمارة المحلية ليست نمطًا واحدًا يُعمم على جميع المدن، بل تجسيد لعلاقة متينة بين الشكل والمضمون والمحيط الاجتماعي والبيئي. إن إعادة الاعتبار للعمارة المحلية تعني احترام خصوصية كل نمط معماري، وتطوير تصاميم تتناسب مع البيئة المحلية.

·     فهم توزيع الفراغات: من المهم فهم أبعاد ودوافع توزيع الفراغات المعمارية ودورها الوظيفي. يجب أن تتناسب هذه التوزيعات مع احتياجات العصر الحديث، مما يتطلب تعديل الأشكال والمساحات المستعملة، وإلغاء التوزيع الفراغي غير الملائم.

·     ترابط العناصر المعمارية: العلاقة بين العناصر والمفردات المعمارية والزخرفية وتوزيع الفراغات هي علاقة أساسية. تعكس هذه العلاقة أساليب التعبير التي تشكل هوية المكان وخصائص سكانه، مما يعتبر جزءًا حيويًا من العمارة المحلية.

·     استلهام الأصالة من التاريخ: يتعين على المعماريين الجدد استكشاف الملامح الأصيلة للعمارة المحلية من خلال الزيارات الميدانية والبحث في المعالم التاريخية. تعمل هذه الدراسة على الحفاظ على أصالة التوزيع الفراغي وتفرد التفاصيل المعمارية والزخرفية.

·     دور المعماري في المجتمع: إن المسار المهني والبحثي للمعماري الليبي يجب أن يؤكد على أهمية التأصيل للعمارة المحلية. ينبغي تجاوز التصورات التي ترى في هذا التأصيل تقليدًا منافيًا للإبداع. بدلاً من ذلك، يجب إدخال النقاش حول المشاريع في إطار تقييم فعاليتها في سياق التأصيل، مما يسهم في تحسين الرسالة المعمارية في نقل المجتمع نحو التطور الحضاري.

عليه، يجب على المعماريين أن يحققوا توازنًا بين الحفاظ على التراث والتجديد، وهو الأمر الذي سيسهم في تطوير المجتمع بشكل مستدام، ويعزز تفاعل العمارة مع الهوية الثقافية والاجتماعية. إن هذه الرؤية الفكرية تدعو للابتكار والامتداد إلى الجذور، مما يجعل العمارة تمثل ثراء الثقافات وتاريخ المجتمعات. 

رؤية للعمارة المحلية المعاصرة

إن العمارة المحلية المعاصرة تمثل جسرًا بين القيم الثقافية الثابتة والتغيرات التي تطرأ على المجتمعات. هذه الرؤية تتطلب من المعماري إرسال إشارات تستوعب الخصائص الاجتماعية والثقافية، وفي الوقت ذاته تجسد العناصر الحديثة للحياة المعاصرة. ومن خلال استقراء المحاور التالية، يمكننا تصور مستقبل مستدام للعمارة المحلية:

1.      التوازن بين الثوابت والمتغيرات:

·     الثوابت: من الضروري الحفاظ على القيم المجتمعية والمعتقدات والبيئة، إذ تشكل هذه العناصر الجذور الثقافية التي تمس تاريخ وأصالة المجتمع. هذه الثوابت هي بمثابة الإرث الذي يُرسي الهوية، ويجب أن يُحترم في كل تصميم. 

·     المتغيرات: تعكس التطورات التكنولوجية في مواد البناء، مثل الابتكارات في العزل الحراري وتكنولوجيا الطاقة المتجددة، نقطة انطلاق مهمة للمعماريين. ينبغي عليهم دمج هذه العلوم والابتكارات الجديدة بحيث تسهم في تعزيز الإبداع في التصميم، مما يعكس احتياجات المجتمع المعاصرة. 

2.      المنهج التصميمي:

يتطلب المنهج التصميمي إجراء دراسات ميدانية وتعزيز الزيارات للمعالم التاريخية. يعين ذلك المعماري على فهم المفردات المعمارية والزخرفية التي تتسم بها الهوية المحلية. بفضل هذا الفهم العميق، يمكن للمعماري الحفاظ على أصالة التوزيع الفراغي والتفاصيل المعمارية التي تعكس هذا التراث.

3.      الإبداع والابتكار:

يجب أن يكون الإبداع مرتكزًا على استغلال العناصر الموجودة بدلاً من البحث عن كل ما هو جديد فقط. إن هذا يتطلب فهمًا عميقًا للمكونات التقليدية وكيفية التكيف معها. يمكن أن يكون الابتكار عبارة عن تطوير للممارسات التقليدية، مع تحديد ما يجب إلغاؤه أو تعديله لتلبية احتياجات العصر.

4.      التأصيل للعمارة الليبية المعاصرة:

يجب أن يركز المسار المهني للمعماريين على التأصيل للعمارة المحلية، بما يمثل جوهر العمارة الليبية. ينبغي أن يكون هناك انفتاح على التعبيرات الثقافية الخاصة بالمجتمع، مما يساعد في تخطي الانتقادات المتعلقة بالتقليد. فالفهم العميق للسياق المحلي يمثل نقطة القوة.

5.      الدور الاجتماعي والإعلامي:

يتحمل الإعلام ومؤسسات التعليم المعمارية مسؤولية لتوجيه المجتمع نحو قيمه وهويته. يجب تثقيف المجتمع حول أهمية الحفاظ على التراث، ودور ذلك في تشكيل الوعي المعماري. من خلال القيام بذلك، يمكن للإعلام لعب دور في إعادة بوصلة العمارة المحلية بما يتماشى مع هوية المجتمع.

6.      تحديث المناهج التعليمية:

ينبغي لمؤسسات التعليم المعماري التأكيد على أهمية المزج بين المناهج الغربية والتقاليد المحلية. يجب مراجعة المعطيات الاجتماعية والبيئية بشكل دقيق، لتزويد الطلاب بالأدوات اللازمة لفهم الخصوصيات المحلية ومتطلبات سوق العمل. هكذا يمكن تخريج جيل من المعماريين قادرين على الابتكار والمساهمة في تعزيز الهوية المعمارية.

خاتمة:

إن النظرة إلى العمارة المحلية المعاصرة ليست مجرد إحياء للماضي، بل هي عملية ديناميكية تتطلب الحوار المستمر بين التراث والحداثة. يجب على المعماريين العمل على التعبير عن أدوارهم كحلقة وصل بين التاريخ والابتكار، متجهين نحو بناء بيئات تعكس هويات مجتمعاتهم وتلبي احتياجات العصر. من خلال تحقيق هذا التوازن، يمكن للعمارة أن تعزز من استدامة المجتمعات وتساهم في تعزيز الهوية الثقافية في مواجهة التحديات المستقبلية.

 


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

التهوية الطبيعية في المباني

م/ آمنه العجيلى تنتوش المقدمة تتوقف الراحة الفسيولوجية للإنسان على الثأتير الشامل لعدة عوامل ومنها العوامل المناخية مثل درجة الحرارة والرطوبة وحركة الهواء والإشعاع الشمسي . وللتهوية داخل المبنى أهمية كبيرة وتعتبر إحدى العناصر الرئيسية في المناخ ونق الانطلاق في تصميم المباني وارتباطها المباشر معها فالتهوية والتبريد الطبيعيين مهمان ودورهما كبير في تخفيف وطأة الحر ودرجات الحرارة الشديدة ، بل هما المخرج الرئيسي لأزمة الاستهلاك في الطاقة إلى حد كبير لأن أزمة الاستهلاك في الطاقة مردها التكييف الميكانيكي والاعتماد عليه كبير والذي نريده فراغات تتفاعل مع هذه المتغيرات المناخية أي نريد أن نلمس نسمة هواء الصيف العليلة تنساب في دورنا ومبانينا ونريد الاستفادة من الهواء وتحريكه داخل بيئتنا المشيدة لإزاحة التراكم الحراري وتعويضه بزخات من التيارات الهوائية المتحركة المنعشة . فكل شي طبيعي عادة جميل وتتقبله النفس وترتاح له فضلا عن مزاياه الوظيفية . وعلى المعماري كمبدأ منطقي عام البدء بتوفير الراحة طبيعياً ومعمارياً كلما أمكن ذلك ومن تم استكملها بالوسائل الصناعية لتحقيق أكبر قدر ممكن ...

بيوت الحضر: رؤ ية معاصرة للمسكن الطرابلسي التقليدي

تصميم وعرض/ جمال الهمالي اللافي في هذا العرض نقدم محاولة لا زالت قيد الدراسة، لثلاثة نماذج سكنية تستلهم من البيت الطرابلسي التقليدي قيمه الفكرية والاجتماعية والمعمارية والجمالية، والتي اعتمدت على مراعاة عدة اعتبارات اهتم بها البيت التقليدي وتميزت بها مدينة طرابلس القديمة شأنها في ذلك شأن كل المدن العربية والإسلامية التقليدية وهي: · الاعتبار المناخي. · الاعتبار الاجتماعي ( الخصوصية السمعية والبصرية/ الفصل بين الرجال والنساء). · اعتبارات الهوية الإسلامية والثقافة المحلية. أولا/ الاعتبار المناخي: تم مراعاة هذا الاعتبار من خلال إعادة صياغة لعلاقة الكتلة بمساحة الأرض المخصصة للبناء، بحيث تمتد هذه الكتلة على كامل المساحة بما فيها الشارع، والاعتماد على فكرة اتجاه المبنى إلى الداخل، وانفتاحه على الأفنية الداخلية، دون اعتبار لفكرة الردود التي تفرضها قوانين المباني المعتمدة كشرط من شروط البناء( التي تتنافى شروطها مع عوامل المناخ السائد في منطقتنا ). وتعتبر فكرة الكتل المتلاصقة معالجة مناخية تقليدية، أصبح الساكن أحوج إليها من ذي قبل بعد الاستغناء عن البنا...

المعلم/ علي سعيد قانة

موسوعة الفن التشكيلي في ليبيا 1936- 2006 جمال الهمالي اللافي الفنان التشكيلي" علي سعيد قانة " هو أبرز الفنانين التشكيليين الذين عرفتهم الساحة التشكيلية في ليبيا... انخرط في هذا المجال منذ نحو أربعة عقود. ولد بمدينة طرابلس الموافق 6/6/1936 ف ترعرع في منطقة سيدي سالم (باب البحر) بمدينة طرابلس القديمة.والتحق بأكاديمية الفنون الجميلة بروما- إيطاليا سنة 1957 وتخصص في مجال النحت بمدرسة سان جاكومو للفنون الزخرفية، كما حرص خلال وجوده في روما على دعم قدراته الفنية من خلال دورات تخصصية في مجال الرسم الحر والطباعة والسباكة وبرز في هذه المجالات جميعا.• التحق عند عودته إلى ارض الوطن بمعهد للمعلمين ( ابن منظور ) للتدريس سنة 1964ف• انتقل للتدريس بكلية التربية جامعة الفاتح سنة1973 ف• انضم إلى كلية الهندسة/ جامعة الفاتح بقسم العمارة والتخطيط العمراني سنة 1974- وتولى تدريس أسس التصميم و الرسم الحر لغاية تقاعده سنة 2001 ف• عمل مستشارا للشئون الفنية بمشروع تنظيم وإدارة المدينة القديمة. مساهماته الفنية/ اقتنى متحف مدينة باري للفنون بإيطاليا لوحتين من أعماله الفني...