أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

{فأما الزَّبد فيذهب جُفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض}- سورة الرعد، الآية 17

الجمعة، أكتوبر 17، 2025

الهُوية المعمارية: من حضور المادة إلى حضور المعنى

العمارة ليست استجابة تقنية، بل فعلٌ ثقافيٌ يُعبّر عن الذات الجماعية

تفصيل داخلي يُجسّد حضور الهُوية في أبسط عناصرها: حديدٌ أخضر مزخرف، أصصٌ فخارية، ونظرةٌ معمارية لا تُستعرض بل تُفصح عن نفسها بهدوء.

جمال الهمالي اللافي

مواد البناء وتقنيات الإنشاء تتغير وتتطور أو تبقى على حالها لا فرق. أما الهُوية المعمارية التي تعكس ثقافة وخصوصية أمة وشعب ومنطقة فراسخة في البنيان، لا يعيبها تجدد مواد البناء أو اختلاف طرق الإنشاء. في اعتقادي وجب فهم هذه النقطة والوعي بها وعياً متجذراً في العقل والوجدان.

هذا الوعي ليس ترفًا فكريًا، بل شرطٌ أساسيٌ لفهم العمارة بوصفها خطابًا ثقافيًا لا مجرد ممارسة تقنية. فحين تُختزل العمارة في أدواتها، تُفقد قدرتها على التعبير، وتتحول إلى قشرة وظيفية بلا روح. أما حين تُستوعب الهُوية بوصفها جوهرًا متجذرًا، فإن كل مادة، مهما كانت حداثتها، تصبح قادرة على حمل المعنى، إن وُظّفت بصدق.

الهُوية المعمارية لا تُقاس بنوع الطوب أو شكل النوافذ، بل تُقاس بقدرتها على استدعاء الذاكرة، على محاورة المكان، على احترام الإنسان الذي يسكنها. إنها ليست استنساخًا للماضي، ولا انبهارًا بالمستقبل، بل موقفٌ نقديٌ من الحاضر، يُوازن بين الوفاء للجذور والانفتاح على العصر.

في زمنٍ تتسارع فيه التقنيات وتُستورد فيه النماذج، لا يكون التمسك بالهُوية انغلاقًا، بل فعلًا واعيًا. إنه موقفٌ فاعل، لا ردّ فعل. ليس رفضًا للآخر، بل تأكيدًا للذات. اختيارٌ نابع من إدراك عميق لما يُشبهنا، وما يُعبّر عنا، لا انجرارًا وراء أنماط مستوردة تُفرغ البنيان من روحه.

الهُوية المعمارية لا تُدافع عن نفسها، بل تُعلن حضورها. لا تُقاوم الذوبان، بل تُفصح عن خصوصيتها بثقة، وتُعيد تشكيل السياق بما يليق بها. إنها ليست في موقع ضعف، بل في موقع تحديد المعايير، حين يُحسن المعماري الإصغاء للذاكرة، والبيئة، والناس.

المواد تتغير، والتقنيات تتطور، لكن هذه كلها أدوات في يد المعماري، وليست محددات للهُوية. يمكن للخرسانة أن تحمل روح الطين، ويمكن للزجاج أن يعكس دفء الحجر، إن وُظّفت بوعي سياقي. فالهُوية لا تُقاس بنوع المادة، بل بقدرتها على التعبير عن الإنسان والمكان والزمان.

الهُوية لا تعني التكرار الذي يُفرغ العمارة من معناها، بل تعني التمايز. أن يكون للبنيان لهجة، وللجدار ذاكرة، وللنافذة نظرة تُشبه أهل المكان. إنها ليست استنساخًا للماضي، ولا انبهارًا بالمستقبل، بل موقفٌ نقديٌ من الحاضر، يُعيد تعريف العلاقة بين الشكل والمعنى.

إن فهم هذه النقطة لا يقتصر على المعماري وحده، بل هو مسؤولية جماعية: من صانع القرار إلى المواطن، من الأكاديمي إلى الحرفي. لأن العمارة، في جوهرها، مرآةٌ للوعي الجمعي، لا مجرد منتج فردي.

خاتمة

فليكن وعينا بالهُوية المعمارية متجذرًا، لا عاطفيًا. متزنًا، لا انفعاليًا. وليكن البناء فعلًا ثقافيًا بامتياز، لا مجرد استجابة لحاجة وظيفية. فالهُوية لا تُستحضر من خارج السياق، بل تُولد من داخله، حين يُصغي المعماري للناس والمكان والزمن،  لا للموضة أو السوق.


الخميس، أكتوبر 16، 2025

العمارة العصبية: حين يتكلم الفراغ بلغة الدماغ

 قراءة في البرمجة المعمارية العصبية وامكانيات تطبيقاتها الليبية


 جمال الهمالي اللافي

الافتتاحية: من منشور إلى فضول إلى بحث

في صباح الأمس، شارك د. إبراهيم الأصيفر على صفحته منشورًا لافتًا حول ما يُعرف بـ"العمارة العصبية" (Neuroarchitecture)، حيث كتب:

"حين ندخل مكانًا ونشعر بالراحة أو التوتر، السعادة أو الانزعاج، دون سبب واضح، فذلك ليس صدفة.
الأماكن تتحدث مع أدمغتنا بلغة لا نسمعها، لكننا نحسّها.
هذه هي لغة العمارة العصبية، حيث التصميم يتحول من شكل إلى شعور وإحساس، ومن ثم حالة نفسية."

وقد دفعني هذا الطرح إلى إعادة التفكير في العلاقة بين التصميم المعماري والمستعمل، لا بوصفها علاقة وظيفية أو جمالية فقط، بل علاقة عصبية عميقة. شاركت المنشور على صفحتي، ثم تواصلت مع المساعد الذكي "كوبيلوت" لاستكشاف هذا المجال الذي يربط بين البرمجة المعمارية وآليات عمل الدماغ.

العمارة العصبية: من علم الأعصاب إلى التصميم

العمارة العصبية هي تخصص بيني يجمع بين علم الأعصاب والعمارة، ويهدف إلى فهم كيف تؤثر البيئة المبنية على الدماغ البشري من حيث:

  • الانفعالات النفسية: مثل الراحة، التوتر، الطمأنينة، الانزعاج.
  • الوظائف الإدراكية: التركيز، الانتباه، الذاكرة.
  • الاستجابات الفسيولوجية: مثل معدل ضربات القلب، التنفس، إفراز الكورتيزول.

وفق دراسة منشورة في مجلة الفنون والعلوم التطبيقية (2024)، فإن الفراغات المعمارية تؤثر على الإنسان منذ اللحظة الأولى للدخول، عبر عمليات إدراكية وفسيولوجية لا شعورية، مما يجعل التصميم الداخلي أداة عصبية تؤثر على الصحة النفسية والرفاهية.

أمثلة معمارية تنطبق عليها المفاهيم العصبية

  • مركز سالك للأبحاث (Salk Institute) في كاليفورنيا: تصميمه يخلق شعورًا بالانفتاح والسكينة، ويُستخدم كمثال في دراسات العمارة العصبية.
  • مستشفى ماجيز (Maggie’s Centres) في بريطانيا: تعتمد على تصميمات تقلل التوتر وتدعم التعافي النفسي.
  • مكتبة بيركلي العامة: توظيف الضوء الطبيعي والمواد العضوية لتحفيز التركيز والراحة.

هذه الأمثلة تُظهر كيف يمكن للعمارة أن تكون علاجًا، لا مجرد مأوى.

 

نحو تطبيق العمارة العصبية في السياق الليبي

في ليبيا، حيث تتشابك العمارة مع الهوية والذاكرة ومواجهة الاستلاب الحضاري، يمكن للعمارة العصبية أن تكون أداة لإعادة بناء العلاقة بين الإنسان والمكان. كيف؟

  • إعادة التفكير في البرمجة المعمارية: بحيث لا تُبنى الفراغات على الوظيفة فقط، بل على الاستجابة العصبية للمستعمل.
  • توظيف المواد المحلية: التي ترتبط بالذاكرة الجمعية وتخلق شعورًا بالانتماء.
  • تصميم فراغات عامة: تراعي الإيقاع العصبي للإنسان الليبي، من حيث الضوء، الصوت، التوزيع، والرمزية.

يمكن أن تكون هذه المقاربة مدخلًا لنقد المشاريع المعمارية التي فشلت في احتضان الإنسان، رغم ضخامتها أو حداثتها الشكلية.

خاتمة

العمارة ليست صامتة. إنها تتكلم، تشتكي، تفرح، وتغضب. وما العمارة العصبية إلا محاولة لفهم هذه اللغة الخفية التي يتحدث بها المكان إلى الدماغ. في السياق الليبي، حيث العمارة ليست مجرد بناء بل خطاب، فإن فهم هذه اللغة قد يكون خطوة نحو تصميم أكثر صدقًا، أكثر إنسانية، وأكثر قدرة على احتضان الذات الجمعية.

الأربعاء، أكتوبر 15، 2025

الفن التشكيلي بين التبرير والتأسيس: حوار في مرآة العقيدة

من أعمال الفنان التشكيلي: د. صلاح غيث

جمال الهمالي اللافي

    في زمنٍ تتسارع فيه وتيرة التعبير البصري، وتتشابك فيه حدود الجمال مع حدود الشرع، يبرز سؤال جوهري: هل يمكن للفن التشكيلي أن يكون شاهدًا على التوحيد، لا مجرد انعكاس للذوق؟


    هذا النص لا يأتي ردًا على شخص، بل تفكيكًا لخطاب بات يتكرر في أوساط الفنانين التشكيليين: خطاب يبرر رسم ذوات الأرواح باعتباره "تعبيرًا عن الضعف الإنساني أمام عظمة الخلق"، ويعتبر أن "عجز الفنان عن بث الروح هو في ذاته نوع من الشهادة على قدرة الخالق".


    لكن هذا التبرير، مهما بدا متماسكًا ظاهريًا، يتجاهل أصل المسألة: أن الشرع لم يحرّم التصوير لأنه ينجح في المضاهاة فعليًا، بل لأنه يفتح باب المضاهاة رمزيًا، ويُغري النفس بما لا تملك.

    من هنا، يأتي هذا الحوار بين "المفكر" و"الحكيم" لا ليجادل، بل ليؤسس. لا ليُقصي الفن، بل ليعيد له رسالته ضمن حدود العقيدة.

المفكر:
في أحد المعارض، سمعتُ تعليقًا لفنان تشكيلي يقول إن رسم البورتريه لا يضاهي خلق الله، بل يشهد على عظمته من خلال عجز الفنان عن بث الروح. بدا لي الطرح أنيقًا، لكن شيئًا ما في منطقه ظل معلقًا.

الحكيم:
لأنه يخلط بين العجز والتقوى. العجز عن بث الروح ليس فضيلة، بل حدّ فاصل وضعه الخالق. والشرع لم يحرّم التصوير لأنه ينجح في المضاهاة، بل لأنه يقترب منها، ويُغري بها، ويفتح بابًا لا يُغلق بسهولة.

المفكر:
لكن أليس في هذا العجز نوع من التذكير بحدود الإنسان؟ أليس في اللوحة التي لا تنبض بالحياة اعتراف ضمني بأن الحياة لا تُمنح إلا من الله؟

الحكيم:
الاعتراف لا يُعفي من التعدي. آدم عليه السلام لم يُنكر أمر الله، لكنه اقترب من الشجرة. والفنان حين يقترب من ذوات الأرواح، حتى لو لم يضف لها روحًا، فقد دخل منطقة محرّمة. لا لأن نيته فاسدة، بل لأن الفعل في ذاته متجاوز.

المفكر:
إذن، هل ترى أن الفن التشكيلي يجب أن يُعيد تعريف ذاته ضمن حدود الشرع، لا ضمن حدود الذوق أو التعبير؟

الحكيم:
بل يجب عليه ذلك. الفن ليس حرًا حين يتجاوز الشرع، بل منفلت. والفنان المسلم لا يُطلب منه أن يُقلّد الغرب، بل أن يُعيد اكتشاف الجمال ضمن منظومة التوحيد. الحضارة الإسلامية فعلت ذلك، ونجحت دون أن ترسم وجهًا أو تجسّد جسدًا.

المفكر:
لكن اليوم، لا يجتمع الفنانون إلا على المجاملة، ولا يملكون ميثاقًا يُنظّمهم. من يملك مشروعًا لا يجد من يؤازره، ومن يلتزم يُتهم بالجمود.

الحكيم:
وهنا يأتي دور الكتابة النقدية. أن تُعيد ترتيب المفاهيم، وتُحصّن الوعي، وتُمهّد لتأسيس نواة صلبة. لا نحتاج إلى إجماع، بل إلى وضوح. والمقالة ليست ترفًا، بل واجب. أن نكتب لا لنُعجب، بل لنُوقظ.

المفكر:
هل ترى أن هذه النواة يمكن أن تُبنى من داخل التجربة الليبية، دون أن تذوب في نماذج مستوردة؟

الحكيم:
بل يجب أن تُبنى منها، وتُمحّص غيرها. فالدول الإسلامية اليوم، شكل بلا مضمون. وبعضها لا يملك من الإسلام إلا رسمه. ونحن لا نبحث عن رسم، بل عن روح. عن فن يُعبّر دون أن يُضاهي، ويُجسّد المعنى دون أن يُجسّد الجسد.

المفكر:
إذن، فلنبدأ من هنا. من هذا الحوار. ليكن نقطة ضوء لا تُجامل، بل تُنير. وليكن الفن التشكيلي شاهدًا على التوحيد، لا على التبرير.

خاتمة: الفن بين التوحيد والمراوغة

    ما دار في هذا الحوار ليس جدلًا حول تقنية الرسم، بل مساءلة عميقة لوظيفة الفن في ظل العقيدة. لم يكن السؤال عن قدرة الفنان على التعبير، بل عن حدود هذا التعبير حين يقترب من منطقة الخلق.

    الطرح الذي يرى في العجز عن بث الروح "قيمة جمالية" يتجاهل أن الشرع لا يُحاسب على النية وحدها، بل على الفعل ومآله. وأن الاقتراب من المحظور، حتى لو كان بنية التأمل، يظل تجاوزًا لا يُغتفر بالتبرير.

    في خلفية هذا الحوار، كانت هناك إشارات لم تُذكر صراحة:

  • أن المجاملة بين الفنانين تُعطّل التأسيس، وتُبقي الالتزام في دائرة الفرد لا الجماعة.
  • أن غياب الميثاق الإسلامي في الوسط التشكيلي الليبي ليس نتيجة نقص في الوعي، بل نتيجة تواطؤ ناعم مع خطاب الحداثة الذي يُجمّل الانحراف.
  • أن الفن الإسلامي ليس بحاجة إلى إعادة اختراع، بل إلى استعادة واعية، تُعيد تفعيل البدائل التي أثبتت عبر قرون أنها قادرة على التعبير دون أن تُضاهي.
  • أن الكتابة النقدية ليست ترفًا فكريًا، بل ضرورة شرعية، حين يصبح الفن وسيلة لتزييف العقيدة تحت غطاء الجمال.

    هذا النص لا يدعو إلى إقصاء الفن، بل إلى تحريره من وهم المضاهاة، ومن غواية التقليد. ولا يطلب من الفنان المسلم أن يُنكر ذاته، بل أن يُعيد تعريفها ضمن منظومة التوحيد، لا ضمن ذائقة السوق أو استعراض المعارض.

    إن نقطة البدء ليست في التنظيم، بل في الوضوح. ومن يملك مشروعًا، عليه أن يكتبه، لا أن ينتظر الإجماع. فالنواة الصلبة لا تُبنى من الحشود، بل من الصدق، ومن الجرأة على المواجهة.

الأحد، أكتوبر 12، 2025

الحرف الفنية كمدخل لإنعاش المدن الخاملة: تأمل في تجربة مدينة درج

 



جمال الهمالي اللافي

في ليبيا، حيث تتجاور المدن النشطة مع القرى الخاملة، تبرز الحرف التقليدية كإمكانات كامنة لم تُستثمر بعد. ليست الحرف مجرد تراث يُحفظ، بل أدوات إنتاج يمكن أن تُفعّل لتعيد تشكيل الواقع الاقتصادي والاجتماعي في المدن المنسية. ليس تعليم هذه الحرف في القرى الخاملة ترفًا، بل ضرورة تنموية تفتح أبواب العمل، وتمنح السكان معنى جديدًا للوقت والهوية.

تجربة درج: مشروع لم يُكتب له الاكتمال

منذ عقود، عُرض على مكتبنا مشروع تصميم منارة إسلامية في مدينة درج، قدمه البخاري المدني، أمين اللجنة الشعبية لشعبية نالوت آنذاك. لم يكن المشروع دينيًا صرفًا، بل كان يحمل رؤية تنموية واضحة في ثوب ديني. قال البخاري:

"مدينتي لا يتوفر فيها أي نشاط اقتصادي لأهلها، رغم شهرتهم بالصناعات الحرفية من سعف النخيل، ولكنها مدينة منعزلة عن حركة الزوار. لهذا أريد تنفيذ هذه المنارة لتستقطب الطلاب من المدن المجاورة، مما سيفتح أبواب العمل لسكان هذه القرية."

كانت الفكرة بسيطة وعميقة: تحويل المعلم الديني إلى نقطة جذب، تُعيد وصل المدينة بالعالم، وتُنعش الحرف التقليدية عبر الطلب المتزايد على الخدمات والسكن والمنتجات المحلية. لكن المشروع توقف عند لحظة التنفيذ، بعد تنحية البخاري واستبداله بغيره. هكذا، أُجهضت الفكرة لا لضعفها، بل لتقلبات السياسة وسلوكيات بعض القيادات التي لا تحتمل أن ترى مدنًا تنتعش خارج دوائر نفوذها.

دعوة للمسؤولية المحلية

هذه التجربة تدعو إلى إعادة تعريف دور القيادات المحلية. لا يكفي انتظار قرارات مركزية، بل يجب أن تتحمل كل مدينة وقرية مسؤولية الارتقاء بالحرف فيها، دعمًا وتسويقًا وتنظيمًا. فالحرف ليست هامشًا، بل قلبٌ نابضٌ إذا أُحسن توظيفه. ولا ينبغي أن تُربط المشاريع التنموية بمزاج المناصب، بل تُصان بمنظومة مؤسسية تضمن استمراريتها واستقلالها.

ما بين الحرف والسياسة: مفارقة ليبية

في ليبيا، كثيرًا ما تُجهض المبادرات لا لضعفها، بل لأن نجاحها يُربك من اعتادوا على مشهد الخمول. ثمة سلوك سياسي مريض يرى في انتعاش المدن تهديدًا، لا فرصة. وهذا ما يجب أن يُقاوَم، لا فقط بالنقد، بل بالفعل المحلي المستقل، الذي يرى في الحرف وسيلة للنجاة، لا مجرد زينة تراثية. 

الصورة المرفقة

منذ العام 1998، ظل مجسم المنارة الإسلامية لمدينة درج يرافق مسيرتي المعمارية. ولا يزال يؤنس وحدتي في مكتبي. لم يكن مجرد تمثيل معماري، بل شاهدًا على مشروع لم يُنجز، وعلى إيمانٍ لم يخفت. دفعته من مالي الخاص، بأضعاف ما قبضت من أتعاب التصميم، لأنه حمل وعدًا لمدينةٍ تستحق أن تُرى... لا أن تُنسى.


شارك في تصميم المنارة:

  • الخرائط التنفيذية: المعماري/ عزت خيري
  • الخرائط الإنشائية: المهندس/ طارق الراجل
  • الخرائط الكهربائية: المهندس/ عادل ابوقرين
  • الخرائط الصحية: المهندس/ وجيه باشا إمام (رحمه الله وغفر له(

 

نحو بيئة عمرانية متوازنة في المدن الليبية

رؤية نقدية لتفكيك المركزية وتفعيل المجتمعات المحلية في تشكيل المشهد العمراني الليبي


جمال الهمالي اللافي

مدخل

ليست المدن الليبية في حاجة إلى المزيد من المخططات المركزية، بل إلى إعادة التفكير في علاقتها بسكانها. فالبيئة العمرانية، بما تحمله من تفاصيل مادية ورمزية، لا تُبنى فقط بالإسمنت والحجر، بل بالوعي الذي يربط الإنسان بالمكان. في ظل غياب الرؤية المحلية، وتراكم القرارات الفوقية، يتشكل مشهد حضري لا يُعبّر عن الناس، ولا يستجيب لاحتياجاتهم، ولا يحترم خصوصياتهم الثقافية. ما يُفتقد ليس التصميم، بل الرؤية. وما يُشوَّه ليس الواجهة، بل العلاقة بين الإنسان والمحيط.

أين الخلل؟

  • مركزية التخطيط التي تُقصي المجتمعات المحلية.
  • غياب الهوية البصرية المشتركة بين المدن.
  • تدهور الفراغات العامة وتحولها إلى فضاءات مهملة أو تجارية عشوائية.
  • ضعف المشاركة المجتمعية في اتخاذ القرار العمراني.

هذا المقال لا يقدّم حلولًا جاهزة، بل يطرح رؤية تستوعب الواقع، وتعيد الاعتبار للمجتمعات المحلية كفاعل حضري، وتفكك المركزية الإدارية التي عطّلت قدرة المدن على التنفس.

أولًا: المدينة ليست منتجًا إداريًا

المدينة ليست مشروعًا هندسيًا يُدار من مكتب مركزي، بل كيان حيّ يتشكّل من تفاعل الناس مع المكان. حين يُختزل التخطيط في قرارات فوقية، تُفقد المدينة قدرتها على التعبير عن ذاتها، وتتحول إلى واجهة مشوّهة، لا تنتمي لمن يسكنها.

ثانيًا: المجتمعات المحلية كفاعل حضري

تحسين البيئة العمرانية لا يبدأ من المخطط، بل من الوعي المحلي. حين يُمنح السكان حق التفكير في محيطهم، تتغير طبيعة التدخلات العمرانية. المجالس المحلية، والمكاتب الهندسية، والمؤسسات التعليمية، يمكن أن تشكّل نواة فعل حضري متكامل، إذا ما أُعيد لها الاعتبار، وأُزيلت عنها القيود الإدارية.

ثالثًا: البيئة العمرانية كمرآة للهوية

المدن الليبية، في تنوعها، تحمل ملامح ثقافية غنية، تتراوح بين الطابع الإسلامي، والمتوسطي، والصحراوي، والجبلي. لكن هذه الخصوصيات غالبًا ما تُهمَل في التصاميم المعمارية، لصالح نماذج مستوردة، لا تنتمي للمكان.

في هذا السياق، لا يكون التحسين الحضري مشروعًا رسميًا، بل فعلًا مجتمعيًا، يبدأ من الممكن، لا من المثالي. وهذه بعض المقترحات العملية، القابلة للتطبيق حتى في غياب الدعم المؤسسي:

1.      تفعيل المبادرات المجتمعية الصغيرة

  • فرق تطوعية لتنظيف وصيانة الفراغات العامة.
  • أيام عمل جماعي تُعيد الاعتبار للمكان.
  • إشراك المدارس والمساجد كمراكز تنسيق محلية.

2.      تحسين الواجهة البصرية بوسائل بسيطة

  • توحيد الألوان بما يعكس رمزية ثقافية أو يبرز مادة البناء المحلية.
  • إزالة الإعلانات العشوائية، واستبدالها بلوحات توجيهية مصممة محليًا.
  • استخدام النباتات المحلية لتأطير الفراغات.

3.      إعادة تأثيث الفراغات العامة بمواد محلية

  • تحويل المساحات المهملة إلى ساحات تفاعل.
  • تثبيت عناصر تُشير إلى هوية المكان.
  • استخدام مواد محلية في التأثيث الحضري.

4.      تنظيم النشاط التجاري بشكل تلقائي

  • توحيد واجهات العرض وتقنين استخدام الأرصفة.
  • تخصيص أيام لنشاطات شعبية.
  • دعم الحرفيين المحليين في عرض منتجاتهم.

5.      حماية المعالم التاريخية والطبيعية

  • توثيق رقمي للمعالم.
  • لافتات تعريفية تُبرز القيمة.
  • التوعية المجتمعية كوسيلة حماية.

6.      بناء شبكات تنسيق غير رسمية

  • ربط الحيّ بمكاتب هندسية مستقلة.
  • التعاون مع جمعيات ثقافية وبيئية.
  • نشر التجارب عبر وسائل التواصل.

هذه المقترحات لا تدّعي الكمال، لكنها تُعيد للحيّ قدرته على التنفس، وتحوّل الفعل العمراني من انتظار إلى مبادرة.

رابعًا: المقترح التنشيطي للمجمعات المحلية

ضمن هذا التصور، يمكن اقتراح آلية تنشيطية للمجمعات المحلية، لا تُقدَّم كمشروع مركزي، بل كمبادرة داخلية.
تقوم الفكرة على تخصيص مواقع محددة في كل منطقة، تُعاد دراستها حضريًا، وتُطوَّر من خلال مساهمة المكاتب الهندسية المحلية، بالتنسيق مع المجالس البلدية، وبدعم من المؤسسات التعليمية والمجتمعية.
لا تُطرح هذه المبادرة كمسابقة، بل كفعل تحفيزي، يُمنح فيه الحيّ فرصة لإعادة تشكيل صورته، وفق اشتراطات بسيطة، قابلة للتنفيذ، وتُقيَّم بناءً على أثرها الفعلي، لا على شكلها الخارجي.

خامسًا: نحو نموذج حضري غير مركزي

ما يُقترح هنا ليس بديلاً عن التخطيط الرسمي، بل مكمل له، يُعيد التوازن بين المركز والمحيط. المدن الليبية لا تحتاج إلى المزيد من المشاريع الكبرى، بل إلى نماذج صغيرة، متكاملة، تُبنى من الداخل، وتُدار من قبل من يعرفها.

الخاتمة

تحسين البيئة العمرانية ليس مهمة هندسية فقط، بل مسؤولية ثقافية واجتماعية. والمجتمعات المحلية، إن مُنحت المساحة، قادرة على صياغة مدنها من جديد، دون حاجة إلى مركز يُملي، أو جهة تُصنّف.
ما يُطرح هنا ليس وصفة جاهزة، بل دعوة للتفكير في المدينة ككائن حيّ، يتشكل من الوعي، ويتنفس حين يُحترم، ويختنق حين يُهمَل.

الثلاثاء، أكتوبر 07، 2025

الزي التقليدي: حرفة تصوغ الانتماء وتوثّق الهوية

 حين تُخاط الهوية بالإبرة والخيط



جمال الهمالي اللافي

في زمن تتكاثر فيه الأزياء المستوردة وتُختزل الهوية في المناسبات، وتتسارع فيه أنماط الاستهلاك وتُستورد الرموز جاهزة من وراء البحار، يظل الزي التقليدي الليبي أحد أكثر التعبيرات صدقًا عن الهوية الثقافية، وشاهدًا حيًا على تنوع المجتمع وعمق انتمائه. إنه ليس مجرد لباس، بل حرفة متجذرة في الوجدان، تُنسج بخيوط الذاكرة، وتُطرّز فيها ملامح الوطن، وتُخاط على مقاس البيئة والناس. هذا النص محاولة لتأمل قيمة الزي الوطني، لا بوصفه موروثًا يُحتفى به، بل مشروعًا ثقافيًا واقتصاديًا يستحق أن يُبنى عليه.

الحرفة كذاكرة حية

خياطة الزي التقليدي ليست عملية تقنية فحسب، بل هي فعل ثقافي. الحرفيون الذين يتقنون هذه الصناعة لا ينقلون مهارة فقط، بل ينقلون ذائقة، ورؤية، ووعيًا متراكمًا. وكل غرزة في الثوب تحمل أثر اليد التي صنعتها، وخصوصية المكان الذي نشأت فيه. ولهذا، فإن استيراد هذه الأزياء جاهزة من مصانع خارجية يُفقدها معناها، ويحوّلها إلى قشرة بلا روح.

مدرسة ومتحف: من الحفظ إلى التفعيل

إنشاء مدرسة وطنية لحرفة الزي التقليدي ليس ترفًا، بل ضرورة ثقافية. مدرسة تُدرّس فيها تقنيات الخياطة والتطريز والصباغة، وتُوثّق فيها أنماط الأزياء الليبية المتنوعة، وتُمنح فيها الحرفة مكانتها الأكاديمية والمهنية. هذه المدرسة ستكون حاضنة للجيل الجديد من الحرفيين، وضمانًا لاستمرار الحرفة في وجه الاستلاب الصناعي.

أما المتحف، فهو ليس مجرد فضاء للعرض، بل منصة للتوثيق والتأمل. متحف يُبرز تنوع الأزياء الليبية، ويُظهر كيف أن كل زي هو مرآة لمجتمع، وطقس، وموقف. متحف يُعيد الاعتبار للزي كوثيقة بصرية، ويمنح الزائرين فرصة لفهم ليبيا من خلال خيوطها وألوانها.

الورش والمصانع: من الحرفة إلى الاقتصاد

دعم الورش المحلية والمصانع الوطنية التي تنتج هذه الأزياء وفقًا للمعايير التقليدية، يُحوّل الحرفة من هامشية إلى مركزية. إنه استثمار في الاقتصاد الثقافي، وفي خلق فرص عمل ترتبط بالهوية لا تنفصل عنها. حين يُخاط الزي على يد أهل المنطقة، يُصبح امتدادًا للذاكرة، لا منتجًا معلبًا.

الزي كأداة مقاومة

في وجه التغريب البصري، يُصبح الزي التقليدي أداة مقاومة ناعمة. حين يرتديه المسؤولون، والمثقفون، والمواطنون، لا يُعلنون فقط انتماءهم، بل يُعيدون تشكيل الفضاء العام ليكون أكثر صدقًا، وأكثر ارتباطًا بالجذور. إنه فعل رمزي، لكنه عميق الأثر، يُعيد ترتيب الولاءات، ويُفعّل الذاكرة الجمعية.

الزي التقليدي ليس مجرد تراث يُحتفى به في المناسبات، بل هو مشروع ثقافي واقتصادي وتربوي، يُسهم في بناء وطن لا ينسى ملامحه، ولا يستورد رموزه، بل يصوغها من خيوط الحرفة، ووعي الناس، وصدق الانتماء.

الاثنين، أكتوبر 06، 2025

العمارة بين التخصص والتكامل: دعوة لإعادة بناء العقل التصميمي



جمال الهمالي اللافي

العمارة: علمٌ تطبيقي لا يُختزل في الفن

التصميم الداخلي، تنسيق المواقع، عناصر التأثيث، وحتى التصميم الصناعي، جميعها ولدت من رحم العمارة، وهي تمثل امتداداً وظيفياً وجمالياً لها، لا يمكن فصله عنها دون الإخلال بجوهر العملية التصميمية. فهذه المجالات ليست تخصصات مستقلة بالمعنى المهني، بل هي مراحل متلازمة ومتداخلة تجري في عقل المصمم، وتتم بسرعة وتكامل، منطلقة من فهمه العميق لمتطلبات التصميم واعتباراته الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والبيئية.

وفي هذا السياق، فإن الدعوة إلى إنشاء كلية مستقلة للعمارة وتخطيط المدن لا تنطلق من رغبة في الفصل الإداري عن كلية الهندسة، بل من قناعة بأن العمارة علم تطبيقي متكامل، يجمع بين الحس الفني والدراية العلمية الدقيقة. فالمعماري لا يصمم شكلاً جمالياً فحسب، بل يضع تصوراً وظيفياً متكاملاً لمبنى يجب أن يؤدي دوره بكفاءة عالية، ويستجيب لحاجات الإنسان والبيئة.

لذلك، فإن المواد المرتبطة بعلم الإنشاءات، وعلوم المواد، وأنظمة التكييف، والإضاءة، والصحية، وغيرها من العناصر التقنية، ليست إضافات ثانوية، بل هي جزء أصيل من تكوين المعماري. ويجب أن تُدرّس ضمن منهج كلية العمارة، لا أن تُترك لاختصاصات أخرى تفصل بين الشكل والوظيفة، وتُضعف من قدرة المعماري على اتخاذ قرارات تصميمية واعية وشاملة. فالمعماري الذي يُلم بهذه العلوم، يستطيع أن يدمجها ضمن رؤيته التصميمية، ويحقق بذلك التكامل المنشود بين الشكل والمضمون، بين الفكرة والتنفيذ، وبين الإنسان والمكان.

التشطيبات: مرحلة لا يُكتمل المبنى بدونها

إن نجاح أي مبنى لا يُقاس فقط بسلامة هيكله، بل بقدرته على تحقيق الانسجام بين الداخل والخارج، وبين الشكل والوظيفة، وبين الجمال والتأثير النفسي على مستخدميه. وهذا لا يتحقق إلا من خلال تكامل هذه التخصصات، التي تمثل جميعها المرحلة التالية لتنفيذ الهيكل، فيما يُعرف بمرحلة "التشطيبات". فالمبنى غير المكتمل تشطيباً، هو مبنى غير قابل للاستعمال الإنساني.

إشكالية الفصل الأكاديمي

لكن التعليم الأكاديمي المعاصر، بدلاً من أن يعزز هذا التكامل، عمد إلى تفكيك هذه المراحل وتحويلها إلى تخصصات دقيقة، بحجة تحسين الأداء والكفاءة. فصارت العمارة جزءاً من كليات الهندسة، والتصميم الداخلي من الفنون الجميلة، وتنسيق المواقع من الهندسة الزراعية، بينما غُيّب التصميم الصناعي تماماً عن خارطة التعليم العالي في بلادنا.

هذا الفصل انعكس سلباً على الممارسة المهنية، حيث خلق تضارباً في الاتجاهات التصميمية، واختلافاً في طرق التفكير، وأدى إلى قصور واضح في المنتج المعماري. فكم من مبنى يتحدث بلغات متعددة، يفتقر للهوية والانسجام، ويدفع ثمنه مالك المشروع والمجتمع معاً.

البعد التاريخي: حين كان المعماري مسؤولاً عن الكل

في مراحل تاريخية سابقة، لم يكن المعماري مجرد مصمم للكتلة، بل كان مسؤولاً عن كل تفاصيل المبنى، من توزيع الفراغات إلى اختيار المواد، ومن تنسيق الموقع إلى التأثيث الداخلي. العمارة الإسلامية، على سبيل المثال، لم تعرف الفصل بين التخصصات، بل كانت تعبيراً متكاملاً عن رؤية ثقافية ووظيفية وجمالية واحدة. وكان المعماري يُلم بالهندسة والبيئة والحرفة، ويُنتج مباني تنطق بلغة واحدة، مهما تعددت عناصرها.

أثر الفصل على الهوية البصرية للمدن

الفصل الأكاديمي لا يُنتج فقط مصممين متباينين، بل يُنتج مدناً بلا ملامح. حين يُصمم المعماري الكتلة دون أن يعي تفاصيل التأثيث أو تنسيق الموقع، وحين يُنفذ المصمم الداخلي رؤيته بمعزل عن السياق الخارجي، ينشأ التناقض. فتغيب الهوية، ويتحول المبنى إلى كيان مشوّش، لا يُعبّر عن بيئته ولا عن ساكنيه. وهذا ما نراه اليوم في كثير من المدن العربية: واجهات مستوردة، فراغات داخلية مغتربة، ومباني تتحدث بلغات لا يفهمها أحد.

نقد فلسفة التخصص الدقيق

الفلسفة التي دفعت نحو التخصص الدقيق في التعليم، وإن بدت عقلانية من حيث التنظيم، إلا أنها عزلت المعرفة عن سياقها، وحوّلت المصمم إلى منفّذ تقني. فالمعماري الذي لا يعي أثر الإضاءة أو التكييف على تجربة المستخدم، يفقد قدرته على اتخاذ قرارات تصميمية واعية. والمصمم الداخلي الذي لا يعي منطق الكتلة المعمارية، يُنتج فراغاً لا ينسجم مع المبنى. وهكذا، يتحول التعليم إلى تفكيك للعقل التصميمي، لا إلى بنائه.

اقتراحات منهجية للتكامل

لإعادة بناء هذا العقل، لا يكفي الدمج الإداري، بل يجب إعادة صياغة المنهج. يمكن أن يشمل ذلك:

  • مقررات مشتركة بين التخصصات، تُدرّس من منظور تكاملي.
  • مشاريع تصميمية جماعية، تجمع طلاب العمارة والتصميم الداخلي وتنسيق المواقع في فريق واحد.
  • آليات تقييم تعتمد على الانسجام التصميمي للمبنى ككل، لا على كفاءة كل تخصص بمعزل.
  • تدريب ميداني يُشرف عليه معماريون ومصممون يعملون ضمن فرق متكاملة، لا منفصلة.

مبنى واحد... أربع لغات، بلا هوية

حين يُنفّذ كل تخصص تصميمه بمعزل عن التخصصات الأخرى، يتحول المبنى الواحد إلى ساحة تضارب بين رؤى غير منسجمة. فالمعماري يرسم الكتلة وفق منطق هندسي أو رمزي، دون أن يعي كيف ستُستخدم داخلياً. والمصمم الداخلي يُعيد تشكيل الفراغات وفق اعتبارات جمالية أو وظيفية لا تتوافق مع منطق الكتلة. ومصمم الموقع الخارجي يضع عناصره دون إدراك العلاقة البصرية أو الحركية مع الداخل. أما التأثيث، فيأتي كطبقة مستقلة، لا تنتمي لأي منطق تصميمي سابق.

النتيجة: مبنى واحد يتحدث بأربع لغات متنافرة. لا يحمل هوية واضحة، ولا يُعبّر عن رؤية موحدة. تتضارب فيه المواد والألوان والفراغات، وتغيب عنه العلاقة العضوية بين الداخل والخارج، بين الإنسان والمكان، وبين الوظيفة والشكل. وهو ما نراه اليوم في كثير من المشاريع المعاصرة: مبانٍ تفتقر للوضوح، تُربك المستخدم، وتُضعف من أثرها الثقافي والجمالي.

هذا التنافر ليس خللاً شكلياً فحسب، بل هو انعكاس لفشل المنظومة التعليمية والمهنية في بناء عقل تصميمي قادر على التفكير التكاملي. وما لم يُعاد الاعتبار لهذا العقل، ستظل المباني تُنتج كجزر معزولة، لا ككائنات حية تنبض بلغة واحدة.

دعوة لإعادة الدمج

إن الحاجة ملحة لإعادة التوفيق بين هذه التخصصات، من خلال دمجها تحت مظلة واحدة: كلية العمارة وتخطيط المدن. لا بوصفها تجميعاً إدارياً، بل كمنهج تعليمي يجمع بين التنظير والتطبيق، وبين البحث العلمي والممارسة الميدانية.

هذا الدمج لا يلغي التخصص، بل يمنح الطالب فرصة لاكتشاف ميوله الطبيعية، سواء في تخطيط المدن أو التصميم الداخلي أو تنسيق المواقع، مع احتفاظه بقدر كافٍ من الاستيعاب لباقي العمليات التصميمية. وهكذا، يعمل المصمم منفرداً أو ضمن فريق بلغة مشتركة، تنعكس نتائجها إيجاباً على مرافق المدينة وتفاصيلها.

نحو مدارس معمارية تُراعي خصوصية المكان

ولا يعني هذا الدمج بالضرورة تكدّس الطلاب داخل كلية واحدة، بل هو دعوة لتعدد المدارس المعمارية وانتشارها في ربوع المدن، على أسس علمية ومنهجية وفكرية، تُراعي خصوصية كل بيئة جغرافية واجتماعية وعمرانية ومعمارية. فالتكامل لا يُطلب بوصفه وحدة إدارية، بل بوصفه وحدة معرفية تُعيد الاعتبار للعقل التصميمي، وتمنحه أدواته الكاملة لفهم المكان وتشكيله بوعي.

إن استيعاب الطاقات المبدعة لا يكون بتوحيد المناهج، بل بتعددها وفقاً لاحتياجات السياق المحلي، وبناء مدارس معمارية تُعبّر عن روح المكان لا عن نماذج مستوردة. فكل مدينة تحمل في طياتها ذاكرة عمرانية خاصة، لا تُستعاد إلا عبر خطاب معماري يُنصت لها، ويُعيد تشكيلها دون تنميط أو اجتثاث.

وهكذا، يتحول التعليم المعماري من مجرد تلقين تقني إلى فعل ثقافي، يُنتج مصممين قادرين على تحويل أفكارهم إلى عناصر فاعلة ومؤثرة في رسم صورة مدننا العربية المعاصرة. كما فعلت الأجيال السابقة حين جمعت بين الأصالة والإبداع، وخلّدت منجزاتها في سجل التاريخ، لا بوصفها نماذج شكلية، بل بوصفها تعبيراً صادقاً عن هوية المكان وزمنه.

أنماط البيوت التقليدية في ليبيا

المسكن الطرابلسي التقليدي المنزل ذو الفناء " الحوش " جمال الهمالي اللافي مقدمة / يعتبر(...