تجربة شخصية في مقاومة التبسيط، واستعادة العمارة كفعل ثقافي
في زمن التهافت
جمال الهمالي اللافي
لماذا
أكتب هذه التجربة؟ وما الذي أطمح إليه من عرضها؟
لا أكتب
لأوثّق سيرة مهنية، ولا لأعرض محطات شخصية. أكتب لأن هذه التجربة هي كل ما تبقّى
من مسار امتد لأربعة عقود، لم يُثمر مشاريع ضخمة، ولم يُدر أرباحًا، لكنه بقي
وفيًا لفكرته، ومخلصًا لهويته، ومستمراً رغم الإقصاء والتهميش. أطمح من عرضها إلى إعادة فتح النقاش حول معنى العمارة في السياق
الليبي: هل هي خدمة؟ أم خطاب؟ هل هي منتج؟ أم موقف؟ وهل يمكن للمعماري أن يظل
فاعلًا، حتى حين يُقصى من التنفيذ؟
لماذا
بدأت من الحديث عن النشأة؟ وما الذي أردت الإشارة إليه؟
لأن
النشأة ليست خلفية زمنية، بل محددٌ جوهريٌ لمسار التجربة. ولدت في النصف الثاني من خمسينيات القرن الماضي، في لحظة كانت الدولة
الليبية تتشكّل، وتبحث عن ملامحها. النشأة كانت في بيتٍ لا يُفرّق بين الدين
والسياسة والثقافة، بل يتعامل معها كقضايا يومية تُناقش وتُمارس. أردت أن أُظهر أن العمارة، كما فهمتها لاحقًا، لم تكن تخصصًا منفصلًا،
بل امتدادًا لتلك البيئة الفكرية المتعددة، التي ربطت بين الفكرة والممارسة، وبين
الجمال والمسؤولية.
لماذا
توقفت عند لحظة الصدمة البصرية؟ وما الذي دفعني لدراسة العمارة؟
لأن تلك
اللحظة كانت نقطة التحول من الملاحظة إلى الالتزام. في أواخر الستينيات، بدأت الأسر الليبية تهاجر من "حوش
العيلة" إلى مساكن شعبية وعمارات مستردة. ثم جاءت لحظة الوقوف أمام دوبلكس
حديث في مدينة الحدائق، ليكتمل الإدراك بأن ما يُبنى لا يُراعي الذاكرة، ولا
البيئة، ولا الذائقة. أردت من دراسة العمارة أن أُعيد التفكير في ما يُبنى، لا أن
أُعيد إنتاجه. أن أُقاوم التبسيط، لا أن أُجمّله. أن أبحث عن صيغة تصميمية تُعيد
الاعتبار للمكان، لا أن تُقصيه.
لماذا
اخترت قسم العمارة؟ وما الذي سعيت لتحقيقه خلال الدراسة؟
لأن
القسم كان بوابة لاكتساب الأدوات، لكنني أردته مختبرًا لتشكيل خطاب مغاير. منذ اللحظة الأولى عام 1980، كان هدفي أن أُنتج مشاريع تنتمي للبيئة
المحلية، لا أن أُحاكي نماذج مستوردة. نظّمت معارض، وشاركت في رحلات علمية، وأجريت حوارات مطوّلة مع الزملاء،
لأنني كنت أبحث عن تكوين فكري جماعي، لا عن تفوق فردي. أردت أن أُعيد تعريف الطالب، لا كمُتلقي، بل كمُنتج للمعرفة المعمارية.
لماذا
أسست جماعة التراث؟ وما الذي كنت أطمح إليه منها؟
لأن الأنشطة
الطلابية كانت فرصة لطرح رؤية، لا مجرد مشاركة. أسست جماعة التراث داخل القسم، لأُعيد الاعتبار للعمارة المحلية،
ولأُظهر أن التصميم يمكن أن يكون موقفًا ثقافيًا. أردت أن أخلق تيارًا داخل القسم يُعيد وصل الطالب بموروثه، ويُعيد
التفكير في العلاقة بين العمارة والهوية.
لماذا
اخترت العمل في المدينة القديمة؟ وما الذي كنت أبحث عنه هناك؟
لأن
المدينة القديمة كانت بالنسبة لي فضاءً حيًا، لا موضوعًا للترميم. التحاقي بمشروع تنظيم وإدارة المدينة القديمة عام 1990 لم يكن قرارًا
وظيفيًا، بل عودة إلى المنبع. كنت أبحث عن مكان لا تزال
فيه العمارة تحتفظ بعلاقتها بالناس، حيث الجدران تحكي، والأزقة تُعلّم، والحرفيون
يُنتجون دون وساطة. أردت أن أتعلم من المكان،
لا أن أُعيد تشكيله. أن أُعيد اكتشاف ما تم تهميشه، لا أن أُضيف إليه من خارج
السياق.
لماذا
نظّمت برنامج التدريب الصيفي؟ وما الذي كنت أطمح إليه منه؟
لأن
التعليم الرسمي كان منفصلًا عن الممارسة، وعن المكان. نظّمت برنامج التدريب الصيفي لطلبة قسم العمارة، واستمر لست دورات. أردت أن أُعيد ربط الطالب بموروثه، وأن أُعيد تعريف التعليم بوصفه
تجربة ميدانية، لا نظرية.
كان البرنامج محاولة لتأسيس تجربة تربوية بديلة،
تُعيد للطالب علاقته بالمدينة، وبالناس، وبالعمارة كذاكرة.
لماذا
بدأت بالطرح الفكري؟ وما الذي أردت تحقيقه من خلاله؟
لأن
العمارة لا تُصحّح بالتصميم فقط، بل بالفكر أيضًا. في أول محاضرة عام 1993 بعنوان "نحو رؤية جديدة ومعاصرة لمفهوم
البيت الاقتصادي"، أردت أن أفتح باب التفكير في نموذج سكني يُراعي الخصوصية
المحلية، ويُوازن بين الجمال والاقتصاد. كانت المحاضرة بداية لسلسلة لقاءات امتدت حتى 2010، نُظّمت في فضاءات
المدينة القديمة، التي كانت تُرمّم وتُصان في ذات الوقت. أردت أن يكون النقاش داخل المكان، لا خارجه. وأن يكون الفكر جزءًا من
الممارسة، لا منفصلًا عنها.
لماذا
أسست المكاتب؟ وما الذي كنت أبحث عنه في كل منها؟
لأنني
كنت أبحث عن صيغة عمل تسمح للفكرة أن تعيش، وتجد لها حيزًا في واقعٍ لا يعترف بها.
·
مكتب
الميراث – 1993
أسسته مع
مجموعة من المعماريين، لأُعيد الاعتبار للعمارة المحلية، ولأُمارس التصميم بوصفه
فعلًا ثقافيًا.
لكن اصطدمنا بواقع مهني لا يُشجّع العمل الجماعي،
ولا يُعطي للفكرة وقتًا لتنضج.
·
أبعاد –
2001
أضفت
إليه برنامجًا لتأهيل خريجي قسم العمارة للإشراف على التنفيذ . كنت أبحث عن طريقة لربط التعليم بالموقع، وعن
وسيلة لتجاوز الفجوة بين المعماري والميدان.
لماذا
أسست المدرسة الليبية للعمارة والفنون؟ وما الذي أردت تحقيقه منها؟
لأن
المكاتب الهندسية كانت محصورة في تقديم خرائط، في زمن تم فيه إقصاء المعماري
الليبي عن المشاركة في البناء. أسست المدرسة عام 2004،
وضممت إليها مجموعة من الخريجين الذين رأيت فيهم استعدادًا لتجاوز النمط، لا
لتكراره. أردت أن أُعيد تعريف دور
المعماري، لا كمصمم، بل كمُنتج للخطاب، وكفاعل ثقافي.
خرجت بها من الهندسة إلى الاستشارة، ومن التصميم
إلى التكوين، ومن تقديم الخدمة إلى بناء الرؤية.
لماذا
نظّمت البرامج والرحلات؟ وما الذي كنت أطمح إليه منها؟
لأنني
أردت أن أُعيد لمجموعة المعماريين بالمكتب علاقتهم بالمكان، لا بالمخطط. نظّمت برامج تدريبية، لأن التعليم الرسمي لا يكفي. نظّمت رحلات إلى المدن القديمة، لأن العمارة لا تُفهم من الكتب فقط، بل
من الأزقة، والبيوت، والحرفيين. كنت أبحث عن طريقة لتوثيق
ما يُنسى، ولإعادة وصل المعماري بالذاكرة الحية.
لماذا
ساهمت في مجلة مربعات؟ ولماذا أسست مدونة الميراث؟
لأن
الخطاب المعماري يحتاج إلى أدوات نشر، لا أن يبقى حبيس الورش والمكاتب.
ساهمت في تأسيس مجلة "مربعات"، لأُنتج
خطابًا بصريًا يُعيد الاعتبار للجمال المحلي، وللرمزية المعمارية.
أسست مدونة "الميراث"، لأنني أدركت أن
العمل الجماعي ليس من ثقافة المعماري الليبي، وأن الفكرة تحتاج إلى فضاء مستقل،
يُنشر فيه ما يُنتفع به، ويُحفظ فيه ما قد يضيع.
ما الذي تبقّى من التجربة؟ وما
الذي أطمح إليه الآن؟
ما تبقّى من هذه التجربة ليس
عدد المشاريع، ولا حجم الإنجازات، بل وضوح الفكرة، وثبات الموقف، واستمرار السعي
رغم تبدّل السياقات. لقد كانت المدرسة الليبية للعمارة والفنون،
والمكاتب التي سبقتها، محاولات متتالية للبحث عن صيغة عمل تُمكّن المعماري من أن
يكون فاعلًا ثقافيًا، لا مجرد مقدم خدمة. وما أطمح إليه الآن، ليس استعادة ما فُقد، بل
البناء على ما ثبت: أن العمارة في ليبيا لا يمكن أن تُفهم أو تُمارس خارج سياقها
الثقافي، وأن إعادة وصل المعماري بالمكان، وبالناس، وبالذاكرة، هو المدخل الحقيقي
لأي مشروع إصلاحي في هذا المجال.
عرض هذه التجربة ليس استعراضًا
لمسار شخصي، بل دعوة لإعادة التفكير في بنية الخطاب المعماري الليبي، وفي أدواته،
وفي فضاءاته. وإذا كان من أثر يمكن أن يتحقق مستقبلاً، فهو أن
تُقرأ هذه التجربة بوصفها نواةً لفهمٍ مختلف، يُعيد الاعتبار للعمارة كفعلٍ مسؤول،
ويمنح الجيل الجديد من المعماريين أدوات للتفكير، لا وصفات للتنفيذ.