الأستاذ/ نور الدين الثني
ترجع معظم الآراء بناء مدينة غدامس القديمة الماثلة حالياً للعيان إلى المرحلة الإسلامية من تاريخ المدينة العريق ، فبني مع الفتح الإسلامي للمدينة جامعها العتيق والذي يدعى الجامع الكبير أو جامع ورنوغن نسبة إلى مؤسَّسه ،ووجد الفاتحون مجموعة من القصور المتباعدة والتي يعتقد أنها بنيت بالحجارة حسب مابقي من أعمدة وتيجان وبعض الأحجار المنحوتة والمنقوشة بالمدينة ، والتي استغلت في البناء خارج بيوت الصلاة في الجوامع، وبالتحديد في أماكن الوضوء ، أو أنها استخدمت في أساسات بعض البيوت ، وكذلك في بناء سواقي المياه، ومع الاستقرار الاقتصادي والسياسي الذي نعمت به المدينة بعد الإسلام ، زادت عمارتها وتطوّرت بحيث كوّنت في مابعد مع المراحل التاريخية اللاحقة وتوافد السكان إليها 7 أحياء (شوارع) منقسمة إلى متجاورتين ( محلتين ) مكوّنة مايقرب من 106 مبنى يخدم الأغراض الدينية من جوامع ومساجد ومصليات ومدارس قرآنية وزوايا صوفية وأوقاف وحوالي 1400 مسكن تتخللها الساباطات العديدة التي تخدم الأغراض الاجتماعية من مجالس ومنتديات وأماكن لعب الأطفال وساحات غير مسقفة كمتنفس للمدينة التي يعتبر حوالى 80 %من شوارعها مسقفة ، حيث استغلت تلك الأسقف كأجزاء من البيوت بحيث يتم استغلال الفراغ أحسن استغلال في توفير الظل المطلوب في مدينة صحراوية تصل درجات الحرارة فيها نتيجة سطوع الشمس إلى مستويات عالية ، كما أنها تحمي السكان من غبار الرياح القبلي التي تهب في فصلي الربيع والخريف وتسبب إزعاجاً للسكان فعولجت بغدامس بطريقتين مثليين : الأولى تتمثل في أسقف وتعرج الشوارع والأزِّقة والثانية تتمثل في إحاطة الكتلة المبنية بحدائق النخيل .
كما يوجد في المدينة أسواق تتم فيها عمليات البيع والشراء، خاصة وأن المدينة اكتسبت أهميتها من أنها بوابة صحراوية نحو أفريقيا ، تمر منها البضائع من كلا الطرفين ، وبالتالي اعتبرت المدينة محطة تجارية ، والعجيب في المدينة أنه لا يلاحظ كثرة المحلات التجارية بها و بالتالي الأسواق المتخصصة كما في المدن الإسلامية الأخرى وتلك الدكاكين الموجودة ليست قديمة فمنها ما استحدث في السوق القديم والمعروف بسوق القادوس أو تصكو أو التي بنيت إبََّان فترة الاستعمار الفرنسي للمدينة والمعروفة بسوق قودار ويطلق عليه الأهالي ( سوق برا ) إلا أن تجار المدينة يستخدمون البيوت غير المسكونة لتخزين السلع والبضائع إلى حين نقلها إلى الأسواق الأخرى سواء أكان في مدن الشمال أو الجنوب .
كما تمتاز مدينة غدامس بنظام دفاعي ربما يكون فريداً في أسلوبه ويتمثل هذا في سور خارجي به بوابات رئيسة لا تؤدي تلك البوابات إلى المساكن مباشرة بل يحتاج الداخل إلى أن يجتاز ممرات مابين مزارع النخيل المسورة وقد تصل إلى مئات الأمتار تؤدي بدورها إلى بوابات داخلية توصل إلى الأحياء ، وهذا ما منع القائد الحفصي رمضان باي من ولوج المدينة واستخدم أسلوب قطع النخيل الذي دفع السكان إلى عقد اتفاق معه وذلك عام 1609 م (1).
ومما يستحق التأمل والدراسة في غدامس ذلك النظام المائي والذي استطاع به المهندس الليبي أن يوصل الماء إلى أبعد نقطة ممكنة دونما استخدام لآلة ضخ أو رفع بل وزغ الماء الصادر من العين الرئيسية على المزارع من خلال خمس قنوات إعطاء لكل قناة حاجتها للماء بمتوالية حسابية تثير العجب ، كما عمل على إستثمار المياه المارة بالسواقي بحيث تمر من خلال ساقية تصكو على القادوس – تلك الساعة المائية التي تعد إبداعاً ليبياً غدامسياً يجب أن نفخر به – ثم على الجوامع للوضوء والغسيل قبل أن تصل المزارع (2).
إن مايواجه المعماري اليوم ويحسب له وفرة مواد البناء وجودتها بحيث تكون قادرة على تلبية حاجات المنتفع بالمبنى وتكون ملائمة مع مناخ البيئة التي سيتم فيها البناء . وما نلاحظه في غدامس ومن خلال الخبرة التي اكتسبها السكان أثناء التعامل مع المواد المحيطة وباعتبارهم تجاراً يجوبون البلدان شمالاً وجنوباً يقتبسون من خبرات الآخرين مايفيدهم ويصلح لبيئتهم فكوّنوا إبداعات في تعاملهم مع مواد الخام ؛ فاستفادوا من مزارع النخيل المحيطة بهم كمصدر الأخشاب واستخدمت في السقوف وصناعة الأبواب والأثاث وبعض أدوات الاستعمال اليومي . قد يتصور الكثيرون أن ذلك الأمر اعتيادي إلا أنه حينما يعلم أن جذوع النخيل تعالج بطريقة علمية ، وأن مهندسي الخبرة في بلادنا عرفوها قبل أن يتعرف عليها العلم الحديث قد يسأل كيف ؟
أقول : إن تلك الجذوع من النخيل التي تشاهدها أخي القارئ حينما تزور مدينة غدامس وترفع رأسك إلى السقوف والتي هي جذوع لنخيل معينة يتم اختيارها بعناية من بين عدد النخيل الموجود بالمدينة وتقطع النخلة قبل أن تموت لأن الميتة منها لا تصلح ، وبعد قطعها يتم تقسيمها إلى نصفين ويتم تنظيف الشوائب منها ، وفي القديم حسب الروايات تطمر في التراب لمدة عام حتى تجف ثم تطلى بماء من معجون التمر ( وهنا بيت القصيد ) وبعد أيام يتم تنظيفها . ودعني أقف معك هنا لنرى ماذا يحصل – سألت أحد المختصين بالكيمياء عن الأمر وقال : هي نظرية الضغط الأسموزي وملخصها امتصاص المواد الأقل كثافة ، بالأكثر كثافة أي سحب المواد السكرية من الأخشاب بحيث تكون خالية من المواد الجاذبة للحشرات بهذه الطريقة استطاع البناء أن يحافظ على متانة السقف وأن تعمر لمئات السنين ثم يتم خلط الملح الذي يجلب من منطقة مجزم (السبخة المعروفة قرب غدامس ) بالميلوس(وهو نوع من الأحجار الجيرية يتم استخدامه في طلاء الجدران ) لتبييض السنور لمنع الحشرات من الاقتراب منها . وهكذا يوضع كدعامة لحمل السقف على شرط أن يكون على هيئة قائمة بحيث يكون أكثر قوة .
بالإضافة إلى جذوع النخيل والحجر الجيري فقد استخدم أيضا البناء الجبس بحيث يقطع من محاجر معروفة شرقي المدينة وتعد له أفران لحرقه ويتم نقله إلى المدينة ليطحن بالأيدي ويستخدم في الياسة والأسقف الجبسية لبعض الحجرات بالمنزل ؛ وكذلك الأقواس (3) حيث تبنى الأقواس من حجر مسامي خفيف الوزن (الكرشو) يسهل حمله وتتداخل المونة بين المسامات فيزيد ذلك من ربط الحجارة مع بعضها كما استخدم الجبس في الأعمال الزخرفية في المنازل والساحات وأبطن الأقواس .
أما الطوب (اللََّبِِِنُ الذي يصنع بالمونة وخلطها بالقليل من مخلفات الحيوانات والقش حتى تتماسك ولا يسهل انكسارها) فهو يُعتبر المادة الأساسية في البناء .
فبهذا تعد غدامس النموذج الليبي للعمارة الصحراوية الأكثر معرفة ، حيث إن هناك بعض النماذج الأخرى التي تحتاج منا إلى رؤية وتأمل اللتين استطاع من خلالهما المبدع البنّاء أن يكتشف بيئته ويكيف متطلباته بتواضع في التكاليف فارضاً هويته الإسلامية منسجماً مع مناخه الطبيعي والاجتماعي.
1- ـ يُنظر حبيب وداعة الحسناوي ، حملة رمضان باي على غدامس سنة 1018هـ / 1609م كما صوِّرها مخطوط غدامس ، مجلة البحوث التاريخية ، السنة الأولى العدد الأول يناير 1979 ، ص.ب 69-81.
2ـ للاستزادة يٌنظر نور الدين الثني ، عين الفرس بغدامس معلم حضاري مميَّز ، مجلة البحوث التاريخية . السنة الثامنة عشرة ، العدد الثاني ، 1996، ونور الدين الثني ، عين الفرس مصدراً للحياة . صحيفة عين الفرس . صحيفة تراثية تصدر عن اللجنة المنظمة لمهرجان غدامس السياحي الدولي في دورته العاشرة ، شهر الحرث ، 1373، أكتوبر .2005.
3- ـ صلاح رفعت سرحت ، الأقواس الغدامسية رمز لأصالة العمارة المحلية ، بحث قدم بالندوة الهندسية للجمعية الوطنية للحفاظ على التراث العمراني ، نالوت ،2003.
المصدر/ مجلة مربعات، العدد 01 ، صيف 2007
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق