دكتور/ عياد
هاشم**
تأتى
هذه المتابعة النقدية كمحاولة لتصحيح المغالطات الشنيعة والكبيرة في حق تاريخ فننا
التشكيلي ورواده الأوائل ، ولنضع حدا لهذه الأخطاء ونهاية للضبابية الكثيفة التي
تكتنف وتغطي تاريخنا التشكيلي ، ولنسلط الضوء على مسيرة وتاريخ الفن التشكيلي في
بلادنا لنزيل الغموض ونؤكد حق ريادتنا في هذا المجال الحيوي الهام وتقدير فنونا
وجهود مبدعينا وتجاربهم الفنية المختلفة والمتواصلة منذ القدم .
بالنظر
إلى ما كتبه الكتًاب العرب الذين تناولوا مسألة حركة الفن التشكيلي الليبي ضمن ما
كتبوه عن تاريخ الفن التشكيلي في البلدان العربية قد شكلت عدة تساؤلات هامة من أجل
حل هذه المغالطات ومسألة دور الفنانين الليبيين في حركة التنوير الفني العربي و
أصالة وريادة فننا في الوطن العربي ، ومهما كان ذا بقصد أو بدون قصد فقد جاءت معظم
هذه الكتابات سلبية ومغلوطة وأضًرت – بكل أسف – بتاريخنا الفني المشرف وخيًبت
الآمال ، أن لبعض هؤلاء الكتاب يعد من ذوي الاختصاص ولهم باع طويل في الكتابة
الفنية إلا أنهم لم يعيروا اهتماما لحركة الفن التشكيلي الليبي وإسهاماتها على
المستوى العربي والدولي ، فجاءت هذه الأبحاث مقتضبة ، وناقصة ، وغير علمية ، ولم
تقف على الحقائق التاريخية على نحو ثابت ودقيق ومتفحص ، فجاءت كتاباتهم بسيطة ،
سطحية و ساذجة ، اذ صغًرت من مقام فننا التشكيلي وهمًشت بواعثه التقدمية وأبعدته
كثيرا عن مكانه الحقيق في المسيرة الفنية العربية . وبعيدا عن الانفعالية وتضخيم الذات
يمكننا أن نقول : نحن الليبيون رياديون، وأصحاب حضارة مؤثرة في حضارات كبرى أخرى
كثيرة وهذا ما يدفعنا إلى التساؤل :-
لماذا كل هذا التشويه؟ هل هو
ناتج عن ضعف بصر أم بصيرة ، أو قلة خبرة في مجال البحث العلمي ، والتاريخي السليم
، أو سوء فهم وتجاهل مقصود؟
في
السطور اللاحقة سأستعرض نماذج من هذه الكتابات إلى وردت في أكثر من سبعة كتب
متفرقة ، وقعت بين أيدينا محاولين توضيح مدى الخلل الوارد فيها لعلنا بذلك نضع
النقاط على الحروف ، ونتمكن من تصحيح الأخطاء التي أدت إلى النسيان – أو التناسي –
لريادة الفن التشكيلي الليبي على الصعيد العربي والإسلامي والدولي تجليا للحقيقة
وإظهارا للحق .
أولا: كتاب الفن الحديث في
البلاد العربية.
المؤلف / د.عفيف بهنسي - دار
الجنوب للنشر . اليونسكو ، تونس ..1980.
يعتبر
المؤلف د.عفيف بهنسي أحد الباحثين العرب المعروفين في مجال الفنون والآثار ، وهو
حاصل على درجة دكتوراه الدولة من جامعة باريس في مجال تاريخ الفن ويعمل أستاذاً
لفلسفة الفن العربي بجامعة دمشق من عام 1959.
جاء
في صدر الكتاب ( تصدير ) كلمة مختصرة جدا كافتتاحية لمضمون و أهداف هذا الكتاب
وفيه يستعرض المؤلف الأعمال التشكيلية الفريدة التي تعكس المراحل السوسيولوجية
للنهضة العربية ويقدم للجمهور العريض معلومات قيمة عما يبشر به فن لا يعرفه إلا
القليلون – حسب رأي الكاتب – ولكي تكون منظمة اليونسكو بعيدة عن أي نقد أو مسائلة
وغير مطالبة بأي توضيح أومتابعة فقد دونت ملاحظة هامة في الصفحات الأولى للكتاب
تخلي فيها مسؤوليتها عن جميع الآراء التي طرحت بالكتاب ولا تتدخل بها ، وإنما هي
تعبر عن وجهة نظر الكاتب الخاصة .
نلاحظ
في القسم الثالث من الفصل الثاني الذي يحمل عنوان : ( رواد الفن التشكيلي ) أن
المؤلف يتحدث عن بدايات الفن التشكيلي في كثير من الدول العربية ، واعتبرها دولا
رائدة فيه ، ولم يذكر – لا من قريب ولا من بعيد – الفنون التشكيلية الليبية ضمن
هذه المرحلة المبكرة كإحدى الدول العربية الرائدة ، رغم أن بعضا ممن ذكرهم قد
بدؤوا هذا النشاط في أواخر الستينيات ومع بداية السبعينيات من القرن الماضي فقط،
أي أنهم متأخرين عن الفنانين التشكيليين الليبيين بعدة عقود .
في
القسم الثالث ( التجريد في الفن العربي ) لم يتحدث أيضا عن تجربة الفنانين
الليبيين التجريدية في الوقت الذي كان يوجد فيه بعض من هؤلاء الفنانين الليبيين
الذين قدموا تجارب تجريدية رائدة ومتقدمة زمنياً ، كما هو الحال مع الفنان عبد
المنعم ن ناجي الذي عرض لوحاته التجريدية في احدي قاعات الفنون التشكيلية بتونس
خلال عام 1953 م .
وفي
القسم الأول من الفصل السادس يتحدث المؤلف عن ( المجال الفني ، الفنان المؤسسات ،
الجمهور ) لم نجد أثرا لأي مؤسسة فنية ليـبـية في مجال الفنون التشكيلية مع العلم
بأن أول مدرسة للفنون في الوطن العربي كافة قد تأسست بطرابلس الليبية في عام 1897
م ، وهي مدرسة الفنون والصنائع الإسلامية ، وبعدها ظهرت النوادي الخاصة بالرسم ،
وجمعيات الفنون التشكيلية في كل من مدينتي طرابلس وبنغازي ، ثم تأسست المعاهد
العليا ، والكليات الخاصة بالفنون . أما في آخر الكتاب فيضع المؤلف ملحقاً خاصاً
كمعجم للفنانين التشكيليين العرب حيث نراه يذكر عدداً قليلاً جداً من الفنانين
الليبيين ،وبعد التدقيق في تواريخ ميلادهم نكتشف أنهم اكبر سنناً ممن اعتبرهم
الكاتب رواداً في الفن التشكيلي العربي ولكن كاتبنا لم ينتبه إلى هذه الناحية
........ نأمل أن يكون هذا مجرد هفوة ، ولكن يا لها من هفوة .
ثانياً : الفن التشكيلي
المعاصر في الوطن العربي . 1885 - 1985 .
المؤلف : شوكت الربيعي .
الناشر : الهيئة المصرية
العامة للكتاب ...1988.( 1.(
في
القسم الثاني من هذا الكتاب تحدث الكاتب عن الفن التشكيلي في كل من ( مصر والسودان
و أقطار المغرب العربي ) حيث ورد اسم ليبيا – رقم 3 تحديداً – وقد ذكر المؤلف
أسماء بعض الفنانين الليبيين الرواد كنموذج ولكنه لم يعتبرهم كرواد في الوطن
العربي وإنما حصر ريادتهم كرواد داخل ليبيا فقط ، وهذا ليس من الموضوعية في شي.
كانت لهم إسهامات جادة في الفن التشكيلي الليبي وخاصة اؤلئك اللذين اثروا في
الحركة التشكيلية وأكدوا ريادتهم فيها منذ أواخر القرن التاسع عشر وما بعده أمثال
: محمد علي لاغا ، وسامي عتيق ، وفؤاد الكعبازي .......وغيرهم.
ومن
ناحية ثانية أهمل الباحث تواريخ بدايات هؤلاء الفنانين الليبيين الرواد وتجاربهم
الفنية . ورغم إن الكاتب قد أشار إلى مدرسة الفنون والصنائع الإسلامية إلا انه
أهمل ذكر تاريخ تأسيس هذه المدرسة .
في
القسم السابع ( بيوغرافيا الفنانين التشكيلين في الوطن العربي ) يبدوا الارتباك
واضحا على كاتبنا حتى انه خلط و جمع فناني ليبيا مع فناني سوريا ، كما انه لم يدرج
إلا عدداً ضئيلا لا يتعدى أصابع اليد الواحدة ، وهؤلاء –حسب رأيه – هم فقط فنانو
ليبيا حتى عام 1988 م مع أن عدد الفنانين التشكيلين الليبيين أكثر بكثير مما ذكر
في هذا الكتاب في الجزء الخاص بليبيا ، وفوق ذلك فان الكاتب لم يهتم بتواريخ
البدايات الفنية للتشكيليين الليبيين لهم مما يثير عدة تساؤلات حول مصداقية كل
المعلومات التي جاءت في هذا الكتاب.
ثالثا : كتاب طائر الشوق
الأصفر – سفر في رؤى الفن وتحرير الابداع ( 1959 – 1999 )
المؤلف : شوكت الربيعي
الناشر :المجمع الثقافي أبو
ظبي – الإمارات العربية المتحدة ( 2 ) . 2000.
هذا
كتاب آخر لنفس الكاتب السابق. تميز بأناقته، وعدد صفحاته التي وصلت إلى نحو 672
صفحة ، والكتاب هو مجلد ضخم ويحتوي على العديد من الصور الملونة ، والدقيقة
والجميلة ، هذا من حيث الشكل ، أما من حيث المضمون فقد كرر الكاتب نفس ما كتبه في
السابق بل هو صورة طبق الأصل عنه ، ولم يدخل أي مادة جديدة على ما ذكره في كتابه
السابق ، وكأنه بهذا يريد أن يؤكد معلوماته السابقة رغم ما يكتنفها من أخطاء
ومعارف بائدة و زائفة . وقد درجت العادة انه إذا ما رغب كاتب ما في إعادة نشر
وطباعة كتبه أن يأتي بجديد فيها وأن يحاول الوقوف على آخر ما استجد من معلومات ،
وبالتالي ينقح ويضيف كل معلومة جديدة ، غير أن كاتبنا لم يأخذ بهذه العادة الحميدة
.وأسوأ ما في هذا الكتاب هو اهتمام الباحث بقطر دون آخر وعنايته بفنانين دون
فنانين آخرين لهم ريادتهم . ويبدو أن صحابنا مفتون بفناني الخليج أكثر من غيرهم في
هذا الشأن ( يدفعون أكثر)
.
رابعاً : كتاب مجئ الفن
بمفهومه الأوروبي إلى العالم العربي.
المؤلف : د.أحمد بار . در
الورد ، البحرين – (3 ) .1998 .
تحدث
المؤلف عن معظم أقطار الوطن العربي ، ولكنه لم يتطرق على الإطلاق للفن التشكيلي في
ليبيا ، وكان لسان حاله يقول : كفى المؤمنين شر البحث والتنقيب.
خامسا: كتاب / الحركة
التشكيلية المعاصرة في الوطن العربي.
المؤلف : محمد حسين جودي .
الناشر : دار المسيرة ،
الأردن (4). 1998 م .
في
القسم الخاص بليبيا ، وتحديداً في الصفحة 152 ، تحدث المؤلف عن الأسماء القليلة
الواردة في كتاب شوكت الربيعي السابق ذكره وقد اقتبس المؤلف جودي كل المعلومات
الضحلة والضعيفة – مع الأسف – من كتابي الربيعي السابق ذكرهما ، والتي حملت نفس
الأخطاء والمغالطات الفادحة مثل حديثه عن الفنان الساخر الكبير ( الكاريكاتيري )
محمد الزواوي ( رحمه الله ) الذي نقله ( جودي ) نقلا حرفياً – تقريباً - وبأخطائها
المطبعية ايضاً . والغريب في الأمر والظريف ايضاً انه أضاف إلى الفنان لقباً
جديداً لم نسمع به من قبل حيث لقبه ب( معمري).
ومن
الواضح هنا تداخل المعلومات وتضاربها مما جعل الكاتب ينظر إلى الفنان المغربي
المعروف ( معمري ) على انه الزواوي الفنان الليبي مع انه يشير إلى ولادته في مدينة
فاس بالمغرب عام 1916 م ................ ما هكذا تؤلف الكتب .... يا جودي.
سادساً : كتاب / من التأسيس
إلى الحداثة في الفن التشكيلي العربي المعاصر .
المؤلف: محمد أبو زريق.
الناشر : المؤسسة العربية
للدراسات والنشر ، بيروت لبنان (5) 2000.
محمد
أبو زريق كاتب من الأردن ، والكتاب مدعوم من أمانة عمان الكبرى بالأردن ، يقول
الكاتب في القسم الخاص عن بدايات الفن التشكيلي الحديث في الوطن العربي – وتحديداً
في الصفحة ( 31 ) ما يلي :-
( ففي ليبيا كان هناك فنانون شعبيون قاوموا الاحتلال
الإيطالي، أمثال محمود الارناؤوطي ، فقد درس في مدرسة الفنون والصنائع الإسلامية ،
أما عوض عبيدة فقد درس على يدي الفنان الإيطالي – فري الإيطالي ). لم يوضح كاتبنا
هنا كيف قاوم اؤلئك الفنانون الاحتلال الإيطالي .
وعند
حديثه عن مدرسة الفنون والصنائع الإسلامية لم يوضح الكاتب كيف ومتى تأسست هذه
المدرسة ، وما هي مناهجها وأهدافها التي تأسست عليها. والواقع إن الكاتب اكتفى بما
جاء في المرجع : رواد الفن في البلاد العربية لمؤلفه الدكتور عفيف بهنسي
فقط، بل انه لم يهتم بصحة ما نقله من ذلك المرجع ، ولم يتعب نفسه في البحث العلمي
الجاد .
أما
في الصفحة ( 48 ) فيتحدث الكاتب عن الفنان الليبي المصمم محمد شعبان ضمن الأمثلة
التي أستشهد بها كاتبنا للتحدث عن المضمون التعبيري في الاتجاهات السريالية، وهي
إشارة ايجابية بالخصوص ولكن لم يذكر الشيء الكثير عن هذا الفنان.
فلماذا هذا الشح في
المعلومات يا ترى؟
سابعاً : كتاب : الفن
التشكيلي العربي وابرز مبدعيه.
المؤلف : محمد مهدي حميدة .
الناشر : ( مصر ) دار سعاد
صباح مطبعة القبس ، بدون تاريخ.
افتتح المؤلف كتابه بمقدمة جاء
فيها :-
( تظل الكتابة عن الفن التشكيلي ضرورة ملحة لما تحمله في
طياتها من قدرة هائلة على الرصد الشامل أو النقد الصادق الأمين والكتابة عن الفن
التشكيلي العربي).
لقد
تحريت الدقة في الوقوف على سلامة المحتوى، من خلال تصفحنا لذا الكتاب ومراجعته حول
الفن التشكيلي الليبي، حيث بدأ في قسمه الأول بالحديث عن الحركة التشكيلية وابرز
مبدعيها في بلاد العرب حيث أفرد السودان وليبيا والصومال في موضوع واحد، فتحدث عن
ليبيا مبتدئاً كلامه بمقطع قصير جداً أخذه من كتاب ( حول الحياة في الصحاري
الليبية ) للكاتب الليبي الكبير إبراهيم الكوني مشيراً إلى فنون الكهوف
القديمة في تاسيلي و اكاكوس حيث ذكر المؤلف بأنها ترجع إلى الالف السادسة قبل
الميلاد على الرغم أنها أقدم بكثير مما اعتقد حسب المراجع والاستكشافات الحديثة
لعلماء الآثار وهذه مغالطة تاريخية كبيرة جداً، ثم انتقل الكاتب بالحديث مختصراً
وموجزاً إلى حضارة ليبيا في العهد الروماني ، وذكر مدنها بأخطاء كثيرة و كبيرة في
مسمياتها نأمل أن تكون أخطاء مطبعية لا أكثر وفي عنوان فرعي آخر يتحدث كاتبنا عن
الفن الحديث في ليبيا فيقول :-
( أن بعض
الفنانين الليبيين قد اخذوا أشكالهم واتجاهاتهم من الإيطاليين خلال فترة الاستعمار
الإيطالي لليبيا) ويؤكد هذا الكاتب ويصر على أن نتاجات مدرسة الفنون والصنائع
الإسلامية هي من بين الفنون التي تأثرت بالفنون الإيطالية، وهذا بطبيعة الحال أمر
مغلوط فيه وغير صحيح حيث أن الاستعمار الإيطالي لم يجلب معه الثقافة والفنون وإنما
جلب البؤس والحرمان، والإرهاب والدمار، ووجد مقاومة عنيفة من قبل الشعب الليبي
وليس بالترحاب وبالورود، ونقول للكاتب بأن مدرسة الفنون والصنائع الإسلامية ليست
لها علاقة بالاستعمار الإيطالي منذ تأسيسها، بل أن الاستعمار الإيطالي لجأ إلى
إغلاق هذه المدرسة في فترات مختلفة، واستعملها الإيطاليون ليس لنشر الثقافة
والفنون، وإنما كمخزن سلاح لهم لمقاومة المجاهدين الليبيين .
وفي
عنوان فرعي آخر ( الجيل الجديد ) تحدث فيه الكاتب عن مرحلة ما بعد الحرب العالمية
الثانية وذكر بعض الفنانين في إشارات عابرة ، ولو أنها تمثل الشيء الوحيد الايجابي
في هذا الكتاب.
ضمن
ملاحق الكتاب أعد الكاتب ملحقاً، هو عبارة عن جدول تاريخي ذكر فيه معظم الدول
العربية من خلال مؤسساتها الفنية المختلفة في جدول منظم إلاّ أنه لم يشمل برعايته
مؤسسات فنية ليبية مع أن مدرسة الفنون والصنائع الإسلامية هي أقدم المدارس الفنية
المتخصصة في الوطن العربي، إذ تأسست في العام 1897م بمجهدات ذاتية من أبناء الشعب
لليبي، وتعتبر نموذجا فريداً في وجودها، وفي هدفها حيث سعت إلى التمسك بالأصالة
والتراث الإسلامي ، ناهيك عن وجود كثير من الجمعيات والنوادي الخاصة بالفنون مثل
نادي الرسامين، بالإضافة إلى وجود المعاهد، والكليات، والقاعات، والمراسم التي
ظهرت من حين لأخر في فترات مختلفة و متلاحقة .
وفي
ملحق آخر خصصه الكاتب لعرض نماذج من الأعمال الفنية حظيت لوحة واحدة فقط من ليبيا
. نعود إلى مقدمة المؤلف في هذا الكتاب والتي اشرنا إلى شئ منها لنسأل الكاتب ،
أين المنهج التاريخي ، والإحصائي الذي انطلقت منه دراسته هذه كأساس للعمل حسبما
صرح به؟ وكما كان يعتقد انه قد تحرى الدقة والرصد الشامل .
في
ختام استعراضنا لنماذج من الكتب التي اهتمت بتاريخ الفن التشكيلي في الوطن العربي
وما ورد فيها من بيانات أو معلومات عن الفن والفنانين الليبيين ، والتي وجدناها
فاقدة للمصداقية بكل أسف و إستغراب ، وجاءت سريعة ومقتضبة ، كما أنها امتازت بالشح
في المعلومات والمغالطات ، لذا نحاول تصحيح هذه الأخطاء من خلال عرض موجز لتاريخ
حركة الفن التشكيلي الليبي وذلك على النحو التالي:
يرجع
تاريخ الفن التشكيلي الليبي إلى جذور عميقة موغلة في القدم، ونشأ عندما بدأ
الإنسان على هذه الأرض الليبية يعي أهمية الاحتماء داخل الكوخ أو الكهف حتى يؤويه
ويحتمي به من هول الطبيعة وبطش الحيوانات المفترسة، ومن داخل هذه الكهوف وعلى
أطرافها بدأت قصة الرسم والتصوير والنحت البارز والغائر منذ ألاف السنين التي ترجع
إلى أكثر من عشرة ألاف سنة قبل الميلاد، حيث رسم وصور ونقش ونحت على جدران كهوفه
الأولى في كل من ( تاسيلي) و ( اكاكوس) و ( العوينات) وغيرها من كهوف الجبال
الممتدة وسط الصحراء الكبرى في جنوب البلاد ووسطها ، كانت أروع الفنون وأبدعها
لإنسان بدائي لم يعرف القراءة والكتابة بعد، ولم يعرف بناء المنزل ونسج الملابس
مما ساهم في بناء حضارة الإنسان الأولى في العالم وأصبحت هذه الكهوف بمثابة متاحف
مفتوحة لا زالت تفوح بعبق رائحة الماضي، وأجوائه الساحرة الغابرة، مروراً وبشكل
مختصر جداً بالحضارات الكثيرة والمتنوعة التي شهدتها أرضنا الليبية من حضارات
فينيقية وإغريقية ورومانية إلى الفتح العربي الإسلامي، وصولا إلى المدينة والتقدم
التي وصلنا إليها من الحداثة والمعاصرة في كافة المجالات المختلفة رغم الظروف بين
الفينة و الأخرى.
|
رسومات الكهوف بأكاكوس |
الفنون
الليبية بشكل عام التي تأثر بها الكثير من الأقوام والأجناس التي مرت على هذه
الأرض الطيبة المعطاءة، سواء كان ذلك بالاتصال المباشر أو غير المباشر، فليس بعجيب
أن يقول المؤرخ اليوناني المعروف هيرودوت كلمته الشهيرة: ( من ليبيا يأتي دائما
الجديد ). فقد اخذ الرومان على سبيل المثال الكثير من العادات والتقاليد
الفنية السائدة في ليبيا من الزي الشعبي وبالذات ( الجرد أو الحولي )
الليبي، وبعض السلوكيات الاجتماعية والفنية الأخرى القديمة. وها هو العالم – سمت
كاج بيركت – ( SMITH
KAJ BIRKET ) يقول في كتابه
ممرات الحضارة :- ( Paths
of Culture ) الصادر عام 1965 م
على أن ثوب ودرع أثينا قد نقلهما الإغريق عن النساء الليبيات . ولقد كانت تماثيل (
أثينا ) تتألق بهذا الثوب الذي نقله اليونانيون عن الليبيات. ( 5 (
|
الجرد الليبي للرجال والفراشية للنساء |
ثم
يذكرنا التاريخ ب ( اوناس) أو أنيس الفيلسوف الليبي الذي اثبت علاقة الليبيين
بفنون الأهرامات بالإضافة إلى الكثير من الرسوم والتصاميم والرموز التي تطابقت مع
الفنون المصرية القديمة من خلال ظهورها في ليبيا قبل ظهورها في مصر القديمة بآلاف
السنين، وهذا ما يؤكده نزوح الكثير من الليبيين إلى أرض النيل طلباً للماء جماعات
حتى وصلت بعضها إلى سدة الحكم في مصر القديمة مثل القائد الليبي المعروف شيشنق في
عهد بعض الأسرات الفرعونية.
أما
بالنسبة للأتراك فقد مكثوا في بلادنا أكثر من أربعة قرون متتالية وقد تأثروا هم
الآخرون بفنون الليبيين، ونقلوا بعضها إلى بلادهم للاستمتاع بها والتفاخر بالزي
الليبي المزركش للفرسان الليبيين في قصورهم و بخاصة مجالس السلاطين الرئيسية،
ونقلوا كذلك نماذج من الأسلوب المحلي المتميز في العمارة الدينية والمدنية. ثم كان
لتجنيد بعض الفنانين الليبيين الكبار في الجيش التركي أثره على نقل إبداعات هؤلاء
الفنانين إلى تركيا والتفاخر بهم في أوروبا أمثال كل من الفنان، محمد على لاغا،
وسامي عتيق ورسوماتهما عن طرابلس الليبية الرائعة تؤكد هذا وتربط العلاقة القوية
لهؤلاء الفنانين ببلادهم وتعلقهم بها .
|
أحد أعمال الفنان التشكيلي محمد علي لاغا |
تأسست
مدرسة الفنون والصنائع الإسلامية – إذا كان النقاد العرب لا يعلمون – عام – 1897 م
كما أسلفنا – وبذلك تعتبر بحق أولى المدارس الفنية المتخصصة في الوطن العربي وهي
مازالت ظاهرة إلى يومنا هذا رغم توقفها لبعض السنوات بسبب الاستعمار الإيطالي
الفاشستي لبلادنا، هذا ولقد حققت نجاحا كبيراً وخلقت بداية فعلية لفن تشكيلي ليبي
حديث عكست تراث هذه الأمة وكونت ذوقاً فنياً رفيعاً ينتمي لجذور هذه البلاد، و
أفرزت الكثير من المواهب المبدعة التي شقت طريقها بنجاح وأصبحت رائدة في حركة بناء
الفن التشكيلي من جديد بروح عصرية ومواكبة للتقدم الفني العربي والإسلامي والعالمي .
|
مدرسة الفنون والصنائع الإسلامية بطرابلس- ليبيا |
في
مطلع القرن العشرين برز الكثير من الفنانين الرواد أمثال: الفنان المهدي الشريف،
ومحمد الارناؤوطي، وأبو القاسم الفروج وغيرهم ثم جاء الشيخ أبو بكر ساسي المتميز
بخطوطه وزخارفه الإسلامية، والفنان التجريدي عبد المنعم بن ناجي الذي عرض أول
معارضه عام 1953 ، ثم الهاشمي داقيز ، وعلي القلالي المختصين بفن الفخار والخزف
والزخارف، وخلال فترة الستينيات ظهرت أعمال الفنان الجوال محمد البارودي.
وفي
مدينة بنغازي كان لتجمع عدد من الفنانين خلال بداية الخمسينيات أثره الكبير في
تكوين جمعية للفنون عام 1951 أمثال الفنان عوض عبيدة ويحي البدوي وفخر الدين
إبراهيم حسن بن دردوف وأبو حميدة وغيرهم ممن التحقوا معهم بعد ذلك مباشرة، أمثال
الفنان محمد استيتة من مدينة درنة .
|
من أعمال الفنان التشكيلي عوض عبيده |
|
من أعمال الفنان التشكيلي عوض عبيده |
ثم
توالى ظهور الفنانين التشكيليين المتخصصين في فروع الفن التشكيلي المختلفة من رسم
ساخر( كاريكاتير) إلى التصميم الداخلي للمسرح ( الديكور) إلى فن الملصقات،
والطباعة والنحت وغيره. فكان على سبيل المثال الفنان فؤاد الكعبازي، ومحمد شرف
الدين، وعلي فهمي خشيم. ثم ظهر الفنان الكبير محمد الزواوي مع بداية الستينيات
ليبدأ رحلة المشوار والوصول بفنه الساخر إلى العالمية وليس على مستوى العربي فقط. وفي
فترة السبعينيات ظهر عدد كبير جداً من المبدعين التشكيلين يتعذر ذكرهم هنا وخاصة
بعد تأسيس ناد للرسامين في أواخر الستينيات. ووحدة الفنون التشكيلية بأمانة
الإعلام والثقافة، وفتح الكثير من قاعات العرض الفنية التي تضاهي قاعات العالم
التشكيلية في نظامها وطريقة التعامل، والعرض الفني أمثال الدار الليبية للفنون
ودار الفنون وقاعة الف باء وقاعة الواسطي ودي فيلا وغير ذلك .
كما
كان لتأسيس كليات للفنون ، والمعاهد العليا المتخصصة الأثر الكبير أيضاً في الدفع
بحركة التشكيل الليبي، ودخلت الدراسات التشكيلية، ليس على المستوى الجامعي فقط بل
على مستوى الدراسات العليا في هذا المجال لتحضير درجة ( الماجستير ) و ( الدكتوراه
) في داخل البلاد بعد وصول عدد كبير من المتخصصين من حملة هذه الشهادات من أوروبا
وأمريكا وبعض الدول العربية منذ بداية الثمانينيات.
واليوم
أصبحت البلاد تعج بعدد رهيب من الفنانين التشكيليين المتميزين ، ومنهم من فاز
وتحصل على أعلى المراتب والجوائز الفنية العالمية المعروفة منذ فتر الستينيات والى
يومنا هذا.
هذا
مجرد ملخص بسيط جداً عن تطور حركة التشكيل الليبي نضعه أمام نقاد الفن لتشكيلي
العربي ، ونطرحه كمدخل إلى البحث عن تاريخ هذا الفن في بلادنا، مشيرينا إلى مدي
قدمه وريادته ، وتطوره على مر التاريخ ومساهماته الكبيرة .
المراجع
1- الربيعي ، شوكت ، الفن التشكيلي المعاصر في الوطن العربي
1885 - 1985 ، الهيئة العامة للكتاب ، القاهرة ، 1988.
2- الربيعي ، شوكت ، طائر الشوق الأصفر ، المجمع الثقافي في
أبو ظبي ، الإمارات العربية المتحدة ، 2000.
3- باقر ، احمد ، مجئ الفن بمفهومه الأوروبي إلى العالم
العربي ، دار الورد ، البحرين ، 1998.
4- جودي ، محمد حسين ، الحركة التشكيلية المعاصرة في الوطن
العربي ، دار المسيرة ، الأردن 1998.
5- أبو زريق محمد ، من التأسيس إلى الحداثة في الفن
التشكيلي العربي المعاصر ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، بيروت ، لبنان ،
2000 .
6- خشيم ، على فهمي ، فراءات ليبية ، دار مكتبة الفكر ،
طرابلس ، ليبيا .
**عضو الإتـــحاد الـــدولي
لنقــــاد الفـــن التشكيلي (
AICA ) :