|
نموذج لعمارة سلطنة عمان |
هذه
المراسلة هي واحدة من عدة مراسلات تلقيتها من إخوة أفاضل ببعض الدول العربية، تطلب
مني تصميم بيت لهم، وقد كنت أرد بالرفض بناءً على عدة منطلقات عرضتها عليهم.
أحببت
اليوم، أن أعرضها عليكم، وصلتني من أخٍ فاضل من سلطنة عُمان، تصب في نفس
الموضوع. وقمت بالرد عليها بالرفض من نفس المنطلقات.
وما
استدعى مشاركتكم ما دار فيها من حوار، هو التطرق إلى إحدى الاشكاليات التي تعترض
العمارة المحلية بالمدن العربية خلال السنوات الأخيرة الماضية من محاولات تتجاذب
المساعي بين التأصيل والاقتباس من عمائر دول أخرى، قد تتقارب في ثقافتها وقد
تتباعد المسافات بينها، مثلما تتباعد الأماكن التي يتم استيراد تلك العمائر منها،
لتحل ضيفة على إحدى المدن الأخرى، فتبدو من وجهة نظر البعض إثراءً. ومن وجهة نظر
أخرى تعدي وانتهاك لخصوصية العمارة المحلية بتلك المدينة.
وهذا مضمون الحوار، الذي دار
عبر مراسلاته معي:
الأخ العُماني:
السلام عليكم ورحمة الله
وبركاته
تحية طيبة مباركة وبعد،
أخي
العزيز، كم أحمد الله، أن تعرفت على موقعك. ولعلني أجد بغيتي عندك. والتي هي، أنني
أبحث عن شخص مصمم لبيت تراثي على الطراز المغربي الجميل راجيا أن أجد طلبي عندك.
أرجو الرد على البريد لتأكد من
وصول بريدي، لأتمكن من التواصل معك وشرح التفاصيل.
جمال اللافي:
وعليكم السلام ورحمة الله
وبركاته، أخي الكريم.
في
حالة كونك من أبناء المغرب الشقيق، فأنصحك أن تستعين في تحقيق طلبك بالمكاتب
المعمارية المتوفرة بدولتكم الموقرة، المملكة المغربية. لأنهم أدرى بهذه العمارة
وأصولها. وبالنسبة لي لا أحبذ تصميم أي مسكن أو أي مبنى خارج ليبيا، احتراماً مني
للزملاء هناك. ولقناعتي بأن أهل مكة أدرى بشعابها.
أما
في حالة كونك من ليبيا، وتريد تصميماً على الطراز المغربي، فأعتقد أن عندنا من
الطرز المعمارية المحلية ما يغنيك عن البحث عن طرز معمارية من خارج ليبيا، لا تعبر
لا عن ثقافتنا ولا عن أصالتنا. ولست مستعداً لتقبل طلبك هذا، لأنه يتعارض مع مبادئ
في احترام عمارتنا المحلية.
تمنياتي لك بالتوفيق.
الأخ العُماني:
السلام عليكم ورحمة الله
وبركاته أخي العزيز
أشكرك في البداية على ردك
لرسالتي. وقد أسعدني ذلك كثيرا.
أنا
من سلطنة عُمان أخي العزيز ولست من المغرب العربي. وأعني بالطراز المغربي (ليبيا
والمغرب وتونس)، التي تتميز بيوتهم بالجمال. وهي نسخة أكثر أناقة وجمالاً من
البيوت الأثرية، التي تشبهها عندنا غير أن البيوت هناك أكثر جمالا.
|
نمط العمارة المحلية في سلطنة عُمان |
أعيش
وسط واحة خضراء، ضمتها اليونسكو لقائمة التراث المعماري. لا يسمح لنا بالبناء على
الطرق الحديثة. وحدث تشويه كبير للطراز القديم بسبب هذا القرار وبسبب أن الناس هنا
أغلبهم من ذوي الدخل المحدود ولا يمكن أن يبنوا كما تريد اليونسكو. وبالتالي خرجت
لنا نسخ مشوهة، لا تمتُ للماضي ولا الحاضر بأي صلة.
وأنا
أبحث عن طراز، يجمع الماضي بالحاضر، الذي يرضيني. ولم أجد أجمل من البيوت التي
بالمغرب وليبيا. وعمارتنا المحلية كما قلت لك نسخة مطابقة لعمارة المغرب العربي.
غير أن بيوتكم أكثر جمالاً وسحراً. لهذا أردت منك مساعدتي بكونك خبيراً ومحباً
للتراث والبناء القديم. فأرجو توجيهي لأسماء أشخاص ومكاتب تساعدني في تصميم
الخريطة. وسأرسل لهم صورة من الحارة القديمة وشكل البيوت.
ولمزيد
من فهم الواقع وتخيله أرجو البحث في جوجل إرث عن ولايتي ( ولاية ... ) سلطنة عُمان
– لتصل إليك الفكرة بوضوح وأبحث عن الحارات في عُمان، ستجد أشكالها وألوانها
وطريقة بنائها.
سامحني،
أن ألح عليك بالطلب، لأنه لن يفهمني، إلا رجل له حس تراثي مثلك. فأرجو منك توجيهي
وتقديم المشورة والدعم بتحديد مكتب أو رقم شخص أو عنوانه، لأتمكن من التواصل معه.
وأكرر آسفي لهذا الإزعاج.
والسلام عليكم ورحمة الله
وبركاته
جمال اللافي:
وعليكم السلام ورحمة الله
وبركاته، أخي الكريم، ومرحبا بأهلنا وإخواننا في سلطنة عُمان.
بدايةً،
أشكرك أخي الكريم، على هذه الثقة، التي حظيت بها من طرفكم، لأنال شرف هذه التزكية
الكريمة لشخصي.
وبعد،
ما
أعرفه أيضا عن سلطنة عُمان، أنها من الدول القليلة التي، إلى جانب إرثها العمراني
المتميز جداً، فهي أيضا لها تشريعاتها وقوانينها، التي تحمي وتحافظ على هذا
الموروث من التعدي عليه، كذلك فهي تؤسس لعمارة عُمانية تربط الأصالة بالمعاصرة في
مشاريعها العمرانية والمعمارية الجديدة. وما تفضلت بذكره أمر جديد لم أعلمه إلاّ
من خلالك.
وسؤالي نفسه سيتكرر معك:
أليس لديكم مكاتب معمارية ومعماريون عُمانيون قادرون على تحقيق ما تصبون إليه؟
|
مشهد لعمارة سلطنة عُمان المعاصرة |
فمسألة
تحقيق عمارة ناجحة في أي بقعة من الأرض يحتاج لمعايشة تلك البيئة واستيعاب قيمها
ومؤثراتها وطبائع أهلها وعاداتهم واحتياجاتهم وتطلعاتهم. بل واستنكاه روحها
الكامنة فيها، هذه الروح، التي تميز عمارة عن أخرى وتعطيها خصوصيتها ونكهتها. وليس
أقدر على فعل ذلك من أهلها من ذوي الاختصاص.
والأهم
من ذلك، آلا تعلم أخي الفاضل، من خلال اطلاعي على صور لولايتك، يبدو واضحا أن
لديكم عمارة عُمانية متميزة جداً، تجمع بين البساطة والجمال وخصوصية التفاصيل
المعمارية والفنية والزخرفية.
فلماذا تبحث عن جمال العمارة
عند غيركم. وعندكم منها أكداس مكدسة؟
أخي
الكريم ، مادام مبدئي يمنعني من التطفل على عمارتكم، فلا يعقل أن أدعو غيري لفعل
ذلك. ولكن لي سؤالين:
·
لماذا تصر على التواصل مع مكاتب من خارج سلطنة عُمان؟
ولماذا لا تستعين بمكاتب من عندكم، حتى لو استدعى الأمر أن تطرح عليهم نفس ما
طرحته علي من رغبتك في الاستفادة من العمارة المغربية وتطبيقها على مشروعك هذا؟
·
هل للأمور المادية دخل في ذلك؟ أم هو انعدام ثقة في
المعماري العُماني وقدرته على تحقيق متطلباتك بالصورة التي تريدها وتتوقعها؟
لو
كان للأمور المادية، دخل، فأحب أن أخبرك أن الأسعار في ليبيا ليست بالهينة في مثل
هذه المشاريع.
أما
إذا كانت المسألة تتعلق بانعدام ثقة في المعماري العماني، فهذه المشكلة يعاني منها
أيضا المعماري في ليبيا وفي كل بلاد العرب. هي عقدة متأصلة فينا جميعاً، أطلق
عليها اصطلاحا "عقدة الخواجة". تجعلنا نرفض القريب ونزدريه ونبحث عن
البعيد ونعلي من شأنه، دون مبرر منطقي أو تجربة واقعية. ولا أريد هنا أيضاً، أن
أساهم في ترسيخها في نفسيتك، تجاه زملائي وإخواني المعماريين العُمانيين. فأسمح لي أن أجدد اعتذاري لك عن عدم رغبتي في مشاركتك في أمر أراه
يتعارض مع مبادئي وقناعاتي.
تمنياتي
لك بالتوفيق أخي الكريم، وأن تجد مرادك عندكم في عمارة سلطنة عُمان وفي المعماريين
العُمانيين الأكفاء.
السلام عليكم ورحمة الله
وبركاته،
انتهى الحوار على هذا.
تعقيب/
هذا
الحوار يقودنا إلى طرح آخر، عن دور كليات العمارة وأيضا كليات الفنون الجميلة والتطبيقية،
في تأهيل الكوادر المعمارية المؤهلة للتعاطي مع بيئتها المحلية بكل اقتدار. مثلما
يقودنا إلى الحديث حول مبررات أن تقوم الدولة أيضا بتكليف المكاتب الاستشارية
العالمية بتصميم وتنفيذ المشاريع في ليبيا أو غيرها من الدول العربية، وهي التي
أسست هذه الجامعات ومؤسسات التخطيط العمراني وصرفت عليها الأموال الطائلة. ثم توكل
مشاريعها العمرانية إلى شركات ومعماريين أجانب، متجاهلة إتاحة الفرصة لقدراتها
المعمارية المحلية.
أذكر
في هذا السياق حالة احتجاج أطلقها الدكتور محمود دازه (عضو هيئة تدريس بقسم
العمارة والتخطيط العمراني)، عندما كنا نحضر معرضاً لمشاريع معمارية لتصميم
الجامعات الليبية، أوكلت مهمتها كلها لمكاتب معمارية أوروبية، قائلاً: لماذا يتجاهلون المكاتب المعمارية المحلية؟
هي
صرخة "لو صدّقها الواقع"، لكانت أجدى بأن تقام حولها الندوات وحلقات
النقاش، لتدارس الأسباب التي تستدعي من الدولة تجاهل معماريها ومؤسساتها الهندسية
بكوادرها المحلية والمكاتب الليبية المعمارية الخاصة.
من
أغراض العولمة، أنها تشجع مسألة الاستعانة بالعناصر الأجنبية بين الدول، كأفراد
ومؤسسات وشركات، بحجة الاحتكاك والاستفادة من خبرتهم. وهو أمر من حيث المبدأ لا
غبار عليه، لو كان هناك فعلا اتاحة فرصة للعناصر المحلية بالاحتكاك بهذه الخبرات
والاستفادة من تجربتها.
ولكن
منهج العولمة، يقول، بأن رؤوس الأموال، يمكنها أن تشتري من تريد، لتحقيق ما تريد،
بالطريقة التي تريدها، دون اعتبار لمسألة الضرر والمنفعة، التي قد تلحقها بمحيطها
البيئي أو الاجتماعي أو الاقتصادي أو الثقافي، بل وتتمادى إلى عدم وضع أي اعتبار
للمسألة الأخلاقية في أي موضوع أو تعامل. وهذه حقيقة قد تكون غائبة عن الكثيرين.
وبالتالي
لم نرَ أيّ استفادة حقيقية للعناصر المحلية لتلك الدول التي قبلت بمنطق العولمة
وتعاملاتها، من مسألة التعاطي مع الخبرات الأجنبية. بل رأينا أن الشركات المعمارية
الأجنبية تقوم بتصميم مشاريعها في مكاتبها الأم في بلدانها وبكوادرها. ثم يتم
تنفيذ هذه المشاريع وخصوصا الكبرى من خلال شركات أجنبية وبعمالة فنية ماهرة أجنبية،
والناتج على أرض الواقع مشروع يستفيد منه مموله والعناصر التي تشغله. وقد أصبحت هي
أيضا أجنبية (ليست من سكان البلد).
وفي
سياق هذا الموضوع، كمثال حي على ما طرحته في المقدمة، المطلوب مني، أن أصمم بيتاً
لا ينتمي لتلك البيئة، من خلال مكتبي في مدينة طرابلس وتسليم الخرائط جاهزة لمالك
المشروع. بعد قبض الثمن، لتنتهي العلاقة أو تستمر مع مشاريع جديدة أخرى. وهنا قد
يكون الأمر مجدي بلا شك لمن يبحث عن الكسب المادي، دون سواه.
ولكن
كيف يكون الحال لو نظرنا إلى المكاسب، التي ستعود على سكان تلك المنطقة من العالم
العربي. حيث لن نجد غير مبنى مقام لا يعبر عن بيئته، مهما كانت جمالياته. وقد
يواجه بحملة استنكار من عقلائهم؟
فهل ستكون رائحة المال أقوى
تأثيراً على المعماري من صرخات الاستهجان تلك، التي تصدر عن مثقفيها وحماة تراثها
وقيمها؟
أنا
هنا، أحاول أن أوصل رسالتين:
الأولى/ تتعلق بالهوية والثقافة. وهنا لن أنسَ إصرار
غالبية المعماريين الليبيين على أن العمارة حالة ثقافية. فأذكرهم بأن لا يناقضوا
أنفسهم. وأن لا تتحول العمارة بذلك إلى حالة مصلحية أو مادية صرفة.
والثانية/ تتعلق بمسألة التصميم من خلال المعايشة
اليومية والحقيقية للبيئة المراد التصميم فيها. فهل تكفي زيارة عابرة مهما طالت
مدتها، فهي لن تتجاوز الشهر أو الشهرين أو حتى السنة؟
ثم
هل تكفي بعض الزيارات وإجراء بعض الدراسات عن تلك البيئة ليستوعب المعماري حقائق
الوجود لسكان تلك البيئة. مشاعرهم وأحاسيسهم ونبض عروقهم وأحلامهم وتطلعاتهم
وآمالهم وآلامهم ومعاناتهم وشغفهم واهتماماتهم. فهذه الأشياء لا يمكن دراستها في
يوم وليلة. بل هي تولد مع إنسان تلك البيئة وتكبر معه وتتفاعل مع جيناته وتصبح
كيان حي يمشي على وجه الأرض.
فهل يستطيع المعماري الغريب
عن تلك البيئة اختزالها في دراسة، يقال عنها معمقة وجادة وعلمية ومنهجية؟
أم
أن المعماري سيكتفي ببعض الحقائق المعمارية العلمية التي يجب أخذها بعين الاعتبار
عند تصميم مشروع مثل (شكل قطعة الأرض وأبعادها/ مسارات الحركة والمداخل/ اتجاه
الشمال/ حركة الشمس/ العلاقات الوظيفية والمساحات المطلوبة... إلخ)، ثم يبدأ في
عملية التصميم المعماري ويصطنع لما يصل إليه من حلول، مبرراتها ليقنع الطرف الآخر
بها!؟
نحتاج
في ظل هذه الظروف، التي خرجت فيها البلاد من احتكار الفرد الواحد لزمام كل الأمور
في بلادنا، أن نعيد ترتيب البيت المعماري الليبي وفق أسس علمية ومنهجية ليتحمل
مسؤولياته في تصميم وتنفيذ المشاريع العمرانية والمعمارية بالاستعانة بمكاتبه
وكوادره المحلية. والدعوة إلى أن تتحمل الدولة أيضا مسؤولياتها في دعم بناء شركات
مقاولات ليبية قادرة على تنفيذ هذه المشاريع وفق مواصفات الجودة العالمية.
وتجهيزها بالمعدات والآليات والكوادر الفنية المحلية المدربة تدريبا عالياً وليس
صورياً.
أعود لصرخة الدكتور محمود دازه
تلك:
·
أين دور كوادرنا المحلية في المشاريع التي تقام في
ليبيا؟
وأزيد عليها:
·
ما هو مستقبل العمارة الليبية، في ظل إرهاصات العولمة
وسيطرة الشركات الأجنبية الكبرى على مشاريع التنمية في العالم؟
·
أين دور كليات العمارة والفنون في صياغة مناهج علمية
تؤهل المعماري الليبي والمصمم الداخلي والمصمم الصناعي ومنسق المواقع ليكون أكثر
قدرة وكفاءة وتنافسية مع الآخر وأكثر استيعاباً لمتطلبات بيئته المحلية؟