التخطي إلى المحتوى الرئيسي

بين عباد القبور وعباد مصالحهم اتفاق






جمال اللافي


إلى المتباكين على هدم الأضرحة وإزالة القبور المنتشرة في مساجدنا التاريخية وغير التاريخية، أقول:

هناك أعمال هدم كثيرة وكبيرة لمساجد ومعالم ومدن تاريخية بأكملها، تمت في عهد المقبور. ولم تجد من يعترض عليها، ولو بكلمة- على  المستويين الشعبي والنخبوي- في ذلك الوقت، إلاّ من بعض حالات استثنائية ضعيفة، تم إخراسها من زبانية ذلك المقبور، منها على سبيل المثال لا الحصر، جامع الكتاني (أبوهريده)، جامع الشعاب القديم، جامع سيدي حموده، جامع سياله، جامع مولاي محمد، جامع باقي، مدرسة جامع ميزران، وآخرها هدم مبنى ما كان يسمى بمقر اللجنة الشعبية العامة (بنك روما سابقا). كذلك مدن سوكنة وهون وقلعة بني وليد وتحويل غالب المدن التاريخية إلى أطلال نتيجة الإهمال. كذلك لا ننسى سرقات الآثار من مدن لبدة وصبراته وشحات وغيرها.


بل الكثير من الوقائع والشواهد تقول، أن هناك من كانت له أدوار تخريبية داخل مدينة طرابلس القديمة وعرقلة لجهود الحفاظ عليها من موقع مسؤوليته الإدارية بمشروع تنظيم وإدارة المدينة القديمة بطرابلس في تلك الفترة وفي جهاز إدارة المدن التاريخية في هذه الفترة.

ومع ذلك نرى اليوم تحشيد شعبي ونخبوي، غير مسبوق، على ما يحصل  من أعمال إزالة لمقابر داخل بعض المساجد التاريخية أو أعمال تدمير طالت الأضرحة التاريخية المنتشرة داخل هذه المساجد أو داخل مقابر المسلمين في جميع المدن الليبية. التي قامت بها جماعة- لا أعرف حقيقتها ولا دوافعها ولا مدى صدق نواياها- بعد ثورة 17 فبراير تحديدا.


والمعنى، الذي أريد أن استخلصه من هذا السرد، أن مسألة هدم الأضرحة ونقل رفات القبور من مساجد إلى مقابر المسلمين- وفق الأصول الشرعية وبهدوء ودون ضجيج- وما يترتب عنها من إضرار بالمعالم التاريخية (هذا إن تحققت مثل هذه الأضرار فعلا، ولم تقتصر العملية على إزالة القبور فقط). هي في حقيقتها لا تعني أحداً بالمرة. وليست هي المستهدفة من كل هذا العويل والصراخ والتباكي والنواح. ولكن المستهدف هو جعلها قضية رأي عام داخلي وخارجي. واستثمارها كفرصة سانحة لهم للتنفيس عن مشاعر مكبوتة تجاه من ينافحون عن عقيدتهم الصحيحة. أو للطعن في جهات أو أشخاص بعينهم أو إثارة الرأي العام بقضايا تستهدف النيل من وضع قائم، لا يرضون عنه، أو للتعتيم على جرائم اقتصادية أو سياسية تحاك لهذا البلد. فوجدوا في مثل هذه الأعمال العشوائية فرصتهم السانحة.


وربما تكون واحدة من مستهدفات هذه الحملة، سعى هؤلاء لربط هذه الأعمال بأعمال الهدم التي طالت معالم مدينة طرابلس القديمة منذ عقود وغيرها من المدن والمعالم التاريخية الأخرى. وقد نقرأ مستقبلا دراسات تاريخية تخلط الحابل بالنابل وتنسب كل ما تعرضت له معالمنا التاريخية في جميع المدن الليبية من هدم وتشويه ونسبتها إلى هذه المرحلة التاريخية وإلى هذه الجماعة. فليس هناك أسهل من تزييف التاريخ وتشويه الحقائق في زمننا هذا. 

لست أدري، فقد يكون ظني بهم خاطئاً. وتكون نواياهم كلها سليمة.

لهذا أقول، للجمع المتباكي على الموروث الثقافي الضائع، في حالة أحسنّا بهم الظن:

كم تمنيت أن تتكاثف الحملات لمنع مزيد من أعمال الهدم التي ما زالت تتم داخل مدينة طرابلس القديمة لمساكنها ومعالمها التاريخية، بهدف إقامة فنادق ومحلات وبيوت تفتقر لأبسط القيم الجمالية والفنية في العمارة.

ولا يسعني هنا إلاّ التنويه إلى أن العاملين بجهاز إدارة المدن التاريخية قد انقطعوا عن ممارسة أعمالهم بسبب مضايقات وتهديدات هؤلاء العابثين بموروثنا الثقافي.

ولا يسعني أيضا إلا التنويه أكثر إلى أن من يقومون بهذه الأعمال التخريبية، هم من العائلات الطرابلسية المحسوبة على المدينة القديمة. وقد اتطرق مستقبلا لذكرهم، فقط حتى يتبين لكم أن أغلب المتباكين اليوم هم أنفسهم من يمارسون أعمال التخريب المتعمد لمعالمنا التاريخية والتعدى عليها.


وأخيراً أقول:
أما آن الأوان، لأن نجمع صدق المشاعر مع صدق النوايا مع العمل الجاد، للحفاظ على ما تبقى من هذا الموروث الثقافي. من خلال سلسلة من البرامج العلمية والمنهجية والمشاريع الجادة، التي تستهدف هذا الموروث بالحماية الحقيقية، لإنقاذ ما يمكن انقاذه.

بل وللعمل على رد الاعتبار لهذا الموروث المعماري والعمراني، من خلال إعادة توظيفه في ذاته لتكون كل هذه المعالم أماكن للعديد من الأنشطة العلمية والثقافية. وأيضا الاستلهام منها في مشاريعنا المعاصرة، كخطوة أخرى للحفاظ على هوية عمارتنا ومدننا المعاصرة. بدلا من هذا الخليط النشاز من أعمال معمارية ومشاريع عمرانية، لا يمكننا حسبتها لا على موروثنا الثقافي ولا على منجزات الحداثة الغربية. وكأن واقعنا يشبه حالة الغراب الذي أعجب بمشية الحمام، فأراد أن يقلدها. فلا هو اتقنها ولا هو استطاع العودة إلى مشيته الطبيعية. فبقي يعرج ويورث أجياله من بعده مشيته العرجاء هذه.

وهذه الخطوات ليست مستحيلة ولا صعبة، لمن أراد أن يمسح عنه دموع التماسيح. ويعمل بالحكمة الصينية التي تقول، مع بعض التصرف:

"اشعل شمعة، بدلاً من أن تنزوي في زاويتك المظلمة تلعن الظلام، أو تحيك الدسائس".




جميع الصور من أرشيف الأستاذ سعيد حامد.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

التهوية الطبيعية في المباني

م/ آمنه العجيلى تنتوش المقدمة تتوقف الراحة الفسيولوجية للإنسان على الثأتير الشامل لعدة عوامل ومنها العوامل المناخية مثل درجة الحرارة والرطوبة وحركة الهواء والإشعاع الشمسي . وللتهوية داخل المبنى أهمية كبيرة وتعتبر إحدى العناصر الرئيسية في المناخ ونق الانطلاق في تصميم المباني وارتباطها المباشر معها فالتهوية والتبريد الطبيعيين مهمان ودورهما كبير في تخفيف وطأة الحر ودرجات الحرارة الشديدة ، بل هما المخرج الرئيسي لأزمة الاستهلاك في الطاقة إلى حد كبير لأن أزمة الاستهلاك في الطاقة مردها التكييف الميكانيكي والاعتماد عليه كبير والذي نريده فراغات تتفاعل مع هذه المتغيرات المناخية أي نريد أن نلمس نسمة هواء الصيف العليلة تنساب في دورنا ومبانينا ونريد الاستفادة من الهواء وتحريكه داخل بيئتنا المشيدة لإزاحة التراكم الحراري وتعويضه بزخات من التيارات الهوائية المتحركة المنعشة . فكل شي طبيعي عادة جميل وتتقبله النفس وترتاح له فضلا عن مزاياه الوظيفية . وعلى المعماري كمبدأ منطقي عام البدء بتوفير الراحة طبيعياً ومعمارياً كلما أمكن ذلك ومن تم استكملها بالوسائل الصناعية لتحقيق أكبر قدر ممكن ...

بيوت الحضر: رؤ ية معاصرة للمسكن الطرابلسي التقليدي

تصميم وعرض/ جمال الهمالي اللافي في هذا العرض نقدم محاولة لا زالت قيد الدراسة، لثلاثة نماذج سكنية تستلهم من البيت الطرابلسي التقليدي قيمه الفكرية والاجتماعية والمعمارية والجمالية، والتي اعتمدت على مراعاة عدة اعتبارات اهتم بها البيت التقليدي وتميزت بها مدينة طرابلس القديمة شأنها في ذلك شأن كل المدن العربية والإسلامية التقليدية وهي: · الاعتبار المناخي. · الاعتبار الاجتماعي ( الخصوصية السمعية والبصرية/ الفصل بين الرجال والنساء). · اعتبارات الهوية الإسلامية والثقافة المحلية. أولا/ الاعتبار المناخي: تم مراعاة هذا الاعتبار من خلال إعادة صياغة لعلاقة الكتلة بمساحة الأرض المخصصة للبناء، بحيث تمتد هذه الكتلة على كامل المساحة بما فيها الشارع، والاعتماد على فكرة اتجاه المبنى إلى الداخل، وانفتاحه على الأفنية الداخلية، دون اعتبار لفكرة الردود التي تفرضها قوانين المباني المعتمدة كشرط من شروط البناء( التي تتنافى شروطها مع عوامل المناخ السائد في منطقتنا ). وتعتبر فكرة الكتل المتلاصقة معالجة مناخية تقليدية، أصبح الساكن أحوج إليها من ذي قبل بعد الاستغناء عن البنا...

المعلم/ علي سعيد قانة

موسوعة الفن التشكيلي في ليبيا 1936- 2006 جمال الهمالي اللافي الفنان التشكيلي" علي سعيد قانة " هو أبرز الفنانين التشكيليين الذين عرفتهم الساحة التشكيلية في ليبيا... انخرط في هذا المجال منذ نحو أربعة عقود. ولد بمدينة طرابلس الموافق 6/6/1936 ف ترعرع في منطقة سيدي سالم (باب البحر) بمدينة طرابلس القديمة.والتحق بأكاديمية الفنون الجميلة بروما- إيطاليا سنة 1957 وتخصص في مجال النحت بمدرسة سان جاكومو للفنون الزخرفية، كما حرص خلال وجوده في روما على دعم قدراته الفنية من خلال دورات تخصصية في مجال الرسم الحر والطباعة والسباكة وبرز في هذه المجالات جميعا.• التحق عند عودته إلى ارض الوطن بمعهد للمعلمين ( ابن منظور ) للتدريس سنة 1964ف• انتقل للتدريس بكلية التربية جامعة الفاتح سنة1973 ف• انضم إلى كلية الهندسة/ جامعة الفاتح بقسم العمارة والتخطيط العمراني سنة 1974- وتولى تدريس أسس التصميم و الرسم الحر لغاية تقاعده سنة 2001 ف• عمل مستشارا للشئون الفنية بمشروع تنظيم وإدارة المدينة القديمة. مساهماته الفنية/ اقتنى متحف مدينة باري للفنون بإيطاليا لوحتين من أعماله الفني...