التخطي إلى المحتوى الرئيسي

نهاية رحلة - دلالة اللون ولغة الحروف



ناصر سالم المقرحي

عبر تجربته الفنية الغنية التي امتدت لسنوات طويلة يطالعنا الفنان الراحل " محمد الحاراتي " الذي انتقل إلى جوار ربه أواخر شهر اكتوبر العام 2007 , بعمق مدلول ابداعاته وقوة طرحها , إذ أن الناظر إلى لوحة الفنان يُعاين إلى جانب الأستغلال الأمثل للإمكانيات الجمالية التي يُتيحها الحرف العربي بانسيابيته ورشاقته , الزخارف الإسلامية بخطوطها المستقيمة والمتكسرة وانحناءاتها والتواءاتها والمستمدة مفرداتها من البيئة المحلية كتلك النقوش والزخارف المستلهمة من نباتات المُحيط وبعض مظاهر وسمات المعمار الذي أسفرت عنهُ الحضارة الأسلامية كالقِباب والمآذن والأقواس والأهِلة , أيضاً بلوحة الراحل قد نجد إضافة إلى ما تم الإشارة إليه غزارة في طرح اللون وتوزيعه بمقادير ونسب متقاربة على السطح , إذ تتجاور بكثرة الدرجات الحارة والمُشعة مع الباردة والمُعتمة دون أن تطغى إحداها على الأخرى ودون أن تخل بالبناء العام , الأمر الذي جعل اللوحة تتراءى للمشاهد بهيئة فسيفسائية مبهجة للنظر بألوانها الطافحة التي يُخيل للرائي بأنها ستطفر أو تقفز بين لحظة وأُخرى من الإطار لشدة حيويتها وتعدد درجاتها , ومن الرموز الدالة التي تتكرر بانتظام في منجز الفنان نجد إلى جانب المآذن والقِباب , الحمائم والجياد العربية التي كثيراً ما رسمها في حالة حركة ذائبة وجامحة أو يوحي بذلك , مما يوسم العمل الفني بالحيوية والحركة وينفي عنهُ صفة الفتور والسكون .


الفنان التشكيلي محمد الحاراتي الثالث على يمين الصورة

وعن الحرف العربي فقد احتل بأغلب الأعمال مركز اللوحة وحلَّ بقلبها تماماً مُشعاً بألقه ككوكب تدور حوله الأقمار , فتتوزع باقي العناصر حوله كمكملات واكسسوارات ضرورية لتجليه وكثيراً ما اقتُطِع الحرف العربي لدى الفنان من سياقاته كأداة تواصل وجاءَ هكذا متجرداً من كل شيء إلا من جمال تكوينه ورشاقته التي لا يضاهيها شيء , والتي كثيرا ما اتكأَ عليها الفنانين التشكيليين العرب في المشرق والمغرب بل حتى بعض الفنانين الأجانب لاجتراح لوحة جميلة من حيث الشكل ومعبرة من حيث الفكرة التي تطرحها والرسالة التي توصلها .

وتندغم تفاصيل الرسومات البارزة الي تحتل مقدمة اللوحة , والتي كثيراً ما يذهب الفنان إلى طلاء قاعدتها بألوان باهتة وخفيفة ومن ثم يجنح إلى وضع تفاصيل حروفه فوقها بدقة وبألوان ذات درجات واضحة وقوية فتتداخل مع الخلفية التي تأخذ ألواناً متقاربة مع درجات ألوان المقدمة ومن ثم يقوم بطرح اللون على المساحات المتجاورة , وكل هذا يُسهم في إظهار العمل بمظهر فسيفسائي ويُبين الجهد الكبير الي بدلهُ الفنان فيه بعكس بعض المدعين الذين قد يُنجزون ما يسمونه لوحة فنية في دقائق تحت مسمى التجريد .

هذا فيما يخص التقنيات التي توصلت إلى توظيف مادة الأكريليك توظيفاً حسناً , أما فيما يتعلق بالموضوع فإن الفنان ولئِن تطورت أدواته بدءأً بالبسيط والمتداول وصولاً إلى العسير والمُعقد , فإن المواضيع ظلت كما هي وحافظت المضامين على ثبوتيتها حينَ عبَّرت وانطِلاقاً من انتماءات واضعها واعتزازه بهويته عن الهمّ القومي والسياسي وسعت إلى تأكيد الهوية الإسلامية والعربية باحتفائها في المقام الأول برموزها الحضارية . ولأنها لا تتكرر كثيرا باهتداء الفنان إلى أسلوبه الخاص , يمكن اعتبار هذه التجربة متميزة على المستويين العربي الإسلامي , ليس لأنها تُحلق بجناحيها فحسب , بل لأنها أيضأً اتخذت منهما وسيلة ورسالة لمخاطبة الآخر , ويتجلى التميز هنا من خلال الحرفية في استخدام المادة من ومن الثيمات المُسخرة ومن طريقة مزج كل هذه العناصر داخل المضمون , ويأتي كل ما مر ذكره متوافقاً مع أداء تشكيلي متقن ودقة كبيرة وحرفية عالية قد تجعل المتلقي عند المعانقة الأولى للأثر الفني يعتقد بأنَ ما يراه هو مُنتج من منتجات التصوير الحديث وليس من عمل الأنامل الحساسة التي يحوزها الفنان للمهارة الكبيرة التي يبديها . وبمكنة المتأمل في اللوحات المرفقة مع هذا المقال استخلاص المزيد من السمات والخصائص الفنية تلتي تنطوي عليها التجربة . هذا ويعد الفنان الراحل محمد الحاراتي الذي سُررت بالتعرف إليه ذات صباح بعيد قاده إلى مصلحة الضرائب للتصديق على فاتورة تخص عملاً فنياً قام بتسويقه لأحد الجهات العامة , يعد اليوم وسط لفيف من الفنانين التشكيليين من الرواد والمؤسسين الذين عمِلوا مبكراً وبمجهوداتهم الفردية والمتواضعة وسط ظروف قاسية على إرساء قواعد هذا الفن وإسكانه بأرض ليبيا بوقت تفشت فيه الأمية نتيجة لعوامل التخلف المتعددة , وذلك منذ منتصف القرن المنصرم وحتى اللحظة ووضعوا لبنات حداثته وشكلوا بعملهم هذا امتدادا لما بدأه الأسلاف منذ أزمان بعيدة بما وضعوه على جدران كهوف جبال أكاكوس وتاسيلي .


واشتغل الفنان إلى جانب ممارساته الفنية بالتدريس واضطلع بدور تربوي هام لسنوات عديدة , ولا شك في أن أنتاج الحاراتي ببصمته المميزة سيظل وإلى مدى غير محدد نقشا جميلا في فسيفساء التشكيل الليبي وفصلا مهما لا بد من استحضاره عند التأريخ لهذا المشهد وتأطيره , فرحم الله فناننا القدير وأسكنه فسيح جناته . 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

التهوية الطبيعية في المباني

م/ آمنه العجيلى تنتوش المقدمة تتوقف الراحة الفسيولوجية للإنسان على الثأتير الشامل لعدة عوامل ومنها العوامل المناخية مثل درجة الحرارة والرطوبة وحركة الهواء والإشعاع الشمسي . وللتهوية داخل المبنى أهمية كبيرة وتعتبر إحدى العناصر الرئيسية في المناخ ونق الانطلاق في تصميم المباني وارتباطها المباشر معها فالتهوية والتبريد الطبيعيين مهمان ودورهما كبير في تخفيف وطأة الحر ودرجات الحرارة الشديدة ، بل هما المخرج الرئيسي لأزمة الاستهلاك في الطاقة إلى حد كبير لأن أزمة الاستهلاك في الطاقة مردها التكييف الميكانيكي والاعتماد عليه كبير والذي نريده فراغات تتفاعل مع هذه المتغيرات المناخية أي نريد أن نلمس نسمة هواء الصيف العليلة تنساب في دورنا ومبانينا ونريد الاستفادة من الهواء وتحريكه داخل بيئتنا المشيدة لإزاحة التراكم الحراري وتعويضه بزخات من التيارات الهوائية المتحركة المنعشة . فكل شي طبيعي عادة جميل وتتقبله النفس وترتاح له فضلا عن مزاياه الوظيفية . وعلى المعماري كمبدأ منطقي عام البدء بتوفير الراحة طبيعياً ومعمارياً كلما أمكن ذلك ومن تم استكملها بالوسائل الصناعية لتحقيق أكبر قدر ممكن ...

بيوت الحضر: رؤ ية معاصرة للمسكن الطرابلسي التقليدي

تصميم وعرض/ جمال الهمالي اللافي في هذا العرض نقدم محاولة لا زالت قيد الدراسة، لثلاثة نماذج سكنية تستلهم من البيت الطرابلسي التقليدي قيمه الفكرية والاجتماعية والمعمارية والجمالية، والتي اعتمدت على مراعاة عدة اعتبارات اهتم بها البيت التقليدي وتميزت بها مدينة طرابلس القديمة شأنها في ذلك شأن كل المدن العربية والإسلامية التقليدية وهي: · الاعتبار المناخي. · الاعتبار الاجتماعي ( الخصوصية السمعية والبصرية/ الفصل بين الرجال والنساء). · اعتبارات الهوية الإسلامية والثقافة المحلية. أولا/ الاعتبار المناخي: تم مراعاة هذا الاعتبار من خلال إعادة صياغة لعلاقة الكتلة بمساحة الأرض المخصصة للبناء، بحيث تمتد هذه الكتلة على كامل المساحة بما فيها الشارع، والاعتماد على فكرة اتجاه المبنى إلى الداخل، وانفتاحه على الأفنية الداخلية، دون اعتبار لفكرة الردود التي تفرضها قوانين المباني المعتمدة كشرط من شروط البناء( التي تتنافى شروطها مع عوامل المناخ السائد في منطقتنا ). وتعتبر فكرة الكتل المتلاصقة معالجة مناخية تقليدية، أصبح الساكن أحوج إليها من ذي قبل بعد الاستغناء عن البنا...

المعلم/ علي سعيد قانة

موسوعة الفن التشكيلي في ليبيا 1936- 2006 جمال الهمالي اللافي الفنان التشكيلي" علي سعيد قانة " هو أبرز الفنانين التشكيليين الذين عرفتهم الساحة التشكيلية في ليبيا... انخرط في هذا المجال منذ نحو أربعة عقود. ولد بمدينة طرابلس الموافق 6/6/1936 ف ترعرع في منطقة سيدي سالم (باب البحر) بمدينة طرابلس القديمة.والتحق بأكاديمية الفنون الجميلة بروما- إيطاليا سنة 1957 وتخصص في مجال النحت بمدرسة سان جاكومو للفنون الزخرفية، كما حرص خلال وجوده في روما على دعم قدراته الفنية من خلال دورات تخصصية في مجال الرسم الحر والطباعة والسباكة وبرز في هذه المجالات جميعا.• التحق عند عودته إلى ارض الوطن بمعهد للمعلمين ( ابن منظور ) للتدريس سنة 1964ف• انتقل للتدريس بكلية التربية جامعة الفاتح سنة1973 ف• انضم إلى كلية الهندسة/ جامعة الفاتح بقسم العمارة والتخطيط العمراني سنة 1974- وتولى تدريس أسس التصميم و الرسم الحر لغاية تقاعده سنة 2001 ف• عمل مستشارا للشئون الفنية بمشروع تنظيم وإدارة المدينة القديمة. مساهماته الفنية/ اقتنى متحف مدينة باري للفنون بإيطاليا لوحتين من أعماله الفني...