التخطي إلى المحتوى الرئيسي

جدلية الرسم اليدوي والرسم الحاسوبي


جمال اللافي


       استوقفني هذا التطور المذهل في التقنية الحاسوبية وخصوصا ما يتعلق ببرامج التصميم المعماري ثنائي وثلاثي الأبعاد. وبرامج الجرافيك التي يحتاجها المعماري في إخراج مشاريعه بأفضل صورة. وهذا يقودني بالضرورة لجدلية لا زالت قائمة حول أفضلية الرسم المعماري اليدوي عن استخدام الحاسوب وعلاقتها بالحالة الإبداعية للمنجز المعماري الناتج، كما يقولون، عن التواصل المباشر الذي يتم بين الدماغ باعتباره مكمن الفكرة والعين واليد. معللين أن هذا التواصل يتعرض لحالة إعاقة في تسلسله الطبيعي والسلس عند التعاطي مع برامج الرسم المعماري باستخدام الحاسوب وبرامج الجرافيك.


       في اعتقادي ومن خلال تجربتي الشخصية، أن المنتج المعماري في الحالتين هو نفسه من حيث مرحلة وضع الفكرة الأولية للتصميم المعماري، فالعلاقة بين الدماغ والعين التي تنظر للورقة على الطاولة أو إلى الحاسوب واليد التي ترسم على الورقة أو تعطي الأوامر لأيقونات الرسم المعماري بالحاسوب هي نفسها في انسيابيتها وسلاستها وخصوصا عندما يكون المصمم المعماري متمكنا من استخدام هذه البرامج وملما بالطرق المختصرة لإصدار الأوامر المتعلقة بالرسم في بعدين أو في ثلاثة أبعاد. وكل ما تغير هو تحور شكل القلم من رصاص أو خطاط إلى فارة يمكنك من خلالها توجيهها إلى الأوامر التي تريدها في كل لحظة رسم وتعديل. وهذا يجعلنا وأنا غير متيقين بالضرورة من حقيقة هذه المعلومة أن الإنسان الذي بنى عمائر قوم عاد من خلال حفر بيوتهم في الجبال كانوا يلجأون إلى الاستعانة بالأزميل والمطرقة في تنفيذ تصورهم لبيوتهم مباشرة على حجر الجبال ولم يحتاجوا في تلك المرحلة إلى وضع التصور المبدئي على ورق ولم يستخدموا أقلاما.

       
       إذاً، يبقى الفكر الإبداعي واحدا وتتغير أدوات المعماري كلما تطورت التقنية لتسهل عليه الكثير من الأمور. منها على سبيل المثال، أن المعماري يستهلك كمية كبيرة من الورق في مرحلة وضع الفكرة المبدئية لأنه مضطر في كل مرحلة أن يبدأ في رسم فكرته من الأساس بمجرد أن يلاحظ خطأ أو إشكالية أو تطرأ عليه فكرة جديدة أو معالجة لإحدى زوايا المبنى أو زيادة في مساحة إحدى فراغاته. وهذا الأمر تم تجاوزه بعد ظهور برامج الرسم المعماري باستخدام الحاسوب، حيث يكفي المعماري أن يأخذ نسخة من تصميمه الأولي ليجري عليها التعديلات التي يريدها سواء تعلقت بزيادة مساحة فراغ أو التعديل في شكله أو مكانه.

       هذا من جهة ومن جهة أخرى فقد كان الرسم ثلاثي الأبعاد إلى جانب أنه يستغرق وقتا طويلا لإنجازه بالرسم اليدوي، فإن المعماري يحتاج لإظهار كل زاوية في المبنى إلى رسم أكثر من منظور ثلاثي الأبعاد وهذا يشتت عين وتركيز المشاهد لها وخصوصا الزبون فهو يحتاج أن ينظر في كل مرة إلى رسم مختلف موضوع في ركن من اللوحة. أو في لوحة مستقلة. وأيضا يأخذ وقتا طويلا من المعماري لإنجاز المطلوب.




       في المقابل فإن برامج الرسم ثلاثي الأبعاد، تتيح للمعماري أن يصمم مشروعه ثم يحوله إلى ثلاثي الأبعاد. ومن يشاهده فقط عليه القيام بعملية تدوير سهلة للمشروع داخل الحاسوب لينظر إليه ككتلة واحدة من جميع الزوايا (من الداخل والخارج) ومن تم يختار الزوايا التي يريدها بضغطة زر. ومن خلال هذا المجسم يستطيع أيضا استخراج المساقط الأفقية والواجهات والقطاعات التي يريدها ووضع جميع الأبعاد والبيانات التي يتطلبها التصميم بكل يسر وسهولة كاسبا الوقت والجهد.

       لهذا علينا اعتبار استخدام الحاسوب وبرامجه في الرسم المعماري هو مرحلة جديدة في تطور أدوات وتقنيات الرسم والإظهار المعماري، لا يمكن تجاهلها وليس بالضرورة تعلمها لمن لا يزال يصر على استخدام الوسائل القديمة في تنفيذ مشاريعه عن طريق الرسم اليدوي.


       كما أن وجه الاعتراض على استخدام الحاسوب من طرف المعماري لا يصح بقدر اعتراض الفنان التشكيلي على ذلك، لأن المنتج المعماري المستهدف هو تنفيذ المبنى وليس رسمه. والرسم المعماري هو وسيلة إيضاح لتوصيل الفكرة للزبون ومن بعده للمقاول الذي سيتولى تنفيذ المبنى. وكل وسيلة تحقق هذه الغاية على أكمل وجه فهي مقبولة. فما بالك عندما تتميز هذه الوسيلة بالكفاءة والجودة والسرعة العالية.

الخلاصة، أن عملية التفكير الإبداعي سواء في مرحلة وضع الفكرة الأولية أو استكمال باقي مراحل التصميم لا تتأثر بالأداة التي يستخدمها المعماري، بقدر ما تتأثر بمخزونه المعرفي وفهمه لطبيعة المشروع الذي يصممه ومدى قدرته فعلا على تقديم حلول إبداعية. وإن لم يمتلك هذه القدرة الإبداعية فلن تنفعه لا يداه ولا قدماه ولا أضخم حاسوب في العالم مجهز بأفضل برامج التصميم والجرافيك.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

التهوية الطبيعية في المباني

م/ آمنه العجيلى تنتوش المقدمة تتوقف الراحة الفسيولوجية للإنسان على الثأتير الشامل لعدة عوامل ومنها العوامل المناخية مثل درجة الحرارة والرطوبة وحركة الهواء والإشعاع الشمسي . وللتهوية داخل المبنى أهمية كبيرة وتعتبر إحدى العناصر الرئيسية في المناخ ونق الانطلاق في تصميم المباني وارتباطها المباشر معها فالتهوية والتبريد الطبيعيين مهمان ودورهما كبير في تخفيف وطأة الحر ودرجات الحرارة الشديدة ، بل هما المخرج الرئيسي لأزمة الاستهلاك في الطاقة إلى حد كبير لأن أزمة الاستهلاك في الطاقة مردها التكييف الميكانيكي والاعتماد عليه كبير والذي نريده فراغات تتفاعل مع هذه المتغيرات المناخية أي نريد أن نلمس نسمة هواء الصيف العليلة تنساب في دورنا ومبانينا ونريد الاستفادة من الهواء وتحريكه داخل بيئتنا المشيدة لإزاحة التراكم الحراري وتعويضه بزخات من التيارات الهوائية المتحركة المنعشة . فكل شي طبيعي عادة جميل وتتقبله النفس وترتاح له فضلا عن مزاياه الوظيفية . وعلى المعماري كمبدأ منطقي عام البدء بتوفير الراحة طبيعياً ومعمارياً كلما أمكن ذلك ومن تم استكملها بالوسائل الصناعية لتحقيق أكبر قدر ممكن ...

بيوت الحضر: رؤ ية معاصرة للمسكن الطرابلسي التقليدي

تصميم وعرض/ جمال الهمالي اللافي في هذا العرض نقدم محاولة لا زالت قيد الدراسة، لثلاثة نماذج سكنية تستلهم من البيت الطرابلسي التقليدي قيمه الفكرية والاجتماعية والمعمارية والجمالية، والتي اعتمدت على مراعاة عدة اعتبارات اهتم بها البيت التقليدي وتميزت بها مدينة طرابلس القديمة شأنها في ذلك شأن كل المدن العربية والإسلامية التقليدية وهي: · الاعتبار المناخي. · الاعتبار الاجتماعي ( الخصوصية السمعية والبصرية/ الفصل بين الرجال والنساء). · اعتبارات الهوية الإسلامية والثقافة المحلية. أولا/ الاعتبار المناخي: تم مراعاة هذا الاعتبار من خلال إعادة صياغة لعلاقة الكتلة بمساحة الأرض المخصصة للبناء، بحيث تمتد هذه الكتلة على كامل المساحة بما فيها الشارع، والاعتماد على فكرة اتجاه المبنى إلى الداخل، وانفتاحه على الأفنية الداخلية، دون اعتبار لفكرة الردود التي تفرضها قوانين المباني المعتمدة كشرط من شروط البناء( التي تتنافى شروطها مع عوامل المناخ السائد في منطقتنا ). وتعتبر فكرة الكتل المتلاصقة معالجة مناخية تقليدية، أصبح الساكن أحوج إليها من ذي قبل بعد الاستغناء عن البنا...

المعلم/ علي سعيد قانة

موسوعة الفن التشكيلي في ليبيا 1936- 2006 جمال الهمالي اللافي الفنان التشكيلي" علي سعيد قانة " هو أبرز الفنانين التشكيليين الذين عرفتهم الساحة التشكيلية في ليبيا... انخرط في هذا المجال منذ نحو أربعة عقود. ولد بمدينة طرابلس الموافق 6/6/1936 ف ترعرع في منطقة سيدي سالم (باب البحر) بمدينة طرابلس القديمة.والتحق بأكاديمية الفنون الجميلة بروما- إيطاليا سنة 1957 وتخصص في مجال النحت بمدرسة سان جاكومو للفنون الزخرفية، كما حرص خلال وجوده في روما على دعم قدراته الفنية من خلال دورات تخصصية في مجال الرسم الحر والطباعة والسباكة وبرز في هذه المجالات جميعا.• التحق عند عودته إلى ارض الوطن بمعهد للمعلمين ( ابن منظور ) للتدريس سنة 1964ف• انتقل للتدريس بكلية التربية جامعة الفاتح سنة1973 ف• انضم إلى كلية الهندسة/ جامعة الفاتح بقسم العمارة والتخطيط العمراني سنة 1974- وتولى تدريس أسس التصميم و الرسم الحر لغاية تقاعده سنة 2001 ف• عمل مستشارا للشئون الفنية بمشروع تنظيم وإدارة المدينة القديمة. مساهماته الفنية/ اقتنى متحف مدينة باري للفنون بإيطاليا لوحتين من أعماله الفني...