أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

{فأما الزَّبد فيذهب جُفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض}- سورة الرعد، الآية 17

الخميس، نوفمبر 21، 2024

رسالة معمارية مبطنة بالزي الوطني

 

 



جمال الهمالي اللافي

هل تعلم أنك تعيش حياة ليست حياتك؟ نعم، هذه حقيقة لا غبار عليها ولا يعتريها غبش. ربما ستشعر بحضور ذاتك لحظات ارتدائك للزي الوطني. وكلما اكتمل لباسك له بكامل عناصره، ستشعر باكتمال حضور ذاتك ووعيك بوجودك كليبي في هذه الحياة.

ثم تلتفت مزهواً عن المرآة لتنظر إلى كل ما يحيط بك في بيتك وشارعك، عندها سيعتريك انقباض شديد وستشعر بغربة قاتلة في نفسك. لا شيء مما يحيط بك ينتمي إليك، لا البيت ولا عناصر تأثيثه ولا أي ملمح من ملامحه يخبرك أن بينك وبينه صلة رحم أو اتصال الفروع بجذورها. كذلك لا الشوارع شوارعك ولا المدينة بمبانيها وتفاصيلها المعمارية مدينتك. كلها تصدمك بوجهها القبيح حد البشاعة.

الآن اخلع عنك لباسك الوطني وارتدي لباس الجينز أو التوتة الرياضية أو أي هركة استقدمتها من العوالم الأخرى. بعد اكتمال لباسك الفرنجي أو الدشداشة الخليجية أو المغربية أو أي مما استوردته من ثقافات أخرى، ستغرق فجأة في غيبوبة وسيصبح كل شيء يحيط بك يعاود ألفته عندك وينسجم مع ما استوطن عقلك من أنواع الاغتراب. وستعاود عيش حياة ألفتها منذ مولدك في موطنك، فقد تكفل والديك بغسل دماغك حتى قبل أن تولد، كي لا تخرج متمرداً على الحياة التي سيغرقونك في أوحالها طيلة عمرك. وستغرق أنت أبناءك في مستنقعها الآسن وكذلك هم سيفعلون، إن لم يتداركهم لطف الله عز وجل.

أنت اليوم تمتلك القدرة على شراء لباسك الوطني، لهذا جعلته وسيلتي لإيصال رسالتي المعمارية إليك.

الثلاثاء، نوفمبر 19، 2024

إشكاليات الجمهور المستهدف في العمارة

 


جمال الهمالي اللافي

عندما قررت الالتحاق بقسم العمارة والتخطيط العمراني، كان هدفي الأساسي هو خدمة المجتمع الليبي دون سواه. لم أضع في حسباني المجتمعات الأخرى، سواء كانت عربية أو إسلامية أو عالمية، لأنني شعرت بأن مكان مولدي ومراتع طفولتي ومراحل عمري الأولى هو الأولى باهتمامي وترسيخ جهودي لتوفير بيئة عمرانية ملائمة للعيش الكريم.

بعد الدخول في عالم ممارسة المهنة، صدمت بأن جمهوري المستهدف يعيش حالة اغتراب عن واقعه، فاقداً لبوصلة التوجيه. يسير في حلقة مفرغة، يبحث عن جميع الأشياء ليقتنيها ولا يبحث عن ذاته ليرتقي بها. مجتمع يعيش على هامش الحياة، فاقد للأهلية العقلية والوجدانية والنفسية والروحية، تائه في صحراء الاغتراب. كلٌ يهيم على هواه، من المعماري صاحب المسؤولية إلى المسؤول عن توفير أسباب العيش الكريم، من القائد الأعلى للدولة إلى أصغر مسؤول عن أسرته وهو الوالد.

تحطم حلم بناء المجتمع الفاضل، لأنه فاقد للفضيلة. ربما يمكن القول إنه يعيش حياة مجتمع الغابة، حيث القوي يأكل الضعيف ولا يأمن على نفسه من مجتمع الأقوياء. مجتمع "كل من إيدو إلو"، أي العيش بمنطق كل ما طالته يدك فهو لك.

أخشى أن البحث عن الجمهور المستهدف سيصبح في وقت قريب من المستحيلات، فقد أضحت ملامح المجتمع الليبي أقرب لأن تتحول إلى شبح هلامي.

الخاتمة

توضح هذه التحديات مع الجمهور المستهدف في العمارة الليبية، والتي تنبع من حالة الاغتراب وفقدان البوصلة، أننا بحاجة إلى توجيه وقيادة رشيدة تساهم في استعادة الهوية المعمارية وتعزيز الروابط الاجتماعية والثقافية.

إن إدراك هذه الإشكاليات والعمل على حلها يعتبر خطوة حاسمة نحو تحقيق مستقبل أفضل لمجتمعنا. إن التوجيه السليم والقيادة الحكيمة هما مفتاح التغيير الإيجابي، مما يمكننا من بناء مجتمع أكثر توازنًا وازدهارًا.

لذا، ينبغي علينا جميعًا، من المهندسين المعماريين إلى القادة وصناع القرار، أن نعمل معًا لتحقيق هذا الهدف النبيل. بتضافر جهودنا، يمكننا أن نعيد توجيه المجتمع نحو مسار النمو والابتكار، وأن نضمن لأجيالنا القادمة بيئة عمرانية تعكس تطلعاتنا وقيمنا.

الأربعاء، نوفمبر 06، 2024

من ماضي ذاكرتي المعمارية

 


في فترة التسعينيات، بدأت أُعبّر كتابةً عن الصراعات الفكرية التي كانت تدور في داخلي بشأن النهج والتوجه المعماري الذي ينبغي عليّ تبنيه في مسيرتي المهنية، خاصة في ظل حالة الاغتراب التي يعاني منها المجتمع. كانت هذه الأفكار تظهر في شكل سلسلة من الخواطر المعمارية، التي كنت أدوّنها على الورق نفسه الذي أصمم عليه اسكتشات أفكاري لخرائط أحد القاصدين لطلب خدماتي.

بعد أن بدأت أستخدم جهاز الكمبيوتر للكتابة مباشرة، قمت بطباعة هذه الخواطر وجمعتها في ملف أسميته "إبحار في متون الوعي"، حيث أدرجت مقدمة تعبر عن تلك السلسلة:

"إبحارٌ... في متون الوعي" هي محاولة لإيقاظ ذهني الغافي، والإبحار به على سفينة الوعي، لعلي أدرك حقيقة ذاتي واتفهم أدواري في هذه الحياة، وأحدد مكاني في هذا المحيط المجهول، الشاسع والمبهم، الذي أطلق عليه اسم الوجود. عساي أكون نقطة فاعلة ومؤثرة فيه، وأمنح لحياتي العابر معنى وقيمة.

جعلت لتلك الخواطر المعمارية تحديداً عنواناً فرعياً ضمنته فلسفتي الخاصة في العمارة تحت عنوان "قراءة في فلسفة العمارة"، ذلك أن فلسفة العمارة ليست مجرد مجموعة من القواعد والتقنيات، بل هي تأمل عميق في العلاقة بين الإنسان والمكان، وبين الشكل والوظيفة. العمارة، وهي تجسيد ينعكس فيه الإبداع البشري، تعكس ثقافات وحضارات متعددة، وتروي قصص المجتمعات التي أنشأتها.

عندما نتحدث عن فلسفة العمارة، يجب علينا أن نتطرق إلى مفهوم الجمال. هل الجمال هو مجرد تناغم في الأشكال والألوان، أم أنه يرتبط أيضًا بالراحة النفسية والوظيفية للمستخدمين؟ العمارة الجيدة تتجاوز الشكل الخارجي، لتشكل تجربة حياة متكاملة تعزز من جودة الحياة.

علاوة على ذلك، فلسفة العمارة تتعلق أيضًا بالاستدامة. في عالم يتصارع مع تحديات التغير المناخي والموارد المحدودة، يصبح واجب المعماريين تصميم مساحات تعكس الاحترام للبيئة وتؤكد على استخدام الموارد بشكل فعال. العمارة المستدامة ليست فقط واجهة خارجية، بل هي فلسفة تعيش وتنمو مع الزمن.

وأخيراً، علينا أن نأخذ بعين الاعتبار بعد الزمن في عملية التصميم. العمارة ليست ثابتة، بل هي كائن حي يتحول ويستجيب للتغيرات الاجتماعية والثقافية. كيف يمكن أن نتوقع أن تتفاعل المباني مع مستخدميها بعد عشرين أو ثلاثين عاماً؟ إن فهم هذا البعد الزمني يمنح المعماريين قدرة على الابتكار والتكيف مع احتياجات المجتمعات المتغيرة.

في النهاية، فلسفة العمارة ليست مجرد نظريات، بل هي استكشاف لروح الإنسانية وتجسيد لمفاهيم الحب، والصدق، والجمال، والاستدامة، مما يجعل العمارة إحدى أرقى الفنون التي تعبر عن وجودنا في هذا العالم.

سأعيد نشر بعض من تلك الخواطر المعمارية على فترات، وهذه واحدة منها:

قراءة في فلسفة العمارة

(إني خضت بحر العمران... فوجدته عميق الأغوار، تتقاذفني فيه تيارات شتى... فلم أر لنفسي النجاة، إلا بالتمسك بمرساة التاريخ والسباحة مع تيار الأصالة، حتى استطعت الوصول إلى شاطئ الأمان. ولو لم أفعل ذلك لرمتني إحدى التيارات الفكرية المتضاربة، على صخور التبعية والانقياد الأعمى، محولة فكري إلى أشلاء تنهشها حيتان الغربة الثقافية).

الأحد 24/4/1994 م.

تعقيب من هذا الزمن 6 نوفمبر 2024:

تاريخ العمارة هو مرشد لنا في هذه الرحلة؛ إنه هوية تنقلنا عبر الزمان والمكان، وتذكرنا بجذورنا الثقافية والمعرفية. عندما نتشبث بأصالتنا، نجد أن العمارة ليست مجرد بناء، بل هي تجسيد لروح المجتمعات وتاريخها. كل صرح معماري، كبر أو صغر في حجمه يعبر عن قصة، كل زاوية تحمل ذكريات وطرزًا تعكس رؤية كل جيل.

فقد علمتني هذه التجربة أن العمارة ليست زينةً أو مجرد تقنيات تُستخدم للبناء، بل هي منارة تنير الطريق أمام الأجيال المستقبلية، تعزز من شعور الانتماء والهوية. إن السباحة مع تيار الأصالة لا تعني التوقف عن التجديد، بل تعني دمج الفلسفات الفكرية والعصرية مع الجذور التاريخية والثقافية، ما يُمكّننا من خلق أماكن معاصرة تحمل في طياتها عبق القدم وتحديات الحاضر.

كان كل مقطع من هذه الخواطر يعكس عمق تفكيري وتفاعلي مع البيئة الاجتماعية والثقافية التي كنت أعيشها. كنت أسعى للبحث عن معاني جديدة للعمارة، تلك المعاني التي تعكس واقعَ المجتمع وتساعد في معالجة أغرب مشاكله من خلال التصميم المعماري. كنت أسأل نفسي: كيف يمكنني كمُصمم أن أعبّر عن الهوية الحقيقية لمكانٍ ما؟ كيف يمكنني أن أخلق فضاءاتً ليس فقط لتلبية الاحتياجات المادية، ولكن أيضًا لتعزيز الروابط الإنسانية وإعادة تشكيل نسيج المجتمع؟

كانت هذه التساؤلات تمثل دافعاً لي للبحث والتفحص، وكانت النتائج في كثير من الأحيان تشكل مصدر إلهام لأفكاري التصميمية. إن هذه الخواطر كانت رحلة داخلية للبحث عن الإجابات، وليست مجرد تعريفات نظرية بحتة.

 

المواضيع الأكثر مشاهدة

بحث هذه المدونة الإلكترونية