![]() |
مدينة غات التاريخية |
جمال الهمالي اللافي
وقف
بجانبي حفيد أخي، بابتسامته البريئة التي تخفي شغفًا بالمستقبل، بعد أن أنهى للتو
المرحلة الابتدائية. كان يحدّق في المشروع المعماري الذي طالما عملتُ عليه، ثم
فاجأني بحدة: "ما تقدمه هذا عمارة قديمة، أريد أن أرى عمارة حديثة!" لم
يكن سؤال طفل عابر، بل كان صدى لتحدٍّ أعمق يواجهنا اليوم: هل الحداثة بالضرورة
تعني القطيعة مع الماضي؟ وهل يجب أن ننبذ موروثنا الثقافي والديني سعيًا وراء كل
ما هو جديد؟
إن
هذا التساؤل البريء من صبي في مقتبل العمر يختزل جدلاً واسعًا في مجتمعاتنا، خاصة
في ليبيا، حول مفهوم "الحداثة" وتأثيرها على هويتنا المعمارية
والثقافية. فكثيرًا ما يتم الخلط بين مفهومين جوهريين، سنفصلهما لتوضيح الصورة:
الحداثة
الغربية: تيار القطيعة والاغتراب
تتمثل
الحداثة الغربية في تيار فلسفي وثقافي له جذوره وتجلياته التي غالبًا ما تتعارض مع
قيمنا الإسلامية وموروثنا الثقافي. هذا المفهوم ينادي بالقطيعة التامة مع الماضي،
وإعادة تعريف كل شيء من منظور جديد تمامًا، وقد يصل أحيانًا إلى حد الطعن في الدين
والقيم التقليدية. من أبرز إرهاصاتها في العصر الحديث تبني حرية الرأي التي تطعن
في الدين والعقيدة الإسلامية تحديداً، وإباحة الشذوذ وعبادة الشيطان، وكل ما من
شأنه المساس بحدود العقيدة الإسلامية والفطرة السوية. إن اتباع هذا المسار يقود
إلى الاغتراب الثقافي، حيث يفقد الفرد والمجتمع ارتباطهم بجذورهم وهويتهم.
التحديث
والتطوير: قدرة على التجديد دون التضحية بالأصالة
على
النقيض تمامًا، يأتي مفهوم التحديث والتطوير، وهو ما نسعى إليه جميعًا. يعني
التحديث استخدام أحدث التقنيات والأفكار والتصاميم لتطوير حياتنا وعمراننا، مع
الحفاظ الكامل على هويتنا وقيمنا. إنه القدرة على التجديد والإبداع دون التضحية
بأصالتنا. العمارة، على سبيل المثال، يمكن أن تكون حديثة في تصميمها وتقنياتها،
ولكنها في الوقت نفسه تعكس روح العمارة الإسلامية الأصيلة، وتحافظ على وظائفها
التي تخدم المجتمع المسلم. فالعمارة، في جوهرها، هي انعكاس عملي لعقيدة وفلسفة أي
مجتمع. فإذا كانت العمارة الإسلامية على مر العصور قد جسّدت قيم التوحيد والبساطة
والوظيفية والجمال، فلماذا لا يمكننا اليوم أن نبني عمارة حديثة تتوافق مع هذه
المبادئ، وتحمل بصمتنا الخاصة، دون أن نقع في فخ التقليد الأعمى؟ إن التحدي يكمن
في توعية أبنائنا بأن الحداثة الحقيقية ليست في هجر الماضي، بل في استلهام قيمه
وتطويع أدوات العصر لإنشاء مستقبل متجدد بأصالة.
تحدي الاغتراب وأهمية
التوعية والتحصين
ما
يقصده المجتمع الليبي وهذا الصبي يقع غالبًا في فخ الخلط بين المفهومين. يظنون أن
الحداثة تعني بالضرورة التبعية الثقافية وتقليد كل ما يأتي من الغرب، حتى لو كان
يتعارض مع هويتنا. هذا هو "السير على طريق الاغتراب" الذي حذرت منه، وهو
أخطر ما يهدد أبناءنا. عندما يرى الطفل أن كل ما هو "حديث" يجب أن يكون
غربيًا بالضرورة، فإنه يبدأ في نبذ تراثه وقيمه، وهذا يؤدي إلى شعور بالاغتراب عن
ذاته ومجتمعه.
دورنا كآباء:
توجيه الأبناء نحو الأصالة والمعاصرة
مهمتنا
كآباء ومربين تتجاوز مجرد تعليم أبنائنا، فهي تتضمن توجيههم نحو التفكير النقدي مع
تزويدهم بالمعرفة الصحيحة عن دينهم وتراثهم. ينبغي لنا أن نعرض لهم أمثلة على
العمارة الإسلامية الحديثة التي تجمع بين الأصالة والمعاصرة، وأن نفتح معهم حوارًا
بناءً حول كيفية أن تكون العمارة مرآة لعقيدتنا وقيمنا.
لتحقيق ذلك، يجب
أن نغرس فيهم هذه المفاهيم الأساسية:
• قيمة الموروث: تأكيد أن تراثنا
الإسلامي والثقافي ليس قديمًا باليًا، بل هو كنز من الحكمة والجمال يمكننا أن نبني
عليه للمستقبل.
• الانفتاح الواعي: تعليمهم أننا نأخذ من
الغرب ما ينفعنا من علوم وتقنيات وتطور، ولكننا نرفض ما يتصادم مع عقيدتنا وقيمنا.
• الهوية المستقلة: توضيح أهمية أن نكون
عصريين ومتقدمين، ولكن بهويتنا الخاصة، لا أن نكون نسخة ممسوخة من الآخرين.
ماذا يمكننا أن
نفعل عمليًا؟
• أمثلة حية: يمكننا البحث مع أبنائنا عن
أمثلة لمبانٍ حديثة في العالم الإسلامي أو الغربي، التي تُظهر كيف يمكن للعمارة أن
تكون حديثة ومعاصرة مع الحفاظ على الهوية الإسلامية، مثل بعض المساجد الحديثة أو
المراكز الثقافية.
• الحوار البناء: التحدث معهم عن مفهوم
"الحداثة" وكيف يمكن أن تكون متعددة الأوجه، وأنها لا تعني بالضرورة
التخلي عن القيم الأساسية.
• تشجيع البحث: تشجيعهم على البحث
والقراءة عن تاريخ العمارة الإسلامية وكيف تطورت، وعن رواد العمارة الإسلامية
الحديثة.
تحصين الأبناء
بفهم غايات الشريعة
تعليم
الأطفال الصلاة هو بكل تأكيد أمر مهم. والأهم فهم غايات الشرع التي تنظم حياة
المسلم وتجعله محصناً من تقبل الأفكار الهدامة والمطالبة بتطبيقاتها ورفض كل ما
كان منطلقه شريعتنا السمحاء. فهذه المعرفة هي الحصن الذي يحميهم من مثل هذه
الأفكار ويجعلهم يميزون بين ما هو نافع وما هو ضار. عندما يفهمون أن الإسلام دين
حياة وشامل لكل الجوانب، بما في ذلك الفن والعمارة، سيصبحون أكثر قدرة على تقييم
الأمور بروح نقدية وإيجابية. انتبهوا لأبنائكم والتفتوا إليهم، فهم أمانة استودعها
الله سبحانه وتعالى في أعناقكم، فلا تضيعوها.
بناء جسور بين
الأصالة والمعاصرة في العمارة
إن
مهمتنا لا تقتصر على التفريق بين المفهومين، بل تتعداه إلى بناء جسور حقيقية بين
أصالتنا ومعاصرتنا. يتطلب هذا فهمًا عميقًا لجذور العمارة الإسلامية، ليست مجرد
أشكال وزخارف، بل كمنظومة وظيفية وفلسفية متكاملة.
العمارة
الإسلامية التقليدية لم تكن مجرد فن، بل كانت حلولًا عملية ذكية لمواجهة تحديات
البيئة والمناخ وتلبية الاحتياجات الاجتماعية والدينية. فلنتأمل كيف تعاملت
المساكن القديمة مع حرارة الصيف وبرودة الشتاء من خلال التهوية والإضاءة الطبيعية
باستخدام عناصر مثل المشربيات والملاقف الهوائية والأفنية الداخلية. وكيف صممت
الفراغات لتوفير الخصوصية واحترام العلاقات الاجتماعية. والأهم، كيف اعتمدت على
المواد المحلية، مما جعلها مستدامة ومتجانسة مع البيئة المحيطة. عندما نستوعب هذه
الأجوبة العميقة، يمكننا أن نبتكر حلولًا معمارية حديثة تعيد إنتاج هذه القيم
بأساليب عصرية ومبتكرة، بدلًا من مجرد استنساخ أشكال لا نفهم وظيفتها الأصلية.
الحداثة كـفعل
لا كمظهر
علينا
أن نغرس في أجيالنا الجديدة أن الحداثة الحقيقية تكمن في طريقة التفكير والتصميم
التي تستجيب لاحتياجات العصر بذكاء وفعالية، وليس في مجرد محاكاة المظاهر الخارجية
للعمارة الغربية. يمكن لمبنى أن يكون حديثًا في تقنياته ومواده (مثل استخدام
الخرسانة المسلحة أو الزجاج الذكي)، ولكنه يظل متجذرًا في هويته الثقافية
والدينية.
العمارة
الإسلامية الحديثة تستطيع أن تكون رائدة في مجالات حيوية مثل الكفاءة والاستدامة،
وهي قيم تتوافق تمامًا مع مبادئ ديننا الحنيف الذي يدعو إلى ترشيد الموارد وعدم
الإسراف. كما يمكنها أن تركز على المرونة الوظيفية في تصميم الفراغات، بحيث تكون
قابلة للتكيف مع احتياجات المجتمع المتغيرة، مع الحفاظ على قيمنا الثابتة. والأهم،
تستطيع العمارة المعاصرة أن تعبر عن الجمالية الروحية من خلال دمج العناصر الفنية
المستوحاة من الخط العربي، أو الهندسة الإسلامية، أو حتى استخدام الفراغ والضوء
بطرق تخلق تجربة روحانية، كما نشاهد في العديد من المساجد الحديثة الملهمة. وهذا
يستدعي البحث في كيفية بناء الجسور بين أصالتنا الإسلامية والعربية والتطور
المعماري الحديث، بحيث لا يقع أبناؤنا في فخ الاغتراب. هذا لا يتعلق فقط بالجانب
النظري، بل بكيفية ترجمة هذه المفاهيم إلى واقع ملموس في بيئتنا العمرانية.
خطوات عملية
لتعزيز الهوية المعمارية الحديثة
لتحقيق هذا
التحول وتجنب الاغتراب، يجب أن نتبع خطوات عملية واعية:
1. البحث في جذور العمارة الإسلامية: ليس
مجرد "شكل":
• العمارة الإسلامية ليست مجرد أقواس
وزخارف، بل هي منظومة متكاملة تعكس فهمًا عميقًا للبيئة، للمناخ، للعلاقات
الاجتماعية، وللقيم الروحية.
• يجب أن نبدأ من فهم عميق لأسباب وجود
تلك العناصر التصميمية والوظيفية في عمارتنا التقليدية، مثل التهوية والإضاءة
الطبيعية (المشربيات، الملاقف الهوائية، الأفنية الداخلية)، والخصوصية في
التصميمات، واستخدام المواد المحلية، والوحدة والترابط في الأحياء.
• عندما نفهم هذه الجذور الوظيفية
والفلسفية، يمكننا أن نبتكر حلولًا معمارية حديثة تُعيد إنتاج هذه القيم بأساليب
عصرية، بدلاً من مجرد استنساخ الأشكال.
2. دور التعليم والإعلام:
• المناهج التعليمية: يجب أن تتضمن
دراسات معمقة عن العمارة الإسلامية، لا تقتصر على تاريخها فحسب، بل تمتد لتشمل فلسفتها
العميقة وتطبيقاتها الحديثة.
• الورش العملية: تشجيع الأطفال والشباب
على تصميم مشاريع معمارية صغيرة تجمع بين الأصالة والمعاصرة، لتنمية حسهم الإبداعي
المتجذر.
• التوعية الإعلامية: تسليط الضوء على
المشاريع المعمارية الناجحة في العالم الإسلامي التي استطاعت تحقيق هذه المعادلة
الصعبة، وعرض نماذج ملهمة تثبت أن التقدم لا يتعارض مع الهوية.
• النقد الواعي: تعليم الأبناء كيفية نقد
المشاريع المعمارية من منظور هويتنا الثقافية والدينية، بدلًا من مجرد الانبهار
بالمظهر الخارجي.
3. النموذج والقدوة:
• عندما يرى الطفل نماذج حية لعمارة
جميلة، حديثة، ولكنها في الوقت نفسه تعكس قيم مجتمعه وتاريخه، سيقتنع بأن الأصالة
ليست عائقًا أمام التقدم والابتكار. إن وجود مبانٍ عامة أو خاصة في بيئتنا الليبية
تعبر عن هذه الرؤية سيكون له تأثير أكبر من أي حديث نظري.
• يمكن أن نبحث مع حفيدنا عن أمثلة
لمبانٍ حديثة في العالم الإسلامي أو الغربي، التي تُظهر كيف يمكن للعمارة أن تكون
حديثة ومعاصرة مع الحفاظ على الهوية الإسلامية، مثل بعض المساجد الحديثة أو
المراكز الثقافية.
• تحدث معه عن مفهوم "الحداثة"
وكيف يمكن أن تكون متعددة الأوجه، وأنها لا تعني بالضرورة التخلي عن القيم
الأساسية. شجعه على البحث والقراءة عن تاريخ العمارة الإسلامية وكيف تطورت، وعن
رواد العمارة الإسلامية الحديثة.
إن
بناء هذا الوعي في الأجيال الناشئة هو استثمار حقيقي في مستقبل لا ينفصل عن جذوره،
مستقبل يحتفي بالإبداع والتجديد دون التنازل عن الهوية والقيم الأصيلة. فكيف
يمكننا كمجتمع أن نترجم هذه الأفكار إلى خطوات عملية ملموسة في مدننا ومنازلنا؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق