![]() |
مشروع المجمع السكني برويت إيغو |
جمال الهمالي اللافي
لقد أثبتت التجربة التاريخية في مشاريع العمارات
السكنية التي تعتمد على تكرار نموذج واحد والارتفاع به عموديًا لعشرات الطوابق
فشلها الذريع. هذه المشاريع كانت سببًا مباشرًا في انتشار الجريمة والانحراف
السلوكي. مشروع المجمع السكني "برويت إيغو" (Pruitt-Igoe)، الذي
صممه المعماري الشهير مينورو ياماساكي في خمسينيات القرن الماضي في سانت
لويس بولاية ميسوري الأمريكية، يُعد المثال الأبرز لهذا الفشل الكارثي. هذا
المشروع، الذي بدأ كحلم لمعالجة أزمة السكن وتوفير مساكن حديثة للعائلات منخفضة
الدخل، تحول سريعًا إلى كابوس بسبب سوء التصميم وغياب الصيانة والتركيز السكاني
لشرائح اجتماعية معينة. لم تكن الكارثة مجرد تدهور مادي، بل كانت انهيارًا
اجتماعيًا كاملاً.
لقد كانت الأبحاث والدراسات التي أجراها علماء الاجتماع وعلماء السلوك هي
الفيصل في كشف حقيقة هذا الفشل. أشاروا بوضوح إلى أن تصميم "برويت إيغو"
نفسه، بممراته الطويلة المعزولة، ومساحاته العامة المهملة، وانعدام "عيون
الشارع" (مفهوم جين جاكوبس الذي يشير إلى الرقابة الطبيعية للمجتمع)، قد خلق
بيئة مثالية لانتشار الجريمة والعنف. تسبب هذا النمط في تفكك الروابط الاجتماعية،
وغرس شعور باليأس والعجز لدى السكان، مما حول المجمع إلى بؤرة للجريمة واليأس
اضطرت الدولة في النهاية إلى هدمه بالكامل في فترة السبعينيات، ليصبح رمزًا لكيفية
تدمير أخلاقيات المجتمعات وتفشي الانحراف السلوكي فيها.
في ليبيا، وبعد انقلاب 1969، اقتصرت الدولة على تنفيذ مشاريع إسكانية تعتمد
بشكل كبير على نفس فكرة تكرار نموذج العمارات السكنية الشاهقة. على
الرغم من اختلاف السياق الاجتماعي والثقافي، إلا أن هذه المشاريع، وخاصة تلك التي
بُنيت في ضواحي المدن الكبرى، بدأت تظهر عليها نفس الأعراض التي عانى منها
"برويت إيغو". فنقص الصيانة، وغياب التخطيط الحضري المتكامل الذي يراعي
الاحتياجات الاجتماعية والنفسية للسكان، أدى إلى تدهور هذه المجمعات وتحولها
تدريجياً إلى بيئات غير محفزة، وفي بعض الأحيان، بؤر لبعض المشاكل الاجتماعية.
للأسف، تكررت تجربة الفشل، وإن كان بدرجات متفاوتة، متسببة في آثار سلبية على جودة
حياة سكانها.
وما يزيد الطين بلة، هو أن المشاريع الاستثمارية التي أخذت
تتزايد بعد أحداث فبراير 2011، وخاصة تلك التي ينفذها القطاع الخاص، تعيد تكرار
نفس الأخطاء الجسيمة بعيداً عن أي رقابة تخطيطية أو اجتماعية حقيقية.
يسعى المستثمرون لتحقيق أقصى ربح عبر التركيز على الكثافة السكنية العالية وتكرار
الوحدات، متجاهلين الدروس المستفادة من التجارب السابقة. هذا النهج لا يستهدف حل
أزمة السكن بقدر ما هو وسيلة صامتة لتدمير أخلاقيات المجتمعات والنسيج الاجتماعي
الليبي.
إن الحاجة ملحة اليوم لإعادة تقييم شامل لهذا
الأسلوب في التخطيط الإسكاني. لا يمكن الاستمرار في بناء "سجون
اجتماعية" بحجة توفير السكن. السؤال الذي يطرح نفسه بقوة هو: ما هو النظام الأنسب لمشاريع المجمعات الإسكانية
المعاصرة التي اجتهد المعماريون والمخططون الغربيون لتحقيقها تجنبًا لتكرار هذا
الفشل المريع وانتشار الجريمة؟ وكيف يمكن لليبيا أن تستفيد من هذه
التجارب لتطوير حلول إسكانية مستدامة تراعي الأبعاد النفسية والاجتماعية
والأخلاقية لسكانها؟
المشاكل
النفسية
يمكن أن تؤدي الحياة في العمارات السكنية
المرتفعة والمكتظة إلى مجموعة من المشاكل النفسية، منها:
·
الشعور بالعزلة والاغتراب: رغم
الكثافة السكانية، قد يشعر السكان بالعزلة بسبب قلة التفاعل الاجتماعي الطبيعي الذي
توفره الأحياء التقليدية. تصميم هذه المباني غالبًا ما يفتقر إلى المساحات التي
تشجع على التلاقي والتفاعل بين الجيران، مما يؤدي إلى شعور الأفراد بأنهم مجرد جزء
من كتلة سكانية ضخمة.
·
ضيق المساحة وفقدان الخصوصية: تؤثر
المساحات الصغيرة للشقق في العمارات على الصحة النفسية، خاصة للعائلات الكبيرة،
وقد يسبب ضيق المساحة شعورًا بالاختناق والتوتر. كما أن قرب الجيران من بعضهم
البعض قد يقلل من الشعور بالخصوصية، مما يؤثر سلبًا على الراحة النفسية.
·
انعدام الشعور بالملكية والانتماء: عندما
يعيش الناس في بيئات موحدة ومتكررة، قد يفقدون الشعور بالانتماء للمكان. فالتصميم
النمطي للمباني لا يسمح بالتعبير عن الهوية الفردية أو المجتمعية، مما يضعف الرابط
بين السكان ومحيطهم السكني.
المشاكل
الاجتماعية
لا تقتصر المشاكل على الجانب النفسي، بل تمتد
لتشمل البنية الاجتماعية للمجتمعات:
·
تفكك الروابط الأسرية والمجتمعية: غالبًا
ما تفتقر هذه المجمعات إلى البنية التحتية الاجتماعية اللازمة لدعم الأسر
والمجتمعات، مثل المساحات الخضراء، والمرافق الترفيهية، والمراكز المجتمعية. هذا
النقص يحد من فرص التفاعل الاجتماعي وتكوين العلاقات القوية بين السكان.
·
زيادة معدلات الجريمة والانحراف السلوكي: أظهرت
التجربة العالمية، كما في حالة "برويت إيغو" حيث أدت الكثافة السكانية
وغياب الإشراف الفعال إلى تحول المشروع إلى بؤرة للجريمة واليأس، أن البيئات
السكنية المكتظة والتي تفتقر إلى الأمن يمكن أن تصبح بيئة خصبة لانتشار الجريمة
والسلوكيات المنحرفة. غياب الشعور بالمسؤولية المشتركة وضعف الرقابة الاجتماعية
يسهمان في تفاقم هذه المشاكل.
·
التمييز الاجتماعي والطبقي: قد
تتحول بعض هذه المجمعات إلى بؤر للفقر والعشوائية، مما يؤدي إلى عزل سكانها عن
بقية المجتمع وتفاقم التمييز الاجتماعي. هذا الوضع يمكن أن يخلق فجوات بين طبقات
المجتمع ويؤثر على التماسك الاجتماعي العام.
المشاكل
الأخلاقية
إن تصميم وتنفيذ مشاريع الإسكان الكبرى دون
مراعاة الأبعاد الإنسانية يمكن أن يؤدي إلى تدهور أخلاقيات المجتمع:
·
تراجع القيم التقليدية: تعتمد
المجتمعات الليبية على الروابط العائلية والمجتمعية القوية، والتي تُعد أساسًا
للقيم الأخلاقية. قد يؤدي نمط العمارات السكنية إلى إضعاف هذه الروابط، وبالتالي
تراجع القيم مثل التكافل، التعاون، واحترام الجار.
·
تنامي السلوكيات الفردية: قد تعزز
الحياة في هذه المجمعات النزعة الفردية على حساب العمل الجماعي والمشاركة
المجتمعية. عندما يفتقر الأفراد إلى الشعور بالانتماء للمجتمع الأكبر، قد تتراجع
لديهم المسؤولية تجاه الممتلكات العامة والقواعد الاجتماعية.
·
ضعف الرقابة الأخلاقية: في
الأحياء التقليدية، توجد رقابة اجتماعية غير رسمية تساهم في الحفاظ على الأخلاق
العامة. في المقابل، فإن المجمعات السكنية الكبيرة قد تفتقر إلى هذا النوع من
الرقابة، مما يتيح مجالًا أوسع لانتشار السلوكيات غير المقبولة دون رادع اجتماعي
قوي.
ما هو
النظام الأنسب لمشاريع المجمعات الإسكانية المعاصرة؟
لقد تعلم المعماريون والمخططون الغربيون، بعد
تجارب مثل "برويت إيغو"، دروسًا قاسية دفعتهم لتطوير أنظمة إسكان أكثر
إنسانية واستدامة. تهدف هذه الأنظمة إلى تجنب تكرار الفشل وانتشار الجريمة، وترتكز
على المبادئ التالية:
1.
التخطيط العمراني المتكامل والموجه نحو المجتمع:
·
دمج الاستخدامات: بدلاً
من مجمعات سكنية بحتة، يتم دمج السكن مع المحلات التجارية، المكاتب، والخدمات
المجتمعية (مدارس، عيادات، مراكز ثقافية) ضمن المخطط لتوفير بيئة حيوية مكتفية
ذاتيًا.
·
تنوع أنماط السكن: توفير
مزيج من أنواع الوحدات السكنية (شقق صغيرة، متوسطة، كبيرة، منازل تاون هاوس) لجذب
شرائح سكانية متنوعة من حيث الدخل والحجم الأسري. هذا يساعد على خلق مجتمع أكثر
توازنًا وتنوعًا.
·
المساحات الخضراء والمساحات العامة النشطة: تصميم
مساحات خضراء واسعة، حدائق، ملاعب، وميادين عامة تشجع على التفاعل الاجتماعي
والأنشطة الترفيهية المنظمة. هذه المساحات يجب أن تكون مصممة لتكون آمنة ومراقبة
بشكل طبيعي (عبر "عيون الشارع").
·
سهولة الوصول والاتصال: ربط
المجمعات بوسائل النقل العام الفعالة وتوفير مسارات للمشاة والدراجات الهوائية
لتسهيل الحركة وتقليل الاعتماد على السيارات.
2.
التصميم المرتكز على الإنسان:
·
المقياس الإنساني: تجنب
الأبراج الشاهقة قدر الإمكان والتوجه نحو مبانٍ متوسطة الارتفاع (4-6 طوابق) تسمح
للسكان بالشعور بالارتباط بمحيطهم والتحكم فيه.
·
الخصوصية والمرونة: تصميم
وحدات سكنية توفر قدرًا كافيًا من الخصوصية لكل أسرة، مع إمكانية التعديل والمرونة
لتناسب الاحتياجات المتغيرة.
·
الإضاءة الطبيعية والتهوية: التركيز
على التصميم الذي يسمح بأقصى قدر من الإضاءة الطبيعية والتهوية الجيدة، مما يؤثر
إيجابًا على الصحة النفسية للسكان.
·
الأمن بالتصميم (CPTED
- Crime Prevention Through Environmental Design): مبدأ
أساسي يركز على تصميم البيئة المادية لتقليل فرص الجريمة. يشمل ذلك الرؤية
الواضحة، الإضاءة الجيدة، تحديد الملكية، والصيانة المستمرة.
3.
المشاركة المجتمعية والإدارة الفعالة:
·
إشراك السكان: إشراك
السكان المستقبليين في عملية التخطيط قدر الإمكان لضمان تلبية احتياجاتهم
وتفضيلاتهم.
·
الإدارة المستدامة: وضع خطط
واضحة ومستدامة لإدارة وصيانة المجمعات، مع تخصيص ميزانيات كافية لذلك. يمكن أن
يشمل ذلك تشكيل لجان سكانية للمساعدة في الإدارة.
·
برامج الدعم الاجتماعي: توفير
برامج دعم اجتماعي ونفسي داخل المجمعات، خاصة للعائلات التي قد تكون بحاجة إليها.
4.
التنوع الاقتصادي والاجتماعي:
· تجنب تركيز شريحة اجتماعية أو اقتصادية واحدة في
مشروع واحد. دمج العائلات من مستويات دخل مختلفة يساعد على بناء مجتمعات أكثر قوة
ومرونة ويقلل من الوصمة الاجتماعية.
إن تبني هذه المبادئ في ليبيا، سواء في المشاريع
الحكومية أو الخاصة، ضروري لضمان أن تكون الحلول الإسكانية جزءًا من استراتيجية
أوسع لبناء مجتمعات صحية ومستدامة، لا مجرد تكرار لأخطاء الماضي التي كلفت الشعوب
الكثير.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق