جمال الهمالي اللافي
شهدت
العقود الأخيرة تراجعًا ملحوظًا في جودة البيئة المبنية وهويتها الأصيلة في كثير
من مجتمعاتنا، لتتحول المساحات الحضرية إلى مزيج غير متجانس من الأساليب والتوجهات.
هذه الأزمة ليست وليدة الصدفة، بل هي محصلة لتفاعل معقد بين تعليم معماري مفرغ من العمق، وإعلام
ثقافي مضلل، وتأثر غير واعٍ بنظريات غربية لا تتوافق بالضرورة مع
خصوصيتنا الثقافية والعقائدية. إن المبنى، في جوهره، ليس مجرد كتلة خرسانية؛ إنه
تجسيد للأفكار والفلسفات السائدة في المجتمع، ومرآة تعكس وعيه أو غيابه.
التسطيح
الأكاديمي: بوابة إلى الفراغ المعماري
يكمن
جزء كبير من هذه المشكلة في جوهر مناهج التعليم المعماري والفني
في جامعاتنا. غالبًا ما تركز هذه المناهج على التلقين المفرط
والجانب التقني البحت، مُقصيةً بذلك مهارات التفكير النقدي، والتحليل الفلسفي،
والتعمق في السياق الثقافي والتاريخي للعمارة. يخرج الطالب مجهزًا بالأدوات
البرمجية والإنشائية، لكنه يفتقر إلى البصيرة والرؤية اللازمة لخلق عمارة ذات معنى
وهوية.
هذا التسطيح يؤدي إلى:
· غياب النقد البناء للنماذج
المستوردة: فبدلًا من تحليل المدارس المعمارية
الغربية بعمق وفهم سياقها الفلسفي والاجتماعي، يتم استنساخ أشكالها وتطبيقاتها
بشكل سطحي، دون مراعاة لتوافقها مع بيئتنا أو قيمنا.
· الافتقار إلى الدراسات العميقة
للهوية المعمارية الإسلامية والعربية: يُنظر إلى التراث كقوالب جاهزة تُقلّد أو تُهمل، بدلًا من
كونه مصدر إلهام يمثل ثروة من المبادئ التصميمية والفلسفية التي يمكن تطويرها
وتكييفها مع العصر. لا تُشجّع الدراسات التي تربط العمارة بعمقها الفكري
والعقائدي.
· التركيز المفرط على الأدوات
التقنية على حساب الفكر الفلسفي والتصميمي: فيصبح الهدف هو إتقان برامج التصميم ثلاثي الأبعاد، بينما
يتراجع دور الفكر التصميمي الأصيل، ومساءلة الوظيفة، وعمق العلاقة بين الإنسان
والفراغ.
إعلام السطحية:
تشكيل ذوق معماري مُغترب
لا
يقتصر دور الإعلام على مجرد "ملء العقول بثقافة التفاهة"، بل يمتد ليصبح
أداة قوية في تشكيل الذوق العام المعماري، وغالبًا ما يكون ذلك في
اتجاه يعمّق أزمة الهوية. ففي ظل غياب برامج إعلامية متخصصة وجادة في النقد
المعماري، أو غياب المساحات التي تشجع على الحوار حول العمارة المحلية الأصيلة:
· تروّج برامج الديكور والمجلات
غير المتخصصة لأنماط
معمارية دخيلة، تعرض نماذج سكنية وتجارية لا تتناسب مع قيم المجتمع أو أنماط حياته
أو ظروفه المناخية والاجتماعية. هذه البرامج تعرض "الصورة" البراقة على حساب "المضمون" والجودة، وتساهم في انتشار ثقافة التقليد
الأعمى للمبهرج والجديد، حتى لو كان عديم الجدوى أو الهوية.
· يساهم غياب النقد المعماري الجاد في استمرارية الرداءة والتسطيح، حيث
لا توجد جهة إعلامية قوية تُسائل المشاريع الرديئة أو تُبرز النماذج الجيدة التي
تحترم الأصالة والمعاصرة. يصبح المعماريون والمطورون في منأى عن المحاسبة
المجتمعية.
· أثر الترويج لـ
"الصورة" على حساب "المضمون" في العمارة: يصبح الهدف هو تحقيق جاذبية بصرية
سطحية، بغض النظر عن كفاءة الأداء الوظيفي للمبنى، أو مدى ارتباطه بسياقه
الاجتماعي والثقافي. نرى واجهات مبانٍ تعكس أساليب لا صلة لها بالبيئة، وتصاميم
داخلية تفتقر إلى الراحة أو الملاءمة الثقافية.
اختراق
فلسفي: النظريات الغربية وتجسدها في فوضى البناء
لقد
فتح التسطيح المعرفي والغياب النقدي الباب واسعًا أمام اختراقات فكرية خطيرة من النظريات الغربية المعاصرة، مثل الحداثة، وما بعد الحداثة، والتفكيكية. هذه النظريات، التي تنطلق في جوهرها من هدم
أركان الإيمان بوجود الله ووحدانيته، هي امتداد لنظرية داروين في "النشوء والارتقاء" التي تُقدم كحقيقة علمية في مناهجنا.
هذا التشكيك الجذري في الأصل والوجود يمتد ليؤثر على فهم الإنسان لذاته، لدوره في
الكون، وبالتالي، لدوره كخالق ومنشئ للبيئة المبنية. إن المبنى هنا لا يعود مجرد
وظيفة، بل يصبح تجسيدًا لفلسفة وجودية، غالبًا ما تتعارض مع عقيدتنا.
تتناقض هذه النظريات بشكل صارخ مع
العقيدة الإسلامية، وتُسهم في خلق هوة عميقة بين الفكر والمعتقد، وهو ما ينعكس
جليًا في الفضاء المعماري:
· الحداثة: التي رفعت من شأن العقل ورفضت
الميتافيزيقا والدين. في العمارة، تجلى ذلك في "الأسلوب الدولي"
الذي نبذ التاريخ، الهوية المحلية، والزخرفة، مركزًا على الوظيفية المفرطة والنقاء
الشكلي المجرد. هذا الأسلوب أنتج مبانٍ يمكن أن توجد في أي مكان في العالم، مفتقرة
لأي حس ثقافي أو محلي. فعلى سبيل المثال، نرى اليوم مبانٍ زجاجية ضخمة تلتهم طاقة
هائلة للتبريد في بيئات حارة، أو عمارات سكنية ذات واجهات صماء لا تعكس خصوصية
الحياة الأسرية المسلمة، كل ذلك بدافع "الحداثة" البصرية المجردة.
·
ما بعد الحداثة:
التي أعلنت "موت الإله" ووضعت الإنسان في مركز الكون، مُروجة للنسبية
والتعددية المطلقة.
· التفكيكية: التي تدعي تفكيك النصوص المقدسة
لإعادة ترتيبها، لكن غايتها الحقيقية هي تركها مبعثرة. من هنا نشأت أفكار وتطبيقات
مدمرة كإباحة الشذوذ الجنسي والنسوية، هادمة كل الثوابت والقيم. في العمارة، أدت
التفكيكية إلى أعمال معمارية تفتقر للاتساق، وتكسر القواعد التقليدية، وتخلق
مساحات تبعث على الارتباك واللايقين بدلًا من الطمأنينة. يمكن ملاحظة ذلك في بعض
المباني التي تبدو كأنها أجزاء متفككة، أو تستخدم أشكالًا وزوايا غريبة لا تخدم
وظيفة أو جمالية واضحة، ما يثير تساؤلات حول فلسفتها وغايتها في سياقنا الثقافي،
بل وتؤثر سلبًا على التجربة الإنسانية للمستخدمين.
لقد تسللت هذه النظريات، على الرغم من
تصادمها الجذري مع قيمنا، إلى مجالات العمارة والفنون والآداب، عبر مناهج كلياتها.
فبمحاربة أي توجه يخالفها والإعلاء من شأن روادها الغربيين، نشأ لدينا انفصام حاد:
مسلم متمسك بعقيدته شكلاً، لكن سلوكه وتعاملاته وقناعاته تتصادم مع هذه العقيدة في
كل تفاصيل حياته، من الملبس والمأكل إلى الأفكار التي يعتنقها ومسكنه. هذا
الانفصام يتجلى بوضوح في غياب الهوية المعمارية الأصيلة، واستنساخ أنماط لا تتناسب
مع مناخنا، ثقافتنا، أو قيمنا، مما يساهم في اغتراب الإنسان عن محيطه المبني.
نحو نهضة
معمارية: مسؤولية التعليم، الإعلام، والمعماري المثقف
إن التحدي كبير، لكن الفرصة أكبر.
لقلب هذه المعادلة، يتوجب على مؤسسات التعليم والإعلام، وبخاصة المعماريون، تحمل
مسؤوليتهم التاريخية.
على صعيد
التعليم المعماري:
·
يجب إصلاح المناهج لتشمل التركيز العميق
على الهوية الثقافية والتراث المعماري الإسلامي والعربي كمنبع
للإلهام، لا مجرد مادة تاريخية جامدة.
·
يجب أن تُعزّز مهارات التفكير النقدي
لدى الطلاب، لتمكينهم من تحليل النظريات الغربية واستخلاص المفيد منها دون الوقوع
في فخ التبعية الفكرية.
· يجب أن يتجاوز التعليم مجرد الأدوات
التقنية إلى ترسيخ الفكر الفلسفي والتصميمي الذي يربط العمارة بهويتها
الإنسانية والعقائدية. يجب أن نسأل: ما هي القيم التي نريد لعمارة أن تجسدها؟
على صعيد
الإعلام:
·
يجب تفعيل دور الإعلام المعماري المتخصص
لرفع الوعي والذوق العام. هذا يتطلب برامج وثائقية، ومقالات نقدية، ومبادرات
إعلامية تُسلط الضوء على العمارة الأصيلة والمعاصرة، وتُعرّف الجمهور بالنماذج
الناجحة التي تجمع بين الجمال والوظيفة والهوية.
·
يجب أن يُسهم الإعلام في تشكيل رؤية جمالية مسؤولة
لا تكتفي بالصورة، بل تتعمق في المضمون والقيم.
على
المعماري:
· عليه أن يكون مثقفًا وقائدًا للرأي العام في مجال تخصصه، لا مجرد فنان
أو مهندس. يجب أن يمتلك القدرة على ربط مشروعه بالبعد الثقافي، والاجتماعي،
والروحي للمجتمع.
· يجب أن يتحول من مُقلّد إلى مُبدع أصيل، قادر على استلهام التراث وتكييفه مع متطلبات
العصر، بدلًا من استيراد حلول جاهزة لا تتوافق مع بيئتنا أو قيمنا. إن مشروعًا
معماريًا لا يرتقي لمستوى تطلعات المجتمع في توفير بيئة تجمع بين الجمال، والهوية الثقافية، وكفاءة الأداء الوظيفي هو خطر
ثقافي يوازي خطر الأفكار الهدامة.
إنها دعوة للجميع، من مقاعد الدراسة
إلى شوارعنا، ومن شاشات الإعلام إلى عقولنا: هل نختار الوعي والإصلاح، ونبني بيئة
معمارية تعكس أصالتنا وتطلعاتنا، أم نستسلم للفراغ والتجهيل الذي يهدد ليس فقط
عقولنا، بل مساحات عيشنا وهويتنا ذاتها؟ إن مستقبل عمارة حضارتنا يعتمد على قدرتنا
على استعادة الوعي وإعادة بناء الفكر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق