أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

{فأما الزَّبد فيذهب جُفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض}- سورة الرعد، الآية 17

السبت، أغسطس 02، 2025

نحو إنسان ليبي قوي: البيئة أساس البناء لا الانهيار

 


جمل الهمالي اللافي

إن الحديث عن بناء "إنسان ليبي قوي" لا يمكن أن ينفصل، بأي حال من الأحوال، عن البيئة التي يترعرع فيها ويعيش. هذه حقيقة جوهرية، يؤكدها علم الاجتماع وعلم النفس البيئي، ومع ذلك تبقى للأسف الشديد، إما مغيبة أو مُستهزأ بها في خطابنا المجتمعي، على الرغم من أن إدراكها ضروري لتحقيق أي نهضة حقيقية. إنها لبنة أساسية في صرح التنمية البشرية، وإغفالها يعني بناء كيان ضعيف مهدد بالانهيار.

حقيقة مُرّة: تدهور البيئة العمرانية والطبيعية ومسؤولية الدولة

شهدت مدننا الليبية تحولات عمرانية جسيمة خلال العقود الماضية، غالبًا ما تمت تحت ذريعة حل أزمة السكن، لكنها أسفرت عن نتيجة كارثية: تدمير للنسيج العمراني الأصيل وتشويه للبيئة الطبيعية. استُبدلت هذه البيئات بعمارات أسمنتية كئيبة تفتقر لأدنى مقومات الجمال أو الروح الإنسانية، وأدت إلى انتشار الضوضاء والتلوث، وغياب المساحات الخضراء والجمالية البصرية. هذه البيئة المصطنعة ليست مجرد مشهد قبيح؛ إنها آلة صماء تعمل على تدمير النفس البشرية بصمت. فالبيئات الحضرية القبيحة والمكتظة والمفتقرة للعناصر الطبيعية تؤدي إلى ارتفاع مستويات التوتر والقلق، وتدهور الصحة العقلية، وفقدان الشعور بالانتماء، كما تسهم في تفشي السلوكيات السلبية وضعف الروابط المجتمعية.

تفاقمت هذه المعضلة بشكل كبير بسبب غياب المخططات العمرانية المدروسة من طرف الدولة، وتخليها عن مسؤولياتها في هذا الشأن الحيوي. فبدلاً من صياغة رؤى شاملة للمدن تستوعب النمو السكاني بطرق مستدامة وإنسانية، وجدنا أنفسنا أمام مخططات عشوائية ومكتظة أفرزتها سياسات غير مدروسة. هذه المخططات تفتقر بشكل فادح للبنى التحتية اللازمة لمواكبة الكثافة السكانية المتزايدة، ولا تُعنى بتوفير مشاريع معمارية سكنية منسجمة تراعي الجانب الجمالي والنفسي، ناهيك عن الإهمال التام للمساحات الخضراء التي تعد متنفسًا حيويًا للسكان. هذا الفراغ التخطيطي وغياب تحمل المسؤولية في رسم مستقبل عمراني مستدام، هو ما أنتج بيئات سكنية تعكس الفوضى والضيق، وتضعف من قدرة الفرد على التكيف والازدهار. إن الدولة، بمؤسساتها المعنية بالتخطيط والتنمية، تتحمل مسؤولية مباشرة في تدهور هذه البيئات وفي بناء عمارات لم تكن أبدًا جزءًا من رؤية متكاملة لمدن قادرة على احتضان أجيال قوية ومستقرة.

شرخ في البناء المعرفي: تجاهل الجذور الحقيقية

المفارقة تكمن في أن هذه الحقائق ليست خافية على المتخصصين. علماء الاجتماع وعلماء النفس في كل أنحاء العالم يقرون بأن البيئة هي حاضنة السلوك البشري. ولكن في جامعاتنا وكلياتنا ذات الصلة، يبدو أن التركيز ينصب على دراسة النتائج المدمرة أكثر من دراسة أسبابها الجوهرية. فطلاب علم الاجتماع يُرسلون لدراسة المساجين في السجون، وطلاب علم النفس يُرسلون لمعاينة الحالات في مستشفيات الأمراض العقلية. هذا التركيز على "التشخيص بعد وقوع الكارثة" يطمس الرؤية الشاملة التي تؤكد أن بيئة سليمة ومُصممة بعناية يمكن أن تكون الوقاية الأولى من هذه المشكلات.

إن هذا التجهيل المعرفي المتمثل في تجاهل الرابط الوثيق بين البيئة وصحة الإنسان النفسية والجسدية هو عقبة كبرى أمام أي تقدم. فالجذور الحقيقية لمشكلاتنا المجتمعية والنفسية لا تكمن فقط في الأفراد أو الظروف الاقتصادية، بل تمتد لتشمل البيئة المحيطة التي تشكل وعينا وسلوكنا.

نحو حلول جذرية: بناء بيئة تصنع الإنسان القوي

لصناعة إنسان ليبي قوي، لا بد أن نبدأ بإعادة بناء بيئته، وهذا يتطلب مقاربة شاملة ومتكاملة:

1.   التخطيط العمراني المستدام الموجه بالإنسان: يجب أن تتبنى البلديات والمؤسسات المعنية فلسفة تخطيط عمراني تضع الإنسان في جوهرها. هذا يعني تصميم أحياء سكنية تحترم الخصوصية وتوفر المساحات المشتركة، وتراعي الجمالية، وتدمج المساحات الخضراء، وتُشجع على المشي والتفاعل الاجتماعي. يجب التوقف عن سياسة العشوائية والتركيز على الكثافة المفرطة التي تخنق الروح وتضيق الخناق على حياة الناس.

2.   حماية البيئة الطبيعية وتجذيرها: الطبيعة ليست ترفًا، بل هي ضرورة قصوى للصحة النفسية والعقلية. يجب حماية سواحلنا، صحارينا، غاباتنا، ومساحاتنا الطبيعية، وتضمينها بشكل عضوي في التخطيط العمراني، وتسهيل الوصول إليها. غرس الأشجار في الشوارع، إنشاء الحدائق العامة، والمساحات الخضراء في كل حي هو استثمار مباشر في صحة المواطن.

3.   إصلاح المناهج التعليمية: يجب أن تعكس مناهجنا الجامعية في كليات الهندسة، التخطيط العمراني، علم الاجتماع، وعلم النفس هذه الحقائق. يجب أن يُعلّم الطلاب ليس فقط كيفية بناء المنشآت أو تحليل الظواهر الاجتماعية، بل كيف تُصمم وتُبنى بيئات تعزز الصحة النفسية والجسدية، وتُشجع على الإبداع، وتُنمّي حس الانتماء والمسؤولية المجتمعية. يجب أن تكون دراسة تأثير البيئة على الإنسان جزءًا أساسيًا من تكوينهم المعرفي.

4.   التوعية المجتمعية بأهمية البيئة: يجب إطلاق حملات توعية مكثفة تثقف المجتمع بأهمية البيئة المعمارية والطبيعية في تشكيل شخصية الإنسان. عندما يدرك الأفراد أن نوعية حياتهم وسلوكيات أبنائهم ترتبط بشكل مباشر بجودة المكان الذي يعيشون فيه، سيتغير سلوكهم وتزداد مطالبتهم ببيئة أفضل.

إن بناء إنسان ليبي قوي لا يبدأ من الفراغ، ولا يمكن أن يُنجز بمعزل عن بيئته. إنها رحلة تتطلب وعيًا جماعيًا، وتخطيطًا مستقبليًا، واستثمارًا حقيقيًا في بيئاتنا المعمارية والعمرانية والطبيعية. عندها فقط، يمكننا أن نرى أفرادًا أكثر صحة نفسية، وأكثر إنتاجية، وأكثر احترامًا لأنفسهم وللمجتمع من حولهم، قادرين على بناء مستقبل أقوى لوطنهم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المواضيع الأكثر مشاهدة

بحث هذه المدونة الإلكترونية