جمال الهمالي اللافي
في زمنٍ
باتت فيه المصطلحات تُشكّل الوعي أكثر مما تُعبّر عنه، يتسلّل إلى الخطاب المعماري
تعبيرٌ شائع يُدعى "التكييف السلبي". للوهلة الأولى، يبدو المصطلح
تقنيًا محايدًا، لكنه في جوهره يحمل حكمًا ضمنيًا يُقلّل من قيمة ممارسة تصميمية
عريقة، ويُكرّس هيمنة النموذج الصناعي على حساب الحكمة المناخية المتجذرة في
ثقافتنا.
الأصل لا
البديل
في
العمارة الليبية، لم يكن التكييف الطبيعي خيارًا بديلًا، بل هو الأصل. من
"حوش العيلة" إلى بيوت الأرياف، كانت الأفنية، السقائف، النوافذ
المدروسة، والمواد المحلية أدوات تكييف ذكية، تُراعي المناخ وتُحاكيه، لا تُقاومه.
لم تكن هذه العناصر مجرد تفاصيل تصميمية، بل كانت تعبيرًا عن فلسفة عيش، وعن علاقة
الإنسان بمحيطه، وعن احترامه للبيئة والزمن.
مصطلح
"التكييف السلبي": مغالطة لغوية ومفاهيمية
يُستخدم
هذا المصطلح في بعض الأوساط الهندسية للإشارة إلى التكييف الطبيعي، أي ضبط الأجواء
الداخلية دون اللجوء إلى أجهزة التكييف الصناعية. غير أن هذا الاستخدام يُضفي على
التكييف الطبيعي صفة "السلبية"، وهي في عرف الناس دلالة على الضرر أو
القصور، بينما هو في جوهره إيجابي، صحي، بيئي، واقتصادي.
لماذا نرفض هذا المصطلح؟
- لأنه
يُشوّه قيمة التكييف الطبيعي ويُضعف حضوره في الخطاب المهني.
- لأنه
يُقصي تجربة معمارية كاملة من الاعتراف المهني.
- لأنه
يُكرّس هيمنة النموذج الصناعي الذي يُقاس بالقدرة الكهربائية لا بالانسجام
البيئي.
التكييف
الصناعي هو ما يستحق وصف "السلبي"
- يُضر
بصحة الإنسان نتيجة التغيرات المفاجئة في درجات الحرارة وجودة الهواء.
- يُكلف
كثيرًا في الإنشاء والتشغيل والصيانة.
- يُشوّه
الواجهات المعمارية بأجهزة نافرة وغير منسجمة.
- يُلوث
البيئة نتيجة تراكم الأجهزة التالفة واستهلاك الطاقة المفرط.
فهل يُعقل أن نُسمّي التكييف الطبيعي
"سلبيًا" ونُغفل هذه الأضرار؟
من
المصطلح إلى الموقف
تصحيح هذا
المصطلح ليس مجرد تعديل لغوي، بل هو استعادة لكرامة المعمار المحلي، ورفضٌ ضمني
لسياسات التصميم التي تُقصي الحكمة المناخية لصالح الاستيراد الأعمى. إنه دعوة
لإعادة الاعتبار للعمارة كفنٍ للحياة، لا كصناعة للأجهزة.
مصطلحات بديلة أكثر دقة:
العمارة التي تُكيّف العلاقة لا الهواء فقط
العمارة
الواعية لا تُكيّف الهواء فقط، بل تُكيّف العلاقة بين الإنسان والمكان. إنها تُعيد
تعريف الراحة، لا كمُنتج كهربائي، بل كحالة انسجام بين الجسد والمناخ، بين الجدران
والضوء، بين الظل والنسيم.
في هذا
السياق، لا يعود التكييف الطبيعي مجرد تقنية، بل يصبح موقفًا ثقافيًا، وممارسة
أخلاقية، ورسالة تصميمية تُعيد للعمارة دورها في حماية الإنسان، لا عزله عن بيئته.
كيف
تنعكس هذه الرؤية في مشاريعنا؟
في نماذج
العمارة المحلية المعاصرة، لا نُصمم فقط من أجل الراحة الحرارية، بل من أجل
استعادة شعور الانتماء والكرامة. نُعيد توظيف العناصر التقليدية، لا كزينة تراثية،
بل كأدوات فعالة في تحقيق التكييف الطبيعي الواعي. نُراهن على الفناء، على التوجيه
المدروس، على المواد المحلية، وعلى حكمة الأجداد التي لم تُكتب في كتب، بل سكنت
الجدران والظلال.
هذه ليست
دعوة للعودة إلى الماضي، بل دعوة لاستعادته كمرجعية تصميمية، تُحرّرنا من التبعية
التقنية، وتُعيد للعمارة دورها كوسيط بين الإنسان والمناخ، بين الذاكرة والطموح.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق