السبت، أغسطس 16، 2025

نحو إعادة تعريف تدريس مادة تاريخ العمارة


جمال الهمالي اللافي

المقدمة: لماذا نقرأ التاريخ؟

في زمنٍ تتسارع فيه التحولات، وتُستبدل فيه الجذور بالأنماط المستوردة، تبرز الحاجة إلى قراءة التاريخ لا كترفٍ ثقافي، بل كفعلٍ معماري مقاوم. نقرأ التاريخ لنستعيد العبرة، لا لنُكررها، بل لنُعيد تشكيلها بما يليق بكرامة الإنسان وذاكرة المكان. نقرأه لنُحدد مرجعيتنا، لا لنُقلّد، بل لننطلق من نقطة وعيٍ نقديٍّ يُعيد الاعتبار لتجارب الأجداد، ويُؤسس لمنهجية تصميمية تُراعي السياق، والهوية، والاحتياج. ونقرأه لنُحقق أهدافًا تتجاوز الشكل، نحو عمارةٍ تُنظّم العلاقة بين الذات والموضوع، بين الحلم والواقع، بين ما نؤمن به وما نبنيه.

في هذا المقال، أستعرض كيف يمكن للتاريخ أن يكون حليفًا في صياغة مشروع معماري يحمل روح حوش العيلة، ويُعيد للضواحي والأرياف الليبية دفئها المفقود، لا عبر الحنين، بل عبر التصميم الواعي، والذاكرة الحيّة. ومن خلال هذا التأمل، أطرح دعوة لإعادة النظر في منهج تدريس تاريخ العمارة، الذي يُدرّس اليوم بشكلٍ يُغيب جوهره النقدي والثقافي.

أولًا: التاريخ كعبرة لا كحكاية

التاريخ ليس سردًا للأمجاد، بل تفكيكٌ للخيارات التي اتخذها من سبقونا، وتحليلٌ للنتائج التي ترتبت عليها. في العمارة، كل نمطٍ بنائي وكل فراغٍ عمراني هو انعكاسٌ لفلسفةٍ في العيش، لرؤيةٍ في الزمن، ولعلاقةٍ بين الإنسان والمكان. نقرأ كيف انهارت مدنٌ حين فُصلت عن ناسها، وكيف تحوّلت البيوت إلى قوالب جامدة حين غابت عنها الروح.

"قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين" (الأنعام: 11(

التاريخ يُعلّمنا أن نطرح الأسئلة الصحيحة:

  • ما الذي يجعل البيت بيتًا؟
  • كيف يُصبح الحيّ نسيجًا حيًّا لا مجرد تقسيمات؟
  • ما الذي فقدناه حين استبدلنا "الحوش" بمساحاتٍ معزولة، وحين قُلنا "الخصوصية" ونسينا "الحميمية"؟

 

ثانيًا: التاريخ كمرجعية تصميم

في زمنٍ يُغري فيه الحداثة بالقطيعة، يُعيدنا التاريخ إلى الجذور لا لنُقلّدها، بل لنُفكّر من خلالها. نماذج مثل حوش العيلة ليست مجرد طرزٍ تقليدية، بل أنماطٌ عمرانية تُجسّد فلسفةً في التراحم، في التداخل الأسري، وفي احترام الزمن كدورةٍ لا كخطٍّ مستقيم. المرجعية التاريخية تُصبح هنا أداةً نقدية، تُساعدنا على أن نُصمّم بما يُشبهنا، لا بما يُرضي السوق.

ثالثًا: التاريخ كأفقٍ للتحوّل

قراءة التاريخ تُعلّمنا أن العمارة ليست فعلًا تقنيًّا، بل فعلٌ ثقافيٌّ يُعيد تشكيل الوعي. حين نُدرك كيف كانت العمارة في لحظات النهوض الثقافي أداةً للكرامة، وللذاكرة، وللتماسك الاجتماعي، نُدرك أن بإمكاننا اليوم أن نُعيد إنتاج لحظةٍ مشابهة. نُصمم بيتًا ليحتضن العائلة، لا ليُعجب المستثمر. نُعيد للحيّ وظيفته كنسيجٍ اجتماعي، لا كمخططٍ هندسي.
نُعيد للعمارة دورها كوسيطٍ بين الإنسان والزمن، بين الفرد والجماعة، بين الذاكرة والطموح.

رابعًا: إشكالية تدريس تاريخ العمارة

رغم أهمية التاريخ، يُدرّس في معظم كليات الفنون والعمارة كمسارٍ زمنيٍّ يُركّز على الشكل دون المضمون.

مظاهر الإشكالية:

  • عرض تسلسلي للنماذج دون تحليل للسياق
  • تصنيف الطرز وفق المواد والأساليب دون فهم فلسفتها
  • تغييب العلاقة بين العمارة والهوية، وبين الشكل والسلطة
  • الطالب يُحفظ ولا يُحلّل، ويُنتج مشاريع تُرضي السوق وتُهمّش الإنسان

خامسًا: المقترح المنهجي

يهدف هذا المقترح إلى تحويل مادة التاريخ من أرشيفٍ زمني إلى مختبرٍ نقدي يُعيد تشكيل وعي الطالب.

محاور التعديل

المحور

التعديل المقترح

المنهجية

إدماج التحليل الثقافي والاجتماعي في دراسة النماذج

المصادر

اعتماد نصوص فلسفية، سرديات محلية، وشهادات معمارية

التقييم

تشجيع المشاريع النقدية بدل الحفظ، مثل تحليل نموذج محلي من منظور ثقافي

الربط المحلي

إدماج نماذج من العمارة الليبية، وتحليلها كجزء من الهوية لا فقط التراث

النتائج

تخريج معماريين ناقدين، قادرين على إنتاج عمارة تُشبه مجتمعهم وتُعيد له المعنى

 

الخاتمة

تدريس تاريخ العمارة ليس ترفًا معرفيًا، بل ضرورة ثقافية. حين يُعاد تعريف المنهج، يُصبح التاريخ أداةً للتحرّر، لا للحفظ، ويُصبح المعماري شاهدًا على الزمن، لا مجرد ناقلٍ لأشكاله. وإننا، إذ نُطالب بإعادة النظر في هذا المنهج، لا نُطالب بتغييرٍ شكلي، بل باستعادة جوهر العمارة كفعلٍ إنساني، وكوسيطٍ للذاكرة، والكرامة، والانتماء.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أنماط البيوت التقليدية في ليبيا

المسكن الطرابلسي التقليدي المنزل ذو الفناء " الحوش " جمال الهمالي اللافي مقدمة / يعتبر(...