أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

{فأما الزَّبد فيذهب جُفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض}- سورة الرعد، الآية 17

الأحد، أغسطس 03، 2025

العمارة الليبية: نحو سيمفونية حسية تعزفها الحياة

 


جمال الهمالي اللافي

لطالما شغفني التساؤل عن ماهية العمارة الحقيقية. هل هي مجرد كتل صامتة وهياكل وظيفية تؤوينا من عوامل الطبيعة؟ أم أنها تتجاوز ذلك لتصبح تجربة حسية متكاملة تنبض بالحياة، تخاطب الروح وتُثري الذاكرة؟

في خضم هذا التأمل، أستحضر مقولة المعماري دانيال ليبسكيند: "العمارة يجب أن تجعلنا نشعر بالاختلاف، وإذا لم يحدث هذا فالهندسة ستكون كافية. ولسنا بحاجة للعمارة". هذه المقولة تضعنا أمام حقيقة أن العمارة ليست مجرد علم وتقنية، بل هي فن عميق يلامس الوجدان. يرتبط هذا الفهم، في ذهني، بعلاقة العمارة بالموسيقى. فكل من الفنين، على اختلاف وسائلهما، يتقاطعان في مفاهيم جوهرية مثل الإيقاع، الانسجام، والتوازن. فالموسيقى تُصاغ من تتابع نغمات وإيقاعات متناغمة تتكشف في بُعد الزمان، مُشكلة هيكلاً سمعيًا معقدًا. في المقابل، تُبنى العمارة من خلال تنظيم الكتل والفراغات والعناصر، مُشكلة هيكلاً بصريًا ومكانيًا يتجلى في بُعد المكان. هذه القواسم المشتركة هي التي دفعت فلاسفة مثل يوهان فولفغانغ فون غوته ليصف العمارة بأنها "موسيقى مجمدة"، أو فريدريش شيلينغ ليراها "موسيقى صامتة".

ولكن، وعلى النقيض من فكرة العمارة الجامدة أو الصامتة التي قد توحي بها هذه التشبيهات، أرى أن العمارة الحقيقية يجب أن تُعزف وتُسمع، أن تسكنها الحياة بأصواتها التي تمنحها الروح. إن تجربتي الشخصية في مطار روما عام 1983، حيث حُفر في ذاكرتي إيقاع جميل ومنتظم لخطى فتاة في صمت الليل، ليعود صداه في وعيي بين الفينة والأخرى، تُعزز قناعتي بأن الصوت هو بعد حيوي في العمارة، لا يقل أهمية عن الأبعاد البصرية أو الوظيفية. هذا الصوت لم يكن مجرد ضجيج؛ كان لحنًا يحكي قصة ويُضفي حيوية على فراغ بدا صامتًا ومملًا.

العمارة الحسية: أكثر من مجرد شكل

المبنى ليس مجرد شكل بصري يمكن رؤيته وتصويره؛ إنه مساحة تُختبر بجميع الحواس. لكي تصبح العمارة "حية" وتتجاوز كونها مجرد "مقبرة صامتة"، يجب أن نستكشف ونُعزز جوانبها الحسية المتعددة:

·         الصوت: لحن الحياة وإيقاعها:

يُعد الصوت العنصر الأكثر قدرة على بث الروح في الفراغ المعماري، مُحوله من هيكل صامت إلى بيئة نابضة بالحياة. الأصوات، سواء كانت نابعة من الطبيعة أو من البشر، تُشكل "المشهد الصوتي" للمكان وتُضفي عليه روحًا فريدة وتجربة لا تُنسى:

o        أصوات الطبيعة:

§     خرير مياه النوافير والبرك: لا يبعث على الهدوء والاسترخاء فحسب، بل يُشكل خلفية صوتية متواصلة تُعطي إحساسًا دائمًا بالانتعاش والسكينة، خصوصًا في بيئاتنا الحارة.

§     زقزقة العصافير وتغريدها: تُشير إلى وجود حياة فطرية غنية، وتُعزز الشعور بالبهجة والاتصال بالطبيعة، لتصبح موسيقى طبيعية تُصاحب فصول اليوم.

§     حفيف أوراق الأشجار مع نسمات الهواء: يخلق إيقاعًا ناعمًا ومتغيرًا يُعبر عن حركة الهواء وتفاعل المبنى مع بيئته، ويُذكرنا بالتغيرات الموسمية ودورة الحياة، مُضفيًا على المكان موسيقى طبيعية دائمة التجدد.

o        أصوات البشر: تُعد هذه الأصوات جوهر الحياة في الفراغ المعماري، فهي بصمات الوجود الإنساني التي تملأ المكان:

§     وقع الأقدام: يمكن أن يتحول إلى إيقاع منتظم أو غير منتظم، يُعبر عن ديناميكية الحركة الإنسانية ونشاطها. في الممرات الطويلة أو القاعات الكبرى، يصبح وقع الخطى جزءًا من لحن المكان.

§     ضحكات الأطفال ولعبهم: تُضفي على الفراغ بهجة وحيوية لا تُضاهى، وتُذكرنا بالنمو والمستقبل الذي يحتضنه المكان. هي طاقة لا تنضب تُبعث في الجدران.

§     أحاديث البشر ونقاشاتهم: سواء كانت حوارات هادئة أو نقاشات حيوية، تُعكس التفاعل الاجتماعي والنشاط اليومي. حتى عناد الأطفال البريء مع والديهم، يضيف نكهة خاصة وواقعية للفراغ.

§     هذه الأصوات مجتمعة تُحول الفراغ من هياكل جامدة إلى بيئات تتنفس وتنبض بالحياة، تُحفز الذاكرة وتُعزز التجربة الإنسانية، لتصبح الفراغات المعمارية مسرحًا تُعزف عليه سيمفونية الحياة اليومية بكل تفاصيلها.

·     الرائحة: ذاكرة المكان العطرية: روائح النباتات العطرة في الحدائق (مثل الياسمين أو الفل)، عطر التراب بعد المطر الذي يُنعش الروح، أو حتى رائحة القهوة الطازجة أو الشاهي في إفطار صباحي أو رائحة الخبز الشهي الخارج تواً من فرن البيت، كلها تُساهم في خلق "ذاكرة شمية" للمكان وتُعزز من هويته وتفرده. هي بصمة غير مرئية تُثبت المكان في أذهاننا وتُعيدنا إليه.

·     الملمس: لغة المواد الصامتة: ملمس المواد المستخدمة في البناء (خشونة الحجر المحلي، نعومة الرخام، برودة المعدن في المقابض، دفء الخشب في الأثاث، أو حتى نعومة الرمال في الفناء) تُقدم تجربة حسية غنية عند التفاعل المادي مع المبنى. كل مادة لها قصتها التي ترويها من خلال إحساسنا بها، وتُثري تفاعلنا مع المكان.

·     الإضاءة: إيقاع اليوم والفصول: استخدام الضوء الطبيعي وتوجيهه بذكاء لخلق تأثيرات وظلال متغيرة على مدار اليوم والفصول يُضفي على الفراغ حيوية ويُغير من مزاجه. الإضاءة الصناعية، بتنوعها ودرجاتها، تُكمل هذا الدور لتُشكل إيقاعًا ضوئيًا يُناسب الأنشطة المختلفة على مدار الساعة، ويُبرز تفاصيل العمارة.

·     الحرارة والرطوبة: راحة الجسد والروح: الإحساس بالبرودة المنعشة في فناء داخلي صيفي مُظلل، أو دفء غرفة مشمسة في الشتاء، كلها جوانب تُعزز الراحة الحسية وتُشكل العلاقة بين المستخدم والفراغ. تصميم يُراعي هذه العناصر يُساهم في خلق بيئة مُريحة وصحية، تُقلل من الحاجة للطاقة وتزيد من جودة الحياة.

الأثر النفسي والاجتماعي للعمارة الحسية

إن الاهتمام بالجوانب الحسية في العمارة يتجاوز مجرد الجماليات ليلامس الأثر النفسي والاجتماعي على ساكني الفراغ. عندما تُصمم العمارة لتُخاطب جميع الحواس، فإنها تُساهم في خلق بيئات:

·     تُعزز الرفاهية: الفراغات التي تُقدم تجربة حسية غنية ومُريحة تُقلل من التوتر، تُحفز الإبداع، وتُعزز الشعور بالانتماء والأمان. الأماكن الصاخبة جدًا أو الصامتة جدًا، الباردة أو الحارة بشكل مفرط، أو التي تفتقر للتنوع الحسي، يُمكن أن تكون مُرهقة وتُقلل من جودة الحياة.

·     تُنمي الإحساس بالمكان: عندما نتفاعل مع مكان ما بحواسنا المتعددة، فإننا نُكوّن رابطًا أعمق معه. الأصوات المألوفة، الروائح المميزة، والملمس المريح للجدران، تُساهم في بناء "هوية المكان" في أذهاننا، وتجعله أكثر من مجرد نقطة جغرافية، ليصبح جزءًا من ذاكرتنا وكياننا.

·         تُشجع على التفاعل: العمارة التي تُفكر في الصوتيات بشكل جيد يُمكن أن تُعزز التواصل بين الأفراد. فناء داخلي يُضخم ضحكات الأطفال، أو مقعد مريح في حديقة تسمح لك بسماع حفيف الأوراق، كلها تُشجع على التجمع والتفاعل الاجتماعي، وتُعزز من نسيج المجتمع.

تحديات العمارة الحسية في السياق الليبي المعاصر

في سياقنا الليبي، أرى أن الوعي بهذه الأبعاد الحسية المتكاملة للعمارة، بما في ذلك البعد الصوتي، ليس من أولويات المعماريين أو المجتمع بشكل عام في التصميم المعاصر. غالبًا ما ينصب التركيز على الجانب الوظيفي والجمالي البصري، مُتجاهلين الدور العميق الذي يمكن أن تلعبه هذه الجوانب في إثراء التجربة الحياتية للمستخدم.

إن العمارة الليبية المعاصرة مدعوة اليوم لإعادة اكتشاف "موسيقى الحياة" في تصاميمها. هذا يتطلب منا كمعماريين ومخططين، وبالتعاون مع المجتمع، إعادة التفكير في كيفية:

·     دمج العناصر الطبيعية: يجب أن تصبح الحدائق، الساحات الخضراء، وعناصر المياه (مثل النوافير والبرك) جزءًا لا يتجزأ من التصميم المعماري والتخطيط الحضري. هذه العناصر ليست فقط جمالية أو بيئية، بل هي مصادر طبيعية للأصوات التي تُحيي الفراغات وتُضفي عليها ديناميكية مسموعة.

·     التصميم الصوتي الواعي (Acoustic Design): يجب أن نولي اهتمامًا أكبر لكيفية ارتداد الأصوات داخل الفراغات. استخدام المواد المناسبة لامتصاص أو عكس الصوت، وتصميم أحجام الفراغات بطريقة تُعزز "المشهد الصوتي" المرغوب (سواء كان للهدوء والتأمل أو للنشاط والتفاعل)، كلها جوانب حيوية. فالمعماري يجب أن يُصبح "موزعًا" للأصوات داخل تصميمه، يوجهها، ويُضخم ما هو مرغوب فيه، ويُقلل من الملوثات السمعية.

·     التشجيع على التفاعل البشري: تصميم مساحات مرنة ومفتوحة تُشجع على اللعب، الحركة، والتواصل، مما يسمح لأصوات الحياة البشرية - كضحكات الأطفال وأحاديث الكبار ووقع أقدامهم - بأن تتردد وتملأ المكان. يجب أن تُوفر العمارة مساحات تُصبح فيها هذه الأصوات جزءًا طبيعيًا ومرحبًا به، لا مجرد ضجيج.

·     إعادة إحياء العمارة التقليدية: كثير من عناصر العمارة الليبية التقليدية، مثل الأفنية الداخلية (الحوش)، كانت تُساهم بشكل طبيعي في خلق بيئات صوتية وحسية غنية. هذه الأفنية، بحجمها وتصميمها، كانت تسمح بصدى الأصوات الخافتة، وتُشجع على التجمع، وتُوفر مأوى من صخب الشارع، مما يخلق بيئة سمعية فريدة. كما أن استخدام المواد المحلية كالحجر والطوب كان يُساهم في عزل جيد للصوت وتوفير بيئة حرارية مريحة. يمكننا استلهام هذه المبادئ وتكييفها مع العمارة المعاصرة.

خاتمة: عمارة حية تتنفس وتتفاعل

إن العمارة في ليبيا، كما في أي مكان آخر، لا يجب أن تكون مجرد إجابة صامتة على الحاجة للمأوى؛ بل يجب أن تكون بيئة حية، مسرحًا للحياة بكل ما فيها من أصوات وحواس وتجارب. إن العمارة التي لا تحرك الحواس الخمسة لدى الإنسان، وبإيقاع الحياة اليومي، وبتتابع الزمن والفصول الموسمية، لهي عمارة ميتة وإن أفلحنا في تجميلها.

إن تفعيل هذه الجوانب الحسية سيُحول مبانينا ومدننا إلى أماكن لا تُرى فحسب، بل تُسمع وتُشم وتُلمس وتُحس، لتُصبح بذلك سيمفونية متكاملة تعزفها الحياة وتخلدها الذاكرة. أرى أن تحقيق ذلك يتطلب جهودًا مُشتركة: من مناهج التعليم المعماري التي يجب أن تُركز أكثر على التجربة الحسية المتكاملة، إلى المعماريين الممارسين الذين يجب أن يُصبحوا أكثر وعيًا بالبعد الصوتي والحسي لتصاميمهم، وصولاً إلى المجتمع الليبي نفسه الذي يجب أن يُقدر ويدعم هذه الأبعاد في الفراغات التي يعيش فيها ويتفاعل معها. هذه هي الخطوات العملية نحو عمارة ليبية أكثر إنسانية، أكثر حيوية، وأكثر جمالاً في جميع أبعادها. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المواضيع الأكثر مشاهدة

بحث هذه المدونة الإلكترونية