التخطي إلى المحتوى الرئيسي

منازل الجنة في ليبيا: استغلال الأرض لراحة الأسرة واستدامة البيئة

 


جمال الهمالي اللافي

يسعى هذا المقال إلى اقتراح تحول جذري في فلسفة التصميم السكني في ليبيا. بدلاً من السعي نحو بناء منازل واسعة وكبيرة، يدعو المقال إلى تبني نهج يركز على الدمج الاستراتيجي للمساحات الخضراء، مثل الحدائق والأفنية الداخلية، ضمن الاستخدام الكلي للأرض. هذا النهج لا يعكس تفضيلاً جمالياً فحسب، بل يمثل عودة إلى مبادئ التصميم التي تتسم بطبيعتها بكونها أكثر استدامة، وأكثر فعالية من حيث التكلفة، وأكثر ملاءمة للرفاهية النفسية، وهو أمر بالغ الأهمية في بيئة ليبيا الحارة والجافة.

تحديات السكن الحديث وعبء المساكن الكبيرة

تتجه التطلعات السكنية المعاصرة غالبًا نحو تشييد منازل كبيرة، مدفوعة بتصورات المكانة الاجتماعية أو الرغبة في الراحة. لكن هذا السعي يتجاهل الآثار طويلة المدى والأعباء الخفية المرتبطة بهذه الخيارات. فالمنازل الكبيرة تفرض أعباءً مالية ونفسية كبيرة؛ تتطلب استثمارًا أوليًا أعلى، وتكاليف صيانة وإصلاح جارية أعلى، واستهلاكًا هائلاً للطاقة للتدفئة والتبريد، مما يؤدي إلى ارتفاع فواتير الخدمات. هذه الضغوط المالية المستمرة تؤدي إلى إجهاد نفسي كبير يمكن أن يؤثر سلبًا على رفاهية الأسرة وصحة الأطفال ونموهم. على الرغم من أن هذه المنازل تُبنى لتوفير مساحة واسعة، إلا أن الضغط المالي قد يؤدي بشكل متناقض إلى الاكتظاظ. يصبح الدافع المجتمعي لامتلاك "منازل كبيرة" مصدرًا للتوتر وعدم الاستقرار المالي، مما يستدعي إعادة تقييم لمعايير تصميم المنازل نحو الاستدامة والقدرة على تحمل التكاليف والرفاهية الحقيقية.

"منازل الجنة": إلهام من التراث لـ "السكينة"

يستلهم المقال من عمل فيتوريا ألياتا "منازل الجنة"، الذي يصف المنازل العربية والإسلامية التقليدية بأنها "جنات" توفر الهدوء والخصوصية في بيئة خارجية قاسية. يعكس التصميم الداخلي المغلق لهذه المنازل قيم الخصوصية والحشمة الإسلامية. كما يساهم دمج نوافير المياه والأشجار والنباتات في خلق أجواء فردوسية تعزز الشعور بالسلام والراحة، أو ما يُعرف بـ "السكينة" (سكينة). يؤكد هذا المفهوم أن المنزل المثالي، خاصة في المناخات الحارة، هو الذي يصمم "جنة" داخلية، مكتفية ذاتيًا وهادئة لساكنيه، بدلاً من التركيز على المظهر الخارجي أو الحجم المطلق.

الفناء والحديقة: حلول معمارية وبيئية خالدة

تُعد الأفنية والحدائق عناصر معمارية وبيئية متعددة الفوائد، خاصة في المناخات الحارة. الأفنية تعزز التهوية الطبيعية وتوفر إضاءة طبيعية وفيرة، وتقلل بشكل كبير من استهلاك الطاقة وتكاليف التبريد والتدفئة. كما أنها توفر واحة منعزلة وخاصة للأنشطة المنزلية، مما يزيد من المساحة المعيشية القابلة للاستخدام دون زيادة البصمة الكلية للمبنى. يساهم دمج النباتات الوارفة والأشجار المنتجة وميزات المياه في الأفنية والحدائق في تحقيق الاكتفاء الذاتي للأسرة من المنتجات الطازجة، ويقلل من الاعتماد على الأسواق الخارجية، ويضيف قيمة اقتصادية ملموسة.

الفوائد النفسية والاجتماعية للمساحات الخضراء

إن مفهوم "السكينة"، الذي يمثل السلام الداخلي والهدوء، يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالمنزل كملاذ للراحة. يتجلى هذا المفهوم في التصميم التقليدي للمنزل الإسلامي بأفنيته وميزاته الطبيعية. يرتبط التعرض المباشر للمساحات الخضراء بانخفاض مستويات التوتر، وتحسين الوظيفة المعرفية، وتقليل أعراض الاكتئاب. تُعزز هذه المساحات التماسك الأسري بتوفير منطقة خارجية آمنة وخاصة للتفاعل الأسري، وتدعم القيم الثقافية للخصوصية والنظافة. الاستثمار في المساحات الخضراء يُظهر كاستراتيجية فعالة من حيث التكلفة لتحسين الصحة العقلية، مما يخفف من الآثار السلبية لضغوط الإسكان الحديثة.

الملاءمة للواقع الليبي: إحياء التراث من أجل مستقبل مستدام

اعتمدت العمارة الليبية التقليدية، مثل بيت الفناء (الحوش)، تاريخيًا على تصاميم متكيفة مع المناخ المحلي والقيم الثقافية. ومع ذلك، أدت التحديثات إلى التخلي عن هذا النموذج لصالح تصاميم مستوحاة من الغرب، والتي غالبًا ما تتجاهل قضايا الخصوصية والتكيف المناخي. يدعو المقال إلى إحياء مبادئ العمارة الليبية التقليدية، ليس كتراجع حنيني، بل كخطوة تقدمية وعملية لإنشاء منازل تعطي الأولوية للراحة الداخلية والخصوصية والاتصال بالطبيعة، وتوفر استجابة ثقافية وبيئية سليمة للتحديات المعاصرة.

توصيات لتصميم منزل مستدام ومريح

لتحقيق بيئة سكنية مستدامة ومريحة في ليبيا، يُوصى بالآتي:

·         إعطاء الأولوية للمساحات الخضراء: تخصيص جزء كبير من الأرض للحدائق والأفنية الداخلية بدلاً من تعظيم مساحة البناء.

·     تطبيق التصميم المستجيب للمناخ: توجيه المنزل لتحقيق التهوية الطبيعية والإضاءة المثلى، واستخدام مواد البناء المحلية ذات العزل الحراري الفائق، ودمج ميزات التهوية المحسنة والمياه المبردة.

·     اختيار النباتات بعناية: اختيار الأنواع المحلية والمقاومة للجفاف، واستخدام زراعة طبقية لتوفير الظل والخصوصية، والتركيز على النباتات المنتجة لتعزيز الاكتفاء الذاتي.

·     إعطاء الأولوية للخصوصية والسكينة: تصميم التخطيط الداخلي ليعطي الأولوية للخصوصية، واستخدام معالجات حدود مناسبة، والحفاظ على مستوى عالٍ من النظافة.

·         التكامل المتناغم بين الحداثة والتقاليد: دمج تقنيات البناء الحديثة مع المبادئ التصميمية التقليدية لإنشاء منازل فعالة تكنولوجيًا وأصيلة ثقافيًا.

تُحدد "الرفاهية" الحقيقية في التصميم السكني بقدرة المنزل على توفير بيئة باردة، وخاصة، وهادئة، وصحية تعزز رفاهية الأسرة وتقلل الضغط المالي. هذا يدعو إلى تحول في طلب المستهلكين وقيم السوق نحو حلول سكنية أكثر وعيًا بالتصميم، ومسؤولية بيئيًا، ومناسبة ثقافيًا، مما يؤدي إلى تطوير مجتمعات أكثر مرونة وتناغمًا.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

التهوية الطبيعية في المباني

م/ آمنه العجيلى تنتوش المقدمة تتوقف الراحة الفسيولوجية للإنسان على الثأتير الشامل لعدة عوامل ومنها العوامل المناخية مثل درجة الحرارة والرطوبة وحركة الهواء والإشعاع الشمسي . وللتهوية داخل المبنى أهمية كبيرة وتعتبر إحدى العناصر الرئيسية في المناخ ونق الانطلاق في تصميم المباني وارتباطها المباشر معها فالتهوية والتبريد الطبيعيين مهمان ودورهما كبير في تخفيف وطأة الحر ودرجات الحرارة الشديدة ، بل هما المخرج الرئيسي لأزمة الاستهلاك في الطاقة إلى حد كبير لأن أزمة الاستهلاك في الطاقة مردها التكييف الميكانيكي والاعتماد عليه كبير والذي نريده فراغات تتفاعل مع هذه المتغيرات المناخية أي نريد أن نلمس نسمة هواء الصيف العليلة تنساب في دورنا ومبانينا ونريد الاستفادة من الهواء وتحريكه داخل بيئتنا المشيدة لإزاحة التراكم الحراري وتعويضه بزخات من التيارات الهوائية المتحركة المنعشة . فكل شي طبيعي عادة جميل وتتقبله النفس وترتاح له فضلا عن مزاياه الوظيفية . وعلى المعماري كمبدأ منطقي عام البدء بتوفير الراحة طبيعياً ومعمارياً كلما أمكن ذلك ومن تم استكملها بالوسائل الصناعية لتحقيق أكبر قدر ممكن ...

بيوت الحضر: رؤ ية معاصرة للمسكن الطرابلسي التقليدي

تصميم وعرض/ جمال الهمالي اللافي في هذا العرض نقدم محاولة لا زالت قيد الدراسة، لثلاثة نماذج سكنية تستلهم من البيت الطرابلسي التقليدي قيمه الفكرية والاجتماعية والمعمارية والجمالية، والتي اعتمدت على مراعاة عدة اعتبارات اهتم بها البيت التقليدي وتميزت بها مدينة طرابلس القديمة شأنها في ذلك شأن كل المدن العربية والإسلامية التقليدية وهي: · الاعتبار المناخي. · الاعتبار الاجتماعي ( الخصوصية السمعية والبصرية/ الفصل بين الرجال والنساء). · اعتبارات الهوية الإسلامية والثقافة المحلية. أولا/ الاعتبار المناخي: تم مراعاة هذا الاعتبار من خلال إعادة صياغة لعلاقة الكتلة بمساحة الأرض المخصصة للبناء، بحيث تمتد هذه الكتلة على كامل المساحة بما فيها الشارع، والاعتماد على فكرة اتجاه المبنى إلى الداخل، وانفتاحه على الأفنية الداخلية، دون اعتبار لفكرة الردود التي تفرضها قوانين المباني المعتمدة كشرط من شروط البناء( التي تتنافى شروطها مع عوامل المناخ السائد في منطقتنا ). وتعتبر فكرة الكتل المتلاصقة معالجة مناخية تقليدية، أصبح الساكن أحوج إليها من ذي قبل بعد الاستغناء عن البنا...

المعلم/ علي سعيد قانة

موسوعة الفن التشكيلي في ليبيا 1936- 2006 جمال الهمالي اللافي الفنان التشكيلي" علي سعيد قانة " هو أبرز الفنانين التشكيليين الذين عرفتهم الساحة التشكيلية في ليبيا... انخرط في هذا المجال منذ نحو أربعة عقود. ولد بمدينة طرابلس الموافق 6/6/1936 ف ترعرع في منطقة سيدي سالم (باب البحر) بمدينة طرابلس القديمة.والتحق بأكاديمية الفنون الجميلة بروما- إيطاليا سنة 1957 وتخصص في مجال النحت بمدرسة سان جاكومو للفنون الزخرفية، كما حرص خلال وجوده في روما على دعم قدراته الفنية من خلال دورات تخصصية في مجال الرسم الحر والطباعة والسباكة وبرز في هذه المجالات جميعا.• التحق عند عودته إلى ارض الوطن بمعهد للمعلمين ( ابن منظور ) للتدريس سنة 1964ف• انتقل للتدريس بكلية التربية جامعة الفاتح سنة1973 ف• انضم إلى كلية الهندسة/ جامعة الفاتح بقسم العمارة والتخطيط العمراني سنة 1974- وتولى تدريس أسس التصميم و الرسم الحر لغاية تقاعده سنة 2001 ف• عمل مستشارا للشئون الفنية بمشروع تنظيم وإدارة المدينة القديمة. مساهماته الفنية/ اقتنى متحف مدينة باري للفنون بإيطاليا لوحتين من أعماله الفني...