الثلاثاء، أغسطس 19، 2025

العمارة كلغة: نحو استعادة الخطاب الثقافي المفقود

 

جمال الهمالي اللافي

المقدمة

في ظل التحديات التي تواجه العمارة المعاصرة، من فقدان الهوية إلى هيمنة النماذج المستوردة، تبرز الحاجة إلى إعادة تعريف العمارة ليس كمجرد ممارسة تقنية، بل كخطاب ثقافي يحمل في طياته لغةً ناطقة ومشهدًا بصريًا متكاملًا. فالعمارة، كما اللغة، تمتلك مستويات من التعبير؛ من اللفظ إلى النحو إلى المعنى، ومن التخطيط إلى التكوين إلى التفاصيل. وبين هذه المستويات، تتشكل هوية المكان، وتُستعاد ذاكرة الجماعة، ويُعاد وصل ما انقطع من سياق حضاري وروحي.


    هذه المقالة تُقدّم تصورًا تأليفيًا يُفكك مستويات التعبير المعماري إلى بُعدين متكاملين: اللساني والبصري، في محاولة لاستعادة العمارة كفنٍ ناطق، وكحوارٍ حيّ بين الإنسان والمكان، بين المادة والروح، وبين الماضي والمستقبل.

هدف المقالة

تهدف هذه المقالة إلى تقديم تصور تأليفي يُعيد فهم العمارة بوصفها خطابًا لغويًا وبصريًا، يتجاوز الشكل إلى المعنى، ويتجاوز التقنية إلى الهوية. في ظل القطيعة المعرفية التي تُعاني منها الممارسة المعمارية المعاصرة، يسعى هذا الطرح إلى تفكيك مستويات التعبير المعماري، وتقديم مخطط يُعيد للعمارة لغتها، ويُعيد للخطاب المعماري دوره كوسيط ثقافي ووجداني. المقالة موجّهة لكل من يسعى إلى استعادة العمارة كفنٍ ناطق، وكحوارٍ حيّ بين الإنسان والمكان، بين المادة والروح، وبين الجماعة وذاكرتها. وهي دعوة لإعادة بناء الوعي المعماري على أسس ثقافية، تُعيد وصل ما انقطع من السياق الحضاري، وتُعيد للعمارة دورها في تشكيل الذاكرة الجمعية والهوية البصرية.

العمارة كلغة محكية: من المفردة إلى البيان

في هذا القسم، تُقارب العمارة بوصفها لغةً تُشبه اللغة المنطوقة في بنيتها ووظيفتها. فهي تتكوّن من مستويات دلالية تُشكّل الرسالة المعمارية وتُحدّد مدى وضوحها وفعاليتها. هذه المستويات تُساعد على قراءة العمارة كنص حي، له قواعده وموسيقاه الخاصة.

مستويات لغة العمارة

يتضمن العرض مخططًا بصريًا يُقسّم لغة العمارة إلى ستة مستويات، موزعة بين التعبير اللساني (اللفظ، النحو، الدلالة) والتكوين البصري (التخطيط، التكوين، التفاصيل). هذا التقسيم يُقدّم أداة تحليلية لفهم العمارة بوصفها نصًا حيًا، ويُسهم في نقد السطحية السائدة، والدعوة إلى قراءة متعددة الطبقات تُعيد الاعتبار للمعنى والهوية.

اللغة المحكية (اللسانية (

المستوى

الوصف

اللفظ المعماري

مفردات الشكل، المادة، والملمس التي تُعبّر عن هوية المبنى

التركيب النحوي

تنظيم الكتل والعلاقات المكانية كجُمل معمارية تعبّر عن عقلانية التصميم

الدلالة المعنوية

المعاني الرمزية والوجدانية التي تجعل العمارة خطابًا حيًا ومؤثرًا

 

اللغة البصرية (التكوينية)

المستوى

الوصف

التخطيطي

العلاقات الكبرى، اتجاهات الحركة، وفلسفة التنظيم المكاني

المعماري

الكتلة، التكوين، التوازن، والانفتاح والانغلاق كوسائل لتجسيد الهوية

التفصيلي

عناصر مثل الأبواب، النوافذ، الزخارف، والمواد التي تحمل لهجة محلية وثقافية


نحو تكامل لغوي بصري ووجداني

إن التمييز بين اللغة المعمارية بوصفها محكية (دلالية) وبصرية (تكوينية) لا يعني الفصل بينهما، بل يُساعد على فهم العمارة من زوايا متعددة: كيف تُعبّر عن نفسها، وكيف تُقرأ، وكيف تُخاطب الإنسان في وجدانه ووعيه.

غياب أحد هذه المستويات، سواء في البنية اللغوية أو البصرية، يُفضي إلى تشويش في الفهم، أو إلى إنتاج معماري مُسطّح لا يُعبّر عن بيئة ولا يُخاطب وجدانًا، بل يُراكم عناصر دون رسالة.

دعوة لإحياء اللغة المعمارية

في زمنٍ تتكاثر فيه الأبنية وتغيب فيه العمارة، يصبح إحياء اللغة المعمارية ضرورة ثقافية وأخلاقية. إنها دعوة للمعماري أن يكون كاتبًا بصريًا، لا مجرد مُنفّذ، وأن يُعيد للعمارة دورها كأداة للوعي، ووسيلة للمقاومة الثقافية، ومنصة للتعبير عن الذات الجمعية.

الخاتمة

إن تجاهل البنية اللغوية والبصرية للعمارة لا يُنتج فراغًا جماليًا فحسب، بل يُكرّس قطيعة معرفية مع الذات والمكان. فالمخطط المقترح هنا ليس مجرد تصنيف، بل هو دعوة لإعادة بناء الخطاب المعماري على أسس ثقافية ووجدانية، تُعيد للعمارة دورها كفنٍ ناطق، وكوسيطٍ بين الإنسان وتاريخه، بين الجماعة وذاكرتها، وبين المادة والروح. حين تُستعاد اللغة، يُستعاد المعنى، وتُستعاد العمارة بوصفها مرآةً للهوية، لا مجرد واجهة للزمن.

حين يتكلم الحجر بلغة الأمة، تُصبح العمارة مرآةً للهوية، وذاكرةً للمستقبل.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أنماط البيوت التقليدية في ليبيا

المسكن الطرابلسي التقليدي المنزل ذو الفناء " الحوش " جمال الهمالي اللافي مقدمة / يعتبر(...