أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

{فأما الزَّبد فيذهب جُفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض}- سورة الرعد، الآية 17

الثلاثاء، أغسطس 12، 2025

بين عمارة السلطة وعمارة الناس: تأملات في الاغتراب المعماري

  


جمال الهمالي اللافي

في مساري المعماري، كثيرًا ما وجدت نفسي مشدودًا بين نموذجين متباينين من العمارة: الأول، رسمي ومهيب، يُكتب بأقلام السلاطين والولاة، ويُدرّس في كليات الهندسة بوصفه "التاريخ المعماري". والثاني، عفوي وتلقائي، يُكتب بأيدي الناس، ويُبنى من حاجاتهم، ويُنسج من تفاصيل حياتهم اليومية.

العمارة السلطوية، كما أراها، لا تُشيّد لتلبية احتياج، بل لتأكيد سلطة. تُبنى بمواد مستوردة، وتصاميم هندسية دقيقة، لكنها مغتربة عن المكان والناس. تعكس رغبة في السيطرة، لا في الانسجام. أما عمارة الناس، فهي نقيض ذلك: بسيطة، متكيفة، نابعة من فهم عميق للحياة، تُحاكي البيئة ولا تتعدى عليها، وتُبنى بما هو متاح، لا بما يُستورد.

ما يُدرّس في كليات العمارة، في الغالب، هو النموذج الأول. يُعرض على الطالب بوصفه "المعيار"، بينما يُغيب النموذج الشعبي، رغم أنه الأقرب للواقع، والأكثر قابلية للتكرار والتطوير. هذا التحيز في التعليم لا يخلق معمارياً متمكنًا، بل معمارياً مغتربًا، يواجه واقعًا لا يشبه ما درسه، ولا يملك أدوات للتفاعل معه.

لقد تحول التعليم المعماري، في كثير من الأحيان، إلى ممارسة تعجيزية، تُشعر الطالب بالعجز بدلًا من التمكين. وتُنتج معمارياً لا يستطيع أن يقدم شيئًا ذا قيمة فعلية، لأن ما تعلمه لا يتناسب مع ما يعيشه.

في هذا السياق، أجد أن إعادة الاعتبار لعمارة الناس ليست فقط ضرورة مهنية، بل مسؤولية ثقافية. فهذه العمارة، رغم بساطتها، تحمل في طياتها فهمًا عميقًا للهوية، وللبيئة، وللعيش المشترك. وهي، في رأيي، نقطة انطلاق حقيقية نحو عمارة أكثر صدقًا، وأكثر قدرة على التعبير عن الإنسان والمكان.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المواضيع الأكثر مشاهدة

بحث هذه المدونة الإلكترونية