جمال الهمالي اللافي
يُعدّ النقد جوهر أي عملية تطوير أو
بناء، وفي مجال العمارة تحديداً، تكتسب هذه العملية أهمية مضاعفة نظراً لتأثيرها
المباشر على حياة الناس وتشكيل بيئتهم. ومع ذلك، لا يزال مفهوم النقد يعاني من سوء
فهم واسع، غالباً ما يُخلط فيه بين النقد البنّاء الذي يسعى للإصلاح، والانتقاد
الهدّام الذي يرمي إلى التجريح، لدرجة أن الخوف من النقد يدفع الكثيرين لتجنبه،
اعتقاداً منهم أنه لا يحمل سوى "معول الهدم".
النقد
البنّاء: أداة لإعادة البناء لا الهدم
إن
التمييز بين النقد البنّاء والانتقاد الهدّام هو
نقطة الانطلاق الأساسية. النقد البنّاء هو عملية تحليلية تهدف إلى إعادة بناء كيان تعرض للخلل، سواء كان فكرة معمارية،
منهجية تصميم، نظاماً مؤسسياً، أو حتى سلوكاً مهنياً. هو يشبه الطبيب الذي يشخص
"موطن الداء" ويصف "الدواء الناجع"، مركزاً على المشكلة وسُبل
علاجها، لا على تجريح المريض. هذا النوع من النقد لا يقوّض، بل يؤسس لعملية تحسين
وتطوير مستمرة.
على
النقيض تماماً، يكمن الانتقاد الهدّام، والذي غالباً ما
يفهمه عامة الناس بعقلية الهدم، في كونه موجهاً نحو التجريح الشخصي أو التقليل من
شأن الآخر، مما يجعله مرفوضاً من المتلقي ويُفقد أي قيمة محتملة للحوار.
عقلية
الإصلاح: تقبل النقد كركيزة للنمو
إن
من يمتلك عقلية تسعى للإصلاح الحقيقي يتقبل أي نقد يوجه إليه بـصدر رحب وعقلية منفتحة. ينظر إليه كفرصة للتعلم والتطوير،
سواء كان النقد يتعلق بفكر معماري مطروح، أدلة مستخدمة، منهجية مقترحة، مرجعية
مستند إليها، آلية عمل، أو حتى سلوك وتعامُل. هذا الشخص لا يواجه النقد
بـ"مدفع رشاش" للدفاع عن الذات، بل بـ"يد ممدودة للحوار
والإثراء"، لأن هدفه الأسمى هو الوصول إلى أفضل الحلول الممكنة.
النقد في
العمارة: ليس حكراً على الأكاديميين
هنا
تبرز نقطة جوهرية في النقاش حول النقد المعماري، وهي المحاولة لحصره ضمن دائرة
الأكاديميين، وتحديداً حاملي درجة الدكتوراه. هذا التصور، الذي يدعي أن النقد
"عملية أكاديمية صرفة"، هو تصور محدود ومقوّض لجوهر
المهنة. فالعمارة، بطبيعتها، هي تزاوج بين النظرية والتطبيق، وتتطلب رؤى من مصادر
متعددة لضمان شمولية عملية التقييم والتطوير.
إن النقد
في العمارة هو عملية شخصية تعكس رؤية ووجهة نظر أي ممارس للمهنة. هذا
يشمل:
· الممارس المعماري: الذي ينبع نقده من الخبرة العملية العميقة في الميدان، والتحديات الواقعية
للتصميم والتنفيذ، وتأثير المباني على المستخدمين والبيئة. هذا النقد العملي لا
يمكن استقاؤه من الكتب وحدها.
· الأكاديمي: الذي يقدم نقداً من منظور نظري وفلسفي وتاريخي، مستنداً إلى البحث المعمق
والنظريات الراسخة، ليثري الحقل بالتأصيل المعرفي ويدفع حدود التفكير.
·
الطالب:
الذي يمتلك قدرة نقدية ناشئة، قد تكون عفويّة ومبتكرة، وتشير إلى نقاط قد يغفل
عنها الأكثر خبرة.
· المستخدم والجمهور: الذين يختبرون الفضاء المعماري في
حياتهم اليومية، ونقدهم يعكس مدى نجاح المبنى في تلبية احتياجاتهم. هذا النقد
الحيوي ضروري لضمان أن العمارة تخدم هدفها النهائي.
إن
حصر النقد في فئة واحدة، مهما كانت مكانتها الأكاديمية، هو تقييد للتطور وإفقار للحقل المعماري الذي يزدهر بالتنوع
الفكري وتبادل الرؤى. فالاختلاف بين التفوق في التدريس والقدرة على إدارة مؤسسات
هندسية بفعالية يوضح أن الشهادة الأكاديمية لا تساوي بالضرورة الحكمة العملية أو
القدرة الإدارية.
تعزيز
ثقافة النقد البنّاء في ليبيا: دور الإعلام كبوابة
لتحقيق قفزة نوعية في مجتمع مثل
المجتمع الليبي، الذي يواجه تحديات معقدة ويعاني من ترسبات الماضي، فإن تعزيز
ثقافة النقد البنّاء يصبح ضرورة قصوى. هذا يتطلب جهوداً متعددة الأوجه:
1.
التعليم والتنشئة:
غرس قيم التفكير النقدي والحوار المحترم منذ الصغر في المناهج الدراسية، وتوفير
نماذج إيجابية من المعلمين والقادة الذين يتقبلون النقد ويقدمونه بفعالية.
2.
تهيئة البيئات الداعمة: خلق مساحات آمنة للحوار في المؤسسات، أماكن العمل، والمجتمع
المدني، وتشجيع التغذية الراجعة المستمرة من خلال آليات شفافة.
3.
تغيير المفاهيم الشائعة: عبر حملات توعوية مكثفة لإعادة تعريف النقد كأداة للتحسين،
والتمييز بين نقد الفكرة ونقد الشخص.
4.
تطوير المهارات الفردية: تنمية مهارات الاستماع الفعال، وصياغة النقد بشكل بنّاء،
والمرونة الذهنية لدى الأفراد.
وفي هذا
السياق، يلعب الإعلام دوراً محورياً كبوابة للتغيير. يمكن لوسائل
الإعلام، بمختلف أشكالها، أن:
·
توّعي الجمهور
بالفرق بين النقد البنّاء والانتقاد الهدّام من خلال برامج حوارية ومقالات وحملات
إعلامية.
·
تسلط الضوء على أهمية النقد في العملية التعليمية، وتعزز نماذج التفكير النقدي لدى الطلاب
والمعلمين.
·
تروج للقدوة الحسنة
من خلال إبراز الشخصيات العامة التي تتقبل النقد وتستفيد منه.
·
تتحدى المفاهيم الخاطئة والسلوكيات السلبية التي تقمع حرية الرأي.
·
توفر منصات للنقاش الهادف الذي يشجع على المشاركة البناءة ويُبرز الحلول.
إن النقد الحقيقي، الذي ينبع من رؤى
متعددة ومصادر متنوعة، هو المحرك الأساسي لأي تقدم معماري ومجتمعي. في بيئة تحاول
فيها بعض العقليات قمع حرية التفكير والرأي، يصبح الاستمرار في ممارسة النقد
البنّاء من قبل جميع الممارسين للمهنة، بما في ذلك خريجو العمارة وممارسوها
الميدانيون، فعل مقاومة نبيلاً ومساهمة لا تقدر بثمن في بناء مستقبل معماري أفضل
وأكثر استدامة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق