التخطي إلى المحتوى الرئيسي

بين بيئة تُكرّم الإنسان وأخرى تُهينه



قراءة في التمايز الوظيفي بين "قوقل" ومؤسسات الدولة الليبية

جمال الهمالي اللافي

ليس الحديث عن بيئة العمل في شركة "قوقل" نوعًا من الترف أو الإعجاب الساذج، بل هو ضرورة معرفية وأخلاقية. لأن سرد تفاصيل تلك البيئة يفتح العقول قبل العيون على ما يجب أن يكون، ويكشف حجم البؤس البنيوي الذي يعيشه الموظف الليبي في مؤسسات الدولة، حيث لا يُحترم الإنسان، ولا يُصان جهده، ولا يُحتفى بإبداعه.

بيئة "قوقل": فلسفة تُكرّم الإنسان

في مقرات "قوقل" المنتشرة حول العالم، لا يُنظر إلى المكتب بوصفه مساحة عمل فحسب، بل بوصفه امتدادًا لكرامة الإنسان. هناك، تتنوع عناصر التأثيث لتناسب شخصية كل موظف: مكاتب قابلة للتعديل، كراسي مريحة مصممة هندسيًا، مساحات مفتوحة للتفكير الجماعي، وأخرى مغلقة للتأمل الفردي. الألوان مدروسة، والإضاءة طبيعية قدر الإمكان، والنباتات جزء من التصميم، لا مجرد زينة.

في كل زاوية، هناك دعوة غير مباشرة للإبداع: غرف اجتماعات على هيئة قطارات قديمة، مكتبات بسرٍّ معماري، جدران قابلة للكتابة، وحتى مساحات للعب والتأمل. في بعض الفروع، توجد صالات رياضية، مسابح، ملاعب كرة طائرة، وجدران تسلق. أما الطعام، فهو متاح على مدار اليوم: وجبات صحية، مشروبات متنوعة، وحلويات مدروسة، وكل ذلك مجانًا. بل إن قاعدة "150 قدم من الطعام" تُطبّق حرفيًا، بحيث لا يبتعد الموظف عن مصدر تغذية جسده وعقله.

هذه البيئة ليست عبثًا، بل فلسفة مؤسسية ترى أن الموظف المبدع يحتاج إلى راحة، وإلى مساحة، وإلى احترام. وأن الإبداع لا يُستخرج من الضغط، بل من الطمأنينة. الأهم من ذلك، أن التميز يُكافأ، ويُحتفى به، ويُمنح ما يستحق من دعم وامتيازات.

بيئة المؤسسات الليبية: واقع يُهدر الإنسان

في المقابل، يعيش الموظف الليبي في بيئة وظيفية تُشبه العقوبة. المكاتب ضيقة، الكراسي متهالكة، الإضاءة قاسية، والجدران تئن من الرطوبة. لا وجود لمساحات التفكير، ولا حتى لمساحات الراحة. الطعام؟ إن وُجد، فهو على حساب الموظف، وغالبًا ما يُؤكل على عجل في زاوية مهملة. أما التقدير، فغائب. والترقية، مشروطة بالولاء لا بالكفاءة. التميز هنا لا يُكافأ، بل يُحاصر، ويُنظر إليه بعين الريبة.

الظلم الوظيفي وهضم الحقوق ليسا استثناءً، بل قاعدة. الموظف يُعامل بوصفه عبئًا إداريًا، لا عقلًا منتجًا. يُطلب منه أن يُنجز، دون أن يُمنح الأدوات أو الاحترام أو الأفق. يُراقب، يُحاسب، يُستنزف، ثم يُنسى.

أثر التمايز على النفس والعقل

وعي الموظف الليبي بهذا التمايز لا يُنتج طموحًا، بل يُنتج إنهاكًا. لأنه يرى ما يجب أن يكون، ويُدرك أنه لن يكون. هذا الإدراك، حين يتكرّر يوميًا، يُنهك النفس، ويُطفئ الخيال، ويحوّل العمل إلى عبء وجودي. الموظف لا يطلب امتيازات "قوقل"، بل الحد الأدنى من الكرامة المهنية. لكنه يُحرم حتى من ذلك.

هذا الإدراك لا يحرره، بل يثقل كاهله. يتحول الوعي إلى عبء، والإبداع إلى لعنة. إذ لا البيئة تشجع، ولا التقدير يحضر، ولا الأفق يبدو مفتوحًا. فيعيش المبدع حالة من التآكل التدريجي، حيث تتآكل الصحة مع العمر، ويُستهلك الخيال في مقاومة الرداءة، لا في إنتاج الجمال.

من مصنع الريجية إلى فلسفة قوقل: شهادة على التهميش المؤسسي

ولعل المثال الأوضح على ذلك ما عشته شخصيًا منذ بداية عملي في مشروع تنظيم وإدارة المدينة القديمة بطرابلس من العام 1990 إلى 2001، حين كان مقر المشروع في مصنع الريجية، ذلك المكان الذي كان مصنعًا لدخان السجائر، وتحول إلى بيئة عمل تجمع بين قذارة المكان وتلوث المعاملة. هناك، رأيت كيف يُكافأ الفاشلون بالترقيات والمناصب القيادية، بينما يُضايق المتميزون حتى يُدفعوا إلى الخروج، الواحد تلو الآخر. وقد خرجت أنا أيضًا، بعد سنوات من المضايقات، فاقدًا لكامل حقوقي الوظيفية. دخلت هذه المؤسسة وأنا بكامل صحتي وعافيتي، وخرجت منها "لحماً على عظمٍ" نتيجة التوترات النفسية التي تراكمت بفعل الإقصاء والتهميش. وهذه المؤسسة ليست استثناءً، فهي امتداد لجل مؤسسات الدولة، وقصتي تحكي لسان حال غيري.

لماذا نُفصّل في بيئة "قوقل"؟

لأن المقارنة تُعرّي الواقع. تُظهر أن المشكلة ليست في الإمكانيات، بل في الفلسفة. أن الفساد لا يُقاس فقط بالمال المنهوب، بل بالكرامة المهدورة في تفاصيل الحياة اليومية للموظف. أن الإصلاح لا يبدأ من القوانين، بل من إعادة تعريف الإنسان داخل المؤسسة: هل هو عقل؟ أم رقم؟ هل هو شريك؟ أم تابع؟

إن النموذج الذي تقدمه "قوقل" لا يُلهم فقط، بل يفضح. يفضح هشاشة المؤسسات التي لا ترى في الإنسان سوى رقم وظيفي، ويكشف زيف الشعارات التي تتحدث عن التميز بينما تكرّس الرداءة. وهنا، لا يكون الفرق بين "قوقل" وتلك المؤسسات فرقًا في السياسات، بل فرقًا في الفلسفة: فلسفة ترى في الإنسان طاقة خلاقة، وأخرى تراه عبداً للتراتبية.

هذا النص لا يهدف إلى تمجيد "قوقل"، بل إلى مساءلة واقعنا. إلى طرح سؤال مؤلم: ماذا يحدث للمبدع حين يُحاصر بين وعيه بما يستحق، وعجزه عن نيله؟ وهل يمكن للإبداع أن ينجو في بيئة لا تعترف به إلا إذا تنكر لذاته؟

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

التهوية الطبيعية في المباني

م/ آمنه العجيلى تنتوش المقدمة تتوقف الراحة الفسيولوجية للإنسان على الثأتير الشامل لعدة عوامل ومنها العوامل المناخية مثل درجة الحرارة والرطوبة وحركة الهواء والإشعاع الشمسي . وللتهوية داخل المبنى أهمية كبيرة وتعتبر إحدى العناصر الرئيسية في المناخ ونق الانطلاق في تصميم المباني وارتباطها المباشر معها فالتهوية والتبريد الطبيعيين مهمان ودورهما كبير في تخفيف وطأة الحر ودرجات الحرارة الشديدة ، بل هما المخرج الرئيسي لأزمة الاستهلاك في الطاقة إلى حد كبير لأن أزمة الاستهلاك في الطاقة مردها التكييف الميكانيكي والاعتماد عليه كبير والذي نريده فراغات تتفاعل مع هذه المتغيرات المناخية أي نريد أن نلمس نسمة هواء الصيف العليلة تنساب في دورنا ومبانينا ونريد الاستفادة من الهواء وتحريكه داخل بيئتنا المشيدة لإزاحة التراكم الحراري وتعويضه بزخات من التيارات الهوائية المتحركة المنعشة . فكل شي طبيعي عادة جميل وتتقبله النفس وترتاح له فضلا عن مزاياه الوظيفية . وعلى المعماري كمبدأ منطقي عام البدء بتوفير الراحة طبيعياً ومعمارياً كلما أمكن ذلك ومن تم استكملها بالوسائل الصناعية لتحقيق أكبر قدر ممكن ...

بيوت الحضر: رؤ ية معاصرة للمسكن الطرابلسي التقليدي

تصميم وعرض/ جمال الهمالي اللافي في هذا العرض نقدم محاولة لا زالت قيد الدراسة، لثلاثة نماذج سكنية تستلهم من البيت الطرابلسي التقليدي قيمه الفكرية والاجتماعية والمعمارية والجمالية، والتي اعتمدت على مراعاة عدة اعتبارات اهتم بها البيت التقليدي وتميزت بها مدينة طرابلس القديمة شأنها في ذلك شأن كل المدن العربية والإسلامية التقليدية وهي: · الاعتبار المناخي. · الاعتبار الاجتماعي ( الخصوصية السمعية والبصرية/ الفصل بين الرجال والنساء). · اعتبارات الهوية الإسلامية والثقافة المحلية. أولا/ الاعتبار المناخي: تم مراعاة هذا الاعتبار من خلال إعادة صياغة لعلاقة الكتلة بمساحة الأرض المخصصة للبناء، بحيث تمتد هذه الكتلة على كامل المساحة بما فيها الشارع، والاعتماد على فكرة اتجاه المبنى إلى الداخل، وانفتاحه على الأفنية الداخلية، دون اعتبار لفكرة الردود التي تفرضها قوانين المباني المعتمدة كشرط من شروط البناء( التي تتنافى شروطها مع عوامل المناخ السائد في منطقتنا ). وتعتبر فكرة الكتل المتلاصقة معالجة مناخية تقليدية، أصبح الساكن أحوج إليها من ذي قبل بعد الاستغناء عن البنا...

المعلم/ علي سعيد قانة

موسوعة الفن التشكيلي في ليبيا 1936- 2006 جمال الهمالي اللافي الفنان التشكيلي" علي سعيد قانة " هو أبرز الفنانين التشكيليين الذين عرفتهم الساحة التشكيلية في ليبيا... انخرط في هذا المجال منذ نحو أربعة عقود. ولد بمدينة طرابلس الموافق 6/6/1936 ف ترعرع في منطقة سيدي سالم (باب البحر) بمدينة طرابلس القديمة.والتحق بأكاديمية الفنون الجميلة بروما- إيطاليا سنة 1957 وتخصص في مجال النحت بمدرسة سان جاكومو للفنون الزخرفية، كما حرص خلال وجوده في روما على دعم قدراته الفنية من خلال دورات تخصصية في مجال الرسم الحر والطباعة والسباكة وبرز في هذه المجالات جميعا.• التحق عند عودته إلى ارض الوطن بمعهد للمعلمين ( ابن منظور ) للتدريس سنة 1964ف• انتقل للتدريس بكلية التربية جامعة الفاتح سنة1973 ف• انضم إلى كلية الهندسة/ جامعة الفاتح بقسم العمارة والتخطيط العمراني سنة 1974- وتولى تدريس أسس التصميم و الرسم الحر لغاية تقاعده سنة 2001 ف• عمل مستشارا للشئون الفنية بمشروع تنظيم وإدارة المدينة القديمة. مساهماته الفنية/ اقتنى متحف مدينة باري للفنون بإيطاليا لوحتين من أعماله الفني...