أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

{فأما الزَّبد فيذهب جُفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض}- سورة الرعد، الآية 17

السبت، أغسطس 09، 2025

المسكن الطرابلسي المعاصر: النية المعمارية في إحياء الذاكرة المكانية

 


جمال الهمالي اللافي

منذ بدايات دراستي بقسم العمارة والتخطيط العمراني بجامعة طرابلس، انصب اهتمامي على تجاوز التلقين النظري نحو تعميق فهمي للمصطلحات المعمارية وتأصيلها في سياقنا العربي. كان البحث عن مرادفات عربية لمصطلحات مثل "Intention" "النية المعمارية: هو شغف حقيقي، لأجد في النهاية أن "النية المعمارية" هي التعبير الأدق الذي يلخص جوهر فكرة التصميم. هذه "النية" ليست مجرد خطة وظيفية أو جمالية، بل هي الروح التي تسكن المشروع، القصة التي يرويها المعماري، والهدف الأعمق الذي يسعى لتحقيقه.

النية المعمارية: ترجمة للفكر إلى واقع ملموس

مصطلح "النية المعمارية" (Architectural Intention) هو مصطلح جوهري في عملية التصميم، ويعكس بعمق العلاقة بين فكرة المعماري وتجسيدها في المشروع.

ما هي النية المعمارية؟

النية المعمارية هي الهدف الأساسي أو الفكرة المحورية التي يسعى المعماري لتحقيقها من خلال تصميمه. إنها ليست مجرد وظيفة أو جمالية سطحية، بل هي الجوهر الفلسفي والتعبيري الذي يقف وراء كل قرار تصميمي. يمكن اعتبارها بمثابة "روح" المشروع أو "القصة" التي يرويها المعماري من خلال عمله.

تتضمن النية المعمارية جوانب متعددة، منها:

·     المفهوم التصميمي (Concept): الفكرة التجريدية التي ينطلق منها التصميم، والتي يمكن أن تكون مستوحاة من البيئة، التاريخ، الثقافة، أو حتى احتياجات المستخدمين.

·         الرسالة المراد إيصالها: ما الذي يريد المعماري أن يشعر به الناس أو يفهموه عند تفاعلهم مع المبنى؟ هل هي السكينة، القوة، الترحيب، أم شيء آخر؟

·         القيم الأساسية: المبادئ التي يلتزم بها المعماري في تصميمه، مثل الاستدامة، المرونة، الشمولية، أو التكيف مع السياق.

·         حل المشكلات: الطريقة التي يعالج بها التصميم تحديات معينة، سواء كانت وظيفية، بيئية، أو اجتماعية.

النية المعمارية هي التي تمنح المشروع تفرده وهويته، وهي التي تميزه عن غيره من المباني.

كيف يحقق المعماري النية المعمارية في مشاريعه؟

تحقيق النية المعمارية يتطلب عملية تصميم شاملة ومتكاملة، يترجم فيها المعماري أفكاره المجردة إلى تفاصيل ملموسة. إليك بعض الطرق التي يمكن للمعمار أن يحقق بها نيته:

1.      الفهم العميق للسياق والمتطلبات:

·         دراسة الموقع: فهم خصائص الموقع، مثل التضاريس، المناخ، الإضاءة الطبيعية، والعناصر المحيطة.

·         تحليل احتياجات المستخدمين: التعرف على متطلبات ووظائف المشروع من وجهة نظر المستخدمين المستقبليين.

·         البحث الثقافي والاجتماعي: استيعاب القيم الثقافية والاجتماعية التي قد تؤثر على التصميم وتلقيه.

2.      تطوير المفهوم التصميمي:

·         تحديد الفكرة الأساسية: بلورة الفكرة المركزية التي ستوجه عملية التصميم بأكملها.

·         رسم المخططات الأولية (Sketches): ترجمة الأفكار الأولية إلى رسومات سريعة تعبر عن التكوين العام والمساحات.

·         بناء النماذج الأولية (Models): استخدام النماذج المادية أو الرقمية لتصور الحجم، الشكل، والتوزيع المكاني.

3.      اتخاذ القرارات التصميمية الواعية:

·     اختيار المواد (Materiality): استخدام مواد تتناسب مع النية المعمارية، فالمواد الخشنة قد تعبر عن القوة، بينما المواد الشفافة قد تعبر عن الانفتاح.

·         التلاعب بالضوء والظل (Light and Shadow): استخدام الإضاءة الطبيعية والصناعية لخلق أجواء معينة وتحديد مسارات الحركة والتركيز.

·         تشكيل الفراغات (Spatial Organization): تصميم الفراغات الداخلية والخارجية بطريقة تدعم الوظيفة وتعزز الشعور المطلوب (مثل الانفتاح، الخصوصية، التجمع).

·         التفاصيل المعمارية (Architectural Details): حتى أصغر التفاصيل يمكن أن تساهم في تعزيز النية المعمارية وتعبيرها.

4.      التواصل الفعال:

·         شرح النية: يجب على المعماري أن يكون قادرًا على التعبير بوضوح عن نيته التصميمية للعملاء، المهندسين، والجمهور.

·         التحقق المستمر: مراجعة التصميم بشكل دوري للتأكد من أنه لا يزال يتماشى مع النية الأصلية، وتعديله عند الضرورة.

النية المعمارية ليست ثابتة دائمًا، بل يمكن أن تتطور وتتعمق مع تقدم المشروع، ولكنها تظل بوصلة توجه المعماري نحو تحقيق رؤيته. إنها ما يميز المعماري المبدع الذي لا يكتفي ببناء المساحات، بل يخلق تجارب ومعاني.

النية المعمارية في "المسكن الطرابلسي المعاصر": من المخطط إلى الكتلة

في سياق مشاريعي التصميمية، تجسدت "النية المعمارية" في محاولة جادة لتقديم رؤية تصميمية معاصرة للمسكن الطرابلسي التقليدي. فالمنزل الطرابلسي العريق، بكل تفاصيله وخصائصه، يمثل كنزًا معماريًا وفلسفيًا يستحق الإحياء والتأصيل في عصرنا الحالي. لم تكن النية مجرد محاكاة للشكل، بل هي فهم عميق لجوهر هذا المسكن وكيف يمكن ترجمة قيمه وخصائصه إلى حلول معمارية تلبي احتياجات الحياة المعاصرة، مع الحفاظ على الهوية الثقافية والتراثية.

من خلال الصور المرفقة لمشروع "المسكن الطرابلسي المعاصر"، تتضح ملامح النية المعمارية التي توجه هذا التصميم:

1.      إحياء الفناء المركزي (الحوش) كجوهر تنظيم الفراغات:

·     في المسقط الأفقي: يُظهر المسقط الأفقي الأهمية المحورية للفناء الداخلي "الحوش". هذا الفناء ليس مجرد مساحة مفتوحة، بل هو النية الأساسية في التصميم. إنه قلب المسكن الطرابلسي التقليدي الذي يوفر الخصوصية التامة للعائلة ويسمح بدخول الضوء والهواء الطبيعيين. في هذا التصميم، تم إبراز الفناء كقلب نابض بالحياة للمنزل، يتجلى في التشجير المحيط والنافورة التي تضفي عنصر الصوت الهادئ والبرودة. النية هنا هي إعادة تعريف الوظيفة الاجتماعية والثقافية للحوش كفضاء عائلي يجمع بين الألفة والطمأنينة.

·     في الكتلة الخارجية: تُبرز الكتلة الحوش كفراغ داخلي محاط بالكتل الصلبة للمبنى، مما يعزز فكرة الحماية والخصوصية من الخارج. هذا الترتيب الكتلوي يعكس بوضوح فلسفة المسكن الطرابلسي التقليدي الذي ينغلق على نفسه ويفتح داخليًا.

2.      التأكيد على التسلسل الهرمي للخصوصية:

·     في المسقط الأفقي: يمكن رؤية النية في خلق تسلسل هرمي للخصوصية. فالدخول من الباب المدخل الرئيسي يؤدي إلى فراغات شبه عامة مثل استقبال ضيوف الرجال وجناح الضيافة، ثم تتدرج الفراغات لتصبح أكثر خصوصية كلما توغلنا داخل المنزل، وصولاً إلى غرف النوم والمساحات العائلية الخاصة. هذا التسلسل يعكس القيم الاجتماعية والثقافية في تنظيم المساكن التقليدية.

·     في الواجهة والكتلة: تعبر الواجهة الأمامية والكتلة الخارجية عن هذه النية بشكل فعال. الواجهة تبدو متماسكة وذات فتحات قليلة ومحمية (مثل الشباك الأخضر البارز)، وارتفاعها عن الشارع بما يتجاوز 2 متر، مما يقلل من الرؤية المباشرة من الشارع ويحافظ على خصوصية الفناء الداخلي والفراغات الخاصة. هذه الكتلة الصلبة هي تعبير عن "النية" في حماية العالم الداخلي للمنزل.

3.      الاستلهام من التفاصيل التقليدية بلمسة معاصرة:

يمكن ملاحظة استخدام عناصر معمارية مستوحاة من التراث الطرابلسي، مثل الأقواس والزخارف. ومع ذلك، فإن النية لم تكن الاستنساخ الحرفي، بل هي التأويل المعاصر. فالأقواس تظهر بشكل مبسط وأكثر حداثة، والنقوش تستلهم من الزخارف التقليدية لكنها تتسم بالبساطة في التعبير. الألوان الخضراء المستخدمة في الشبابيك والمشربيات تعكس نية إضفاء لمسة من الحيوية والتجديد مع الحفاظ على الهوية اللونية للمباني التقليدية.

4.      دمج العناصر الطبيعية والمستدامة والإضاءة الطبيعية:

·     في المسقط الأفقي: يُشير وجود الحديقة (في الدور الأرضي) إلى نية دمج الطبيعة داخل المشروع، بالإضافة إلى الفناء الرئيسي. هذا يعزز التهوية الطبيعية ويوفر مساحات خضراء داخلية تزيد من جودة الحياة.

·     في الكتلة: تظهر المساحات الخضراء في الفناء وعلى الشرفات، مع وجود المظلات الخضراء "التعريشات" التي تسمح بمرور الضوء مع توفير الظل. هذه العناصر تؤكد على النية في خلق بيئة مريحة ومستدامة، تعتمد على التبريد والتهوية الطبيعية، وهو ما كان جوهريًا في العمارة التقليدية.

·     تأثير الضوء: تُظهر الظلال التي تسقط على أرضية الفناء نية واضحة في استخدام الإضاءة الطبيعية كعنصر تصميمي. فالضوء ليس مجرد وسيلة للإضاءة، بل هو أداة لخلق الأجواء والتعبير عن الزمن والتغيير خلال اليوم. النية هنا هي استغلال الشمس لخلق تأثيرات بصرية جذابة تزيد من حيوية الفناء وتفاعله مع البيئة.

5.      التعبير عن الهوية الثقافية المعاصرة والمرونة الوظيفية:

·     في المسقط الأفقي والكتلة: يعكس التصميم ككل نية في تجاوز مجرد "التقليد" إلى "التأصيل". إنه لا يقدم منزلًا طرابلسيًا قديمًا، بل يقدم نموذجًا معاصرًا يعبر عن هوية طرابلسية متجددة. الكتل الواضحة والمناطق المفتوحة والمغلقة، والتفاصيل المستوحاة، كلها تعمل معًا لتحقيق هذه النية.

·     المرونة الوظيفية: على الرغم من التمسك بالجوهر التقليدي، تظهر النية في هذا التصميم أيضًا بتوفير مرونة وظيفية تناسب الحياة العصرية. تقسيم الفراغات الداخلية يسمح بتنظيم مختلف للوظائف المعيشية الحديثة. النية هنا هي خلق مسكن لا يعيش في الماضي، بل يستفيد من قيمه العميقة ليقدم حلولًا عملية ومريحة لحاضرنا.

6.      العلاقة بين الداخل والخارج والخصوصية:

تُبرز التصميم العلاقة بين الفراغات الداخلية والفناء، حيث تطل الغرف عليه لتستمد منه الإضاءة والتهوية. في ذات الوقت، يُظهر التصميم اهتمامًا كبيرًا بالخصوصية، وهي نية أساسية في المسكن التقليدي، حيث لا توجد فتحات كبيرة مباشرة على الشارع. حتى الواجهة الخارجية للمبنى تعكس عادةً انغلاقًا نسبيًا لحماية الفناء الداخلي. المساحات الخارجية المفتوحة مثل الشرفات المزروعة تبرز نية توسيع نطاق الفراغات الترفيهية مع الحفاظ على درجة من العزلة.

في الختام، المسقط الأفقي والكتلة الأولية لمشروع "المسكن الطرابلسي المعاصر" يؤكدان أن النية المعمارية وراءه هي أكثر من مجرد تصميم وظيفي. إنها محاولة حقيقية لخلق تجربة معيشية تستوحي من ثراء المسكن الطرابلسي التقليدي وتراثه، مع إعادة تفسيره وتكييفه ليناسب متطلبات الحياة الحديثة. هذا المزيج بين الأصالة والمعاصرة هو جوهر "النية المعمارية" التي يسعى هذا المشروع لتحقيقها، ليصبح "المسكن الطرابلسي المعاصر" ليس مجرد مبنى، بل هو سرد معماري لهوية متجددة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المواضيع الأكثر مشاهدة

بحث هذه المدونة الإلكترونية