أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

{فأما الزَّبد فيذهب جُفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض}- سورة الرعد، الآية 17

الاثنين، أغسطس 18، 2025

تفتيت المجتمع وتعدد الذائقة: أزمة الهوية في العمارة الإسلامية المعاصرة

 


جمال الهمالي اللافي

مقدمة

في زمنٍ تحولت فيه المجتمعات الإسلامية من كيانٍ واحد إلى فسيفساء متنازعة، لم يعد بالإمكان الحديث عن ذائقة فنية جامعة أو توجه معماري موحد. هذا التفكك لا يعكس فقط أزمة سياسية أو اجتماعية، بل يفضح انهيارًا أعمق في المرجعية الثقافية والدينية التي كانت توحد الذوق، السلوك، والتوجه العام.

من المجتمع إلى المجتمعات: تصحيح المفهوم

الحديث عن "المجتمعات" بدلًا من "المجتمع" ليس مجرد زلة لغوية، بل هو انعكاس لتحول تاريخي خطير. فالمجتمع الإسلامي، الذي كان يومًا ما وحدة متماسكة، أصبح اليوم مجموعة من الكيانات المتصارعة، كل منها يحمل فهمًا خاصًا للدين، للهوية، وللذوق العام. هذا التحول بدأ بانهيار الدولة الإسلامية الجامعة، وتكرّس باتفاقيات التقسيم، وتنصيب وكلاء التفتيت من عسكر وأحزاب ومنظمات مدنية.

أدوات التفتيت: من الرياضة إلى الإعلام

لم يكن التفتيت عشوائيًا، بل تم عبر أدوات مدروسة:

  • الفرق الرياضية التي تحولت إلى هويات بديلة، تُقاتل من أجلها الجماهير.
  • الأحزاب السياسية التي مزقت النسيج الاجتماعي تحت شعار الديمقراطية.
  • حرية التعبير المنفلتة التي شرعنت التطاول على العقيدة والسلوك القويم.
  • الإعلام الفضائي الذي أعاد تشكيل الوعي الجمعي وفق أجندات خارجية، تُعلي من التفكك وتُضعف الانتماء.

العمارة كمرآة للانقسام

في ظل هذا التفكك، لم تعد العمارة تعبيرًا عن هوية جماعية، بل أصبحت انعكاسًا لانقسامات فردية. تنوعت المدارس المعمارية، وتعددت الذائقات، وكلها مستوردة من خارج السياق الإسلامي، حتى فقدت العمارة وظيفتها التوحيدية، وتحولت إلى ساحة صراع بين مؤيد ومعارض ومشكك.

العمارة الإسلامية: وحدة الرؤية وتنوع التطبيق

ما يُميز العمارة الإسلامية ليس نمطًا واحدًا، بل رؤية موحدة تنبثق منها تطبيقات متعددة، تتفاعل مع البيئة دون أن تتخلى عن جوهر العقيدة. لقد كانت منفتحة على الحضارات، تأخذ منها ما لا يتعارض مع الإسلام، وتنبذ ما يخالفه. وهذا الانفتاح لم يكن ضعفًا، بل قوة حضارية واعية.

دعوة لإعادة البناء

إن استعادة الذائقة المعمارية الإسلامية لا تكون بالعودة إلى الماضي حرفيًا، بل بإحياء الفكر الإسلامي المعماري الذي يجمع بين الأصالة والانفتاح، بين العقيدة والإبداع، وبين الوحدة والتنوع. وهذا يتطلب:

  • إصلاح التعليم المعماري.
  • إعادة توجيه الإعلام الثقافي.
  • دعم المشاريع التي تستلهم من التراث دون أن تتقوقع فيه.
  • إعادة الاعتبار للمجتمع كمرجعية ذوقية، لا للفرد المنعزل.

خاتمة

ما نعيشه اليوم من تفتيت في الذائقة والسلوك والهوية هو نتيجة مباشرة لانهيار المرجعية الجامعة. والعمارة، بما تحمله من رمزية، يمكن أن تكون مدخلًا لإعادة بناء هذه المرجعية، شرط أن نعيد لها دورها كأداة وحدة لا تفرقة، وكجسر بين العقيدة والواقع، بين الإنسان وبيئته، وبين الماضي والمستقبل.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المواضيع الأكثر مشاهدة

بحث هذه المدونة الإلكترونية