جمال الهمالي اللافي
في أواخر القرن
التاسع عشر وبدايات القرن العشرين ظهرت عدة مدارس معمارية غربية تتبنى في منهجها
نظريات، عبرت في مضمونها عن القيم المادية التي أنتجتها الثورة الصناعية، وتدعو في
مجملها إلى الخروج بالعمارة والفنون من إطار الأشكال التراثية التي رأوا أنها
تعتمد على الإثارة البصرية من خلال الزخم الهائل من الزخارف التي تغطي مسطحاتها،
وتنادوا بضرورة تبسيط الأشكال والعناصر المعمارية. ودعمت الثورة الصناعية هذا
التوجه بإنتاجها لمواد بناء جديدة تعتمد على بساطة التصنيع وسرعة الإنتاج ووفرته
إلى جانب رخص تكاليفها وسهولة نقلها إلى مواقع بعيدة عن مصدر إنتاجها. وبنفس القدر
الذي انتشرت به مواد البناء المصنعة انتشرت قيم الثورة الصناعية ومفاهيمها
الاقتصادية.
وقد انعكست هذه
المفاهيم الاقتصادية بدورها على الفكر الإسلامي، وبوجه الخصوص على الرؤية
التخطيطية والتصميمية للمشاريع الإسكانية التي تتبناها الدولة، وهو ما دفع
بالمعماري، تحت ضغوط حاجة الدولة لحل أزمة السكن الناتجة عن تدفق الأيدي العاملة
من الأرياف إلى المدن الصناعية لتحريك عجلة الاقتصاد، إلى نبذ جميع المعطيات
الأخرى التي تتشكل منها آلية العملية التصميمية للمباني السكنية، ليسخّر فكره
لإنتاج عمارة اقتصادية بالدرجة الأولى لا تحمل في مضمونــها أبعد من ذلك تمثلت على
المستويين التخطيطي والتصميمي فيما يعرف بالنموذج المتكرر للوحدة السكنية والذي
يعتمد في غالبية الأحيان على الارتفاع الرأســــــي لهذه الوحـدات " العمارات
السكنية" وذلك زيادةً في الاقتصاد في تكلفة البناء وتسريعاً لحركته، وكان هذا
النموذج منحصراً في البداية على ذوي الدخل المحدود ليعم في آخر الأمر جميع
المستويات الاجتماعية والثقافية. ويصبح السمة الغالبة على الطابع التخطيطي
للمشاريع الإسكانية.
وضع هذا التوجه
الاقتصادي في العمارة، إنسانية المجتمع تحت خانة الإحصائيات البيانية التي ترصدها
الدولة لتحديد اقتصاداتها، كما انعكس بدوره على طبيعة المناهج الدراسية التي تعتمد
عليها المدارس المعمارية لتأهيل كوادرها، فغاب بذلك المعنى المقصود من العمارة
ومفهومها الحقيقي الذي يسعى لإيجاد بيئة صالحة لمعيشة الإنسان، وغابت من وراءه
الهوية الثقافية والخصوصية الاجتماعية والمعالجات البيئية التي كانت تبحث فيها
العمارة التقليدية وتؤكدها من خلال نتاجها المعماري والتخطيطي، مما ترتب عليه حدوث
خلل وتدهور في سلوكيات المجتمع وقيمه الأخلاقية وأصبحت" الغاية تبرر
الوسيلة" قاعدة تحكم المفهوم العام للحياة. كما اتسمت العملية التصميمية التي
كانت تعتمد على الإبداع بالجمود والتكرار، وتحول المعماري إلى دكتاتور يمارس سادية
الفكر تحت شريعة الاختصاص على مجتمعه تحت إطار الهيئات الاستشارية الهندسية التي
يتبعها وفرض بذلك عمارته التي تتبنى مذهب الاقتصاد في كل شيء على العمارة البيئية.
وكردة فعل ضد
هذا التوجه، وامتداداً لحالة التغريب ظهرت تيارات أخرى لتُنتج عمارة جديدة اتسمت
بالفردية الأنانية إلى حد التطرف الذي قادها إلى تحطيم كل الضوابط والقيود بدءا
بالشكل المعماري مروراً بالهيكل الإنشائي وانتهاءً بالقيم الاجتماعية والثقافية،
وآخر هذه التيارات التي ظهرت على الساحة المعمارية ما عرفت اصطلاحا بالعمارة
التركيبية أو التفتيتية، التي تُظهر المبنى وكأنه قد تعرض للتدمير بحيث انهارت
طوابقه فوق بعضها البعض وهو تطبيق عملي للنظرية التفتيتية- وهي آخر ما تمخضت عنه
فلسفات القرن العشرين ونظرياته- والتي تعتمد مبدأ الهدم لكل المعتقدات الدينية
والقيم الاجتماعية السائدة دون السعي لإعادة تصحيحها أو ترتيبها أو بنائها بقدر ما
تهدف إلى خلخلة وتشويش الفكر الإنساني وتشكيكه في كل ما هو قائم.
كحالة اجتهادية
للخروج بالعمارة من هذا المنزلق انصرف بعض المعماريين إلى البحث عن بدائل تصحح
مسيرة العمارة نحو خدمة الإنسان، تكون أكثر قربا منه وارتباطاً بواقعه الثقافي
والاجتماعي والبيئي، رافضةً بدورها للقولبة الفكرية والمنهجية في التخطيط والتصميم
والتي تتبنى العمارة الدولية كاتجاه معماري بسط نفوذه على بقاع المعمورة بعد أن
بسط نفوذه على العقلية المعمارية. وربما يعيب هذه التوجهات أنها ركزت في بحثها عن
عمارة إنسانية، على التعامل مع الشكل كتعبير ثقافي، ومع المواد المحلية كحل
اقتصادي، ومع الخصوصية السمعية والبصرية كاعتبار اجتماعي.
لكن مشكلة
الإنسان ظلت عالقة، فأزمة السكن تزداد استفحالاً والهوية تُمعن في الاغتراب وسلوك
الإنسان مع أخيه الإنسان يتمادى في وحشيته والعمارة ترتدي حُلة أخرى غير حُلتها،
وبين هذا وذاك يقف المجتمع الإسلامي حائراً وعاجزاً عن الاهتداء إلى ضالته
المنشودة لتحقيق عمارة بيئية تتفاعل مع همومه وتخرج به من أزمة الفوضى والاغتراب
التي جعلت الإنسان سجين بيوت الزجاج وعلب الكبريت التي تناطح السحاب. فأصبح شوقه
يتزايد يوما بعد يوم إلى محادثة أخيه الإنسان أو التمتع بمنظر الطبيعة من خلال
نافذة بيته. وهكذا شوهت عمارة القرن العشرين باعتمادها على مفهوم الاقتصاد في كل
شيء صورة البيئة الإنسانية التي تتوازن فيها القيم المادية مع القيم الروحية.
الأمر الذي
يدفعنا أيضا إلى تجديد الدعوة للبحث عن النظرية الإسلامية في عمارتنا المحلية
المعاصرة، التي تستلهم منهجها وفكرها الفلسفي من قيم ديننا الإسلامي الحنيف، وتكون
المرجعية إلى القرآن الكـريم الذي جاء ليصحح للإنسان مسيرته نحو بناء علاقته
السوية بخالقه سبحانه وتعالى وبذاته ومجتمعه هذه العلاقة التي تتصف بالشمولية
والكمال لأنها جاءت من لدن حكيم عليم وليست من صنع بشر تنازعه الأهواء والأغراض.
ويقدم لنا
القرآن الكريم دعوة صريحة لإعمال الفكر وتحليل المعاني واستنباط الحكم، في قوله
سبحـــــــــــانه وتعالى:
} وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ
مِن كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِن جِئْتَهُم بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ
أَنتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58) كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ
لَا يَعْلَمُونَ (59){- سورة الروم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق