أ. علي سعيد قانة
أتسائل دائما عن السبب الذي حذا بي ـ ومازال إلى اليوم ـ إلى التوقف لفترات ليست بالقصيرة أمام حرفي منهمك في عمله ، لم أهتم بالبحث عن السرد وكشف الدواعي لذلك ، تاركا الأمر يأخد مجراه في هذه العلاقة الفطرية البدائية التي جعلت إنسان ما قبل التاريخ يقف مبهورا مشدودا أمام براعة رسام ونحات الكهوف ، ويعزي مقدرته هذه إلى استعادة مشاهداته وتجربته البصرية وتسجيلها إلى قوة غير طبيعية يمتلكها وتنصبه ساحرا وتوكل إليه تحقيق أحلامه في الصيد الوفير وإبعاد خطر منتظر .
التوقف أمام محترفات تجهيز وصناعة السروج في رواق الكرامة بباب الحرية وحرفيي تشكيل الفضة في سوق الصياغة وتطريز "التلاليك" بسوق الترك ، كان من الطقوس التي تتكرر يوميا أثناء عودتي وأنا تلميذ بمدرسة المدينة القديمة الإبتدائية إلى منزلنا بباب البحر ، أحيانا أعرج على سوق النجارة مكررا السلوك ذاته أمام محترفات الحدادة لأسرة دريرة بمواجهة سيدي الشنشان ، وأفرادها منهمكون في حوارهم الملتهب مع الحديد والنار ، بينما أثناء العطلات الأسبوعية كثيرا ما كنت أهرع إلى منطقة سوق الثلاثاء القديم خلف جامع أبورقيبة حيث معامل صهر وسباكة الحديد الزهر لأقف في خشوع مراقبا فنيي تجهيز القوالب والمعدن الملتهب السائل يتدفق كالدم مثيرا في نفسي مشاعر الخوف والإعجاب في آن .
لم أجابه طول هذه المدة بأي سلوك أو موقف أستشف منه ضيق أو تبرم أولئك الحرفيين ، بل ما لمسته نوعا من التسامح واللين تجاه فضولي لعله كان نتيجة لما يرتسم على وجهي من علامات الإنبهار والإهتمام والإعجاب الصامت ... تطورت العلاقة مع الحرفيين في ما بعد إلى حوار حول الحرفة بمودة واحترام .
ذكر الحرفة يستدعي بالضرورة إمتدادها في ما مضى من عمر الإنسانية ، حضورا فاعلا ومحركا ليومها ومتطلعا مشاركا في مستقبلها منذ تحطيم الصوان لصناعته أسنة الرماح وأنصال السكاكين واقتلاع المسلات ونقشها وبناء الصروح والقلاع إلى تنفيذه هياكل المركبات وصناعة الحواسيب وأجهزة الإتصالات . المصمم حرفي خلاق ولكل مجاله ومداه . نرى هنا أن هنالك أسبابا ودواعي تؤكد حاجة الإنسان إلى الحرفة منها/
المعنوية : كربط الحس وإيصاله إلى الأجيال القادمة ، ونقل التفاعل بين المجتمعات ، ووضوح الخيار في الإنتقاء ، ومواجهة التأثيرات المقبلة والتغيرات المفاجئة ، والمحافظة على طابع المنتوج المميز .
أما الحاجة العملية : فالحرفة تتضمن إندماج وتسلسل تقنيات وأساليب المعالجة عبر فترات وأجيال ، كما أنها تمد الحرفي بمقدرة عملية على المواجهة والتعامل مع الخامات الجديدة والآليات والعدد الحديثة ، وتضمن كفاءة الإستجابة لمتطلبات الحياة متفاعلة ومبادرة ، في حين تحقق الأشكال والوحدات مخزونا للطرح المبدئي في مبادرة الحرفي . وهي بذلك ناموس للقيم ، منها ما له علاقة بالإنتاج أو الجانب العملي التنفيذي أو التقني ، وآخر له علاقة بالمعاملات أو "أخلاقيات الحرفة " وما نسبغه واتسم به الحرفي .يتمثل الجانب العملي في إجادة التنفيذ والذي بدوره يتطلب :
1) الخبرة العملية : وهي ممارسة العمل لفترة من الزمن واكتساب مقدرة على استعمال اليدين إستجابة لخفقات ووفق ما تمليه إنطلاقات المخيلة وحدس للتصور الجمالي العملي أو الرؤية الإبداعية للجمال الحرفي .
2) ملكة على النقد والفرز : رعتها وطورتها خبرة الممارسة الملتزمة ، تتمثل في رد الفعل التلقائي العنيف تجاه ما يعبث بالمنتوج والمبادرة بمعالجته لتعود للمنتوج إشراقته وبهجته .
المعنوية : كربط الحس وإيصاله إلى الأجيال القادمة ، ونقل التفاعل بين المجتمعات ، ووضوح الخيار في الإنتقاء ، ومواجهة التأثيرات المقبلة والتغيرات المفاجئة ، والمحافظة على طابع المنتوج المميز .
أما الحاجة العملية : فالحرفة تتضمن إندماج وتسلسل تقنيات وأساليب المعالجة عبر فترات وأجيال ، كما أنها تمد الحرفي بمقدرة عملية على المواجهة والتعامل مع الخامات الجديدة والآليات والعدد الحديثة ، وتضمن كفاءة الإستجابة لمتطلبات الحياة متفاعلة ومبادرة ، في حين تحقق الأشكال والوحدات مخزونا للطرح المبدئي في مبادرة الحرفي . وهي بذلك ناموس للقيم ، منها ما له علاقة بالإنتاج أو الجانب العملي التنفيذي أو التقني ، وآخر له علاقة بالمعاملات أو "أخلاقيات الحرفة " وما نسبغه واتسم به الحرفي .يتمثل الجانب العملي في إجادة التنفيذ والذي بدوره يتطلب :
1) الخبرة العملية : وهي ممارسة العمل لفترة من الزمن واكتساب مقدرة على استعمال اليدين إستجابة لخفقات ووفق ما تمليه إنطلاقات المخيلة وحدس للتصور الجمالي العملي أو الرؤية الإبداعية للجمال الحرفي .
2) ملكة على النقد والفرز : رعتها وطورتها خبرة الممارسة الملتزمة ، تتمثل في رد الفعل التلقائي العنيف تجاه ما يعبث بالمنتوج والمبادرة بمعالجته لتعود للمنتوج إشراقته وبهجته .
إن الحرف جميعها وعلى اختلافها تسم مزاوليها بسمتي الصبر والمثابرة ؛ فالصبر يتأتى من الإرتباط بالخامة وتتبع خطوات تنفيذ العمل والإجادة في إيجاد الحلول بغية التمكن من تحقيق التميز ، مثابرا في شوق وحمية لكشف المجهول ، وتجاوز المعتاد والمألوف . إنه كالرائد تنطلق نظراته باحثة في الأفق البعيد ، يجتاز الوهاد والفيافي غير مكترث بما يواجهه أو ما يستغرقه من زمن في سبيل الوصول إلى هدفه .
يصف البعض الحرفي المتميز بأن " ودنه طويلة " ذلك أن مفهوم الزمن وعلاقته بإجادة العمل أمر يختلف عنده عما هو عند عامة الناس ، كما أن علاقة الحرفي بحرفته علاقة تفاعل مثمرة على الصعيد الإنساني ، فهي تفرض عليه التحلي بسلوك واتباع مبادئ تجاه مواطنيه ؛ فالحداد يعمل على تحاشي النهايات الحادة وما قد يكون سببا في إلحاق الأذى بالمستعمل ، خصوصا صغار السن . ويرد حرفي آخر عند تساؤل المقتني عن جودة الإنتاج إذا كان من المستعملات : "خوذ جرب وكان ماعجبكش رده" دليل ثقة بمستوى تنفيذ إنتاجه . هذا العرض سيكون بلا شك سببا لبعث الثقة لدى المقتني ، والدفء في الأفئدة ، وتوثيق للعلاقات في المجتمع .
يقال أحيانا إن الحرفي في حديثه إنطوائي على نفسه ، وحقيقة الأمر أنه يحبذ رفقة عمله ومتعة حوار الأنامل مع الخامة والأداة ، يد تجيد التصرف وتوصل إلى النتائج . ومن صفاته ، كذلك إحترام حرفته عند تنفيذ الإنتاج " حسب أصول الصنعة " وما هو متعارف عليه لدى أرباب المهنة الواحدة في التعامل يمتد هذا ليشمل الحرص على تعليمها ونقل الخبرة وأسرارها " لمن هو أهلا لها " أي أن هناك مطالب وشروطا يجب أن تتوفر في المرشح للتلمذة الحرفية : تكوين شخصيته ، سلوكه وإستقامته ، إلتزامه . عموما من أقوالهم : " لا تعلم الصنعة لمن لا يقدرها ويحترمها " أو يشرفها . الطاعة التامة واحترام الأسطى المعلم وخدمته طوال فترة التكوين التي يحرص فيها الأسطى المعلم على رعاية طالب المعرفة بتتبع تكوينه مقدما له النصح والإرشاد في الوقت والفترة المناسبة وبالكيفية التي تلائم شخصية المريد وإمكانياته ناقلا له الخبرة " بجرعات " إلى أن يكتمل تكوينه ويطمئن إلى سلامة توجيهه وتحليه بآداب وسلوك الحرفي .
الأعمال والمنتجات الحرفية هي تعبير إنساني مباشر ، لهذا فهي أقرب إلى إمكانية الإرتقاء مباشرة إلى مستوى التميز والتفرد " عمل فني " كما أن لها خاصية طرحها بمظاهر وهيئات مختلفة ومتنوعة في المنتوج الواحد مستجيبة لمبادرات حرفيين مختلفي التكوين الثقافي والإجتماعي .
يختلف الإنتاج الحرفي بشدة عن الإنتاج الصناعي الذي تجتره الآلة بالصفات والمواصفات نفسها إلى ما لانهاية للمنتوج الواحد ، أي أنه نسخة مكررة غير متفردة ولا تعكس حالات إنفعالية أو تفاعلا ، بل هي كلمة أو جملة قيلت واستمر ترددها برتابة ، وبدون شاعرية ، محدودة التأثير ، مثال ذلك مرقوم بني وليد الصناعي الجيد الخامة والتنفيذ والمرقوم اليدوي الشعبي . الأول يقتفي صوت إيقاع الآلة الرتيب ؛ والثاني يصاحب خلجات إنسانية .
يقتني البعض أعمالا تشكيلية أو إنتاج الحرف الفنية لحاجة إليها ، كامنة مستترة ظاهرها جمالها وطرافتها للزينة وتجميل الحيز ، أو الحوار وتواصل بينه وبين العمل أو للمباهاة ، جميعها يضفي ويسبغ على المكان بهجة ومتعة للنظر وراحة للنفس . والجمال كما نعرف هو إتزان وتوافق مجموعة من العناصر في تكوين أو وحدة عمل ما . هذا الإتزان هو غاية مقتني الأعمال ةالتي تحققت بفضل المهارات الحرفية التي يمتلكها كل حرفي ممتميز وفنان مبدع ، ولولا هذه الكفاءة لما ظهر للوجود أعمال فنية وحرفية بهذا الحضور الذي يعمل على إغناء حياتنا اليومية .
يختلف الإنتاج الحرفي بشدة عن الإنتاج الصناعي الذي تجتره الآلة بالصفات والمواصفات نفسها إلى ما لانهاية للمنتوج الواحد ، أي أنه نسخة مكررة غير متفردة ولا تعكس حالات إنفعالية أو تفاعلا ، بل هي كلمة أو جملة قيلت واستمر ترددها برتابة ، وبدون شاعرية ، محدودة التأثير ، مثال ذلك مرقوم بني وليد الصناعي الجيد الخامة والتنفيذ والمرقوم اليدوي الشعبي . الأول يقتفي صوت إيقاع الآلة الرتيب ؛ والثاني يصاحب خلجات إنسانية .
يقتني البعض أعمالا تشكيلية أو إنتاج الحرف الفنية لحاجة إليها ، كامنة مستترة ظاهرها جمالها وطرافتها للزينة وتجميل الحيز ، أو الحوار وتواصل بينه وبين العمل أو للمباهاة ، جميعها يضفي ويسبغ على المكان بهجة ومتعة للنظر وراحة للنفس . والجمال كما نعرف هو إتزان وتوافق مجموعة من العناصر في تكوين أو وحدة عمل ما . هذا الإتزان هو غاية مقتني الأعمال ةالتي تحققت بفضل المهارات الحرفية التي يمتلكها كل حرفي ممتميز وفنان مبدع ، ولولا هذه الكفاءة لما ظهر للوجود أعمال فنية وحرفية بهذا الحضور الذي يعمل على إغناء حياتنا اليومية .
يشير الكاتب إلى أن هذه المقالة قد تبلور مضمونها بلقاء عدد من الحرفيين والحوار معهم ، وأن عددا من المعاني والتعبيرات التي وردت في المقالة هي بالأساس لهم ونذكر منهم هنا الحاج صالح برقيق (أسطى بناء تقليدي ، نالوت) والأسطى مختار بركه ( أسطى نجار خريج مدرسة الفنون والصنائع الإسلامية ) ، وكامل القاضي ( صائغ خطاط حفر بقلم الفولاذ على المعادن ) ، وجرجس ( فني صناعة آلات موسيقية وترية بقسم النشاط العام ـ جامعة الفاتح في السبعينيات ) ، وفوزي النعاس ( نقاش على النحاس وطرق الفضة ) ، وعبدالسلام الزنتاني ( صائغ نقش على الفضة والذهب ) ، الحاج سعد شنقب ( حداد شعبي ) ، وسانتو شانز نحات مكسيكي وفني سباكة ).
تعريف بالكاتب على الرابط التالي: