الأستاذ/ يوسف خليل الخوجة
تزخر
مدينة طرابلس القديمة بالعديد من الآثار المعمارية والتاريخية والفنية التي تحكي
قصة عهود مختلفة التي مرت بها المدينة القديمة منذ عهد الفينيقيين في الألف الأولى
قبل الميلاد أعقبهم حكم القرطاجيين في القرن السادس قبل الميلاد حيث عرفت في هذه
الفترة بمدينة أويا ثم خضعت للنوميديون، ثم بدأ النفوذ الروماني يتغلغل في منطقة
المدن الثلاث منذ سنة 106 قبل الميلاد وعرفت في هذه الفترة بـ (تريبوليس)، ثم تمكن
الوندال القادمين إليها عبر إسبانيا وشمال أفريقيا من احتلالها سنة 455 م.
واستمروا في حكمها حتى سنة 534م. بعدها احتلها البيزنطيون حتى سنة 643 م. حيث تم
فتحها من قبل العرب المسلمون بقيادة عمر بن العاص ومنذ ذلك الوقت أطلق عليها اسم إطرابلس
ليمتد الحكم العربي الإسلامي عبر عصوره المختلفة حتى سنة 1510م عندما استولى الإسبان
على المدينة ثم سلموها إلى فرسان القديس يوحنا القادمين إليها من مالطا سنة 1530م
حتى فتحها العثمانيون سنة 1551م. وامتد حكمهم على مرحلتين، انتهت الأولى بتولي
الأسرة القره مانللية حكم طرابلس عام 1711م حتى عام 1835م ليعيدها العثمانيون إلى
حكمهم حتى سنة 1911م عندما تعرضت البلاد للاحتلال الإيطالي حتى سنة 1943م وبعدها
احتلت قوات الحلفاء ليبيا وأصبحت تحت حكم الإدارة البريطانية حتى سنة 1951م عندما
نالت ليبيا استقلالها وإقامة المملكة الليبية المتحدة حتى عام 1969م عندما تعرض
حكم الملك إلى انقلاب عسكري واستولى الجيش على السلطة في ليبيا حتى ثار الشعب الليبي
على الظلم والطغيان وتحققت الحرية والتحرير في ثورة عرفت على الصعيد العالمي بثورة
17 فبراير 2011 م.
وبالنظر
إلى هذه الأهمية التاريخية لمدينة إطرابلس القديمة وما تحمله من زخم معماري وفني
يوثق للحضارات التي توالت عليها ونتيجة للتطور العمراني المذهل خارج أسوار المدينة
العتيقة تعرضت المدينة القديمة للإهمال نتيجة هجرة سكانها الأصليين ووفود الهجرات
القادمة للعمل بالمدينة بعد ظهور النفط، حيث لم يستوعب حجم المدينة هذا العدد
الهائل من المهاجرين، كما لم تستوعب ثقافة هؤلاء المهاجرين قيمتها التاريخية،
إضافة إلى قلة مواردهم الاقتصادية، واعتبارهم إياها منطقة استقرار مؤقت، فلم
يهتموا بالترميم والصيانة وزاد الأمر سوءاً إهمال السلطات البلدية لها واعتبارها
من المناطق المتخلفة عمرانياً وغضوا النظر عما تمثله من قيمة تاريخية وحضارية
للشعب الليبي وإعادة إحيائها وترميم معالمها التاريخية.
وقد
تنادت أصوات في ستينيات القرن الماضي للميلاد من الحريصين والمهتمين بالتراث
المعماري لمدينة طرابلس القديمة بضرورة اهتمام السلطات البلدية بصيانة وترميم هذه
المدينة العتيقة التي تميزت بالحضور والتواصل التاريخي فتم تكوين لجنة لحماية
المدينة القديمة سنة 1965م من ضمنها الاستاذ بهجت القره مانللي من مصلحة الاثار
ومسعود الزنتوتي من الأوقاف ومحمد قنابة من أعيان البلد وآخرون وسميت باللجنة
الدائمة للمحافظة على المدينة القديمة ولم تحدد جهة بعينها الإشراف على هذه اللجنة
وكانت مهمة هذه اللجنة حصر المعالم التاريخية وإعداد الخرائط والرسومات ولم تستكمل
عملها لقلة الموارد المالية، ثم تبع ذلك عدة لجان كانت جميعها استشارية ولم تستمر
هذه اللجان طويلاً باعتبارها محاولات واجتهادات فردية من أشخاص غيورين على تراثنا
المعماري، إلى أن تم إنشاء جهاز فني لتنظيم وإدارة المدينة القديمة بقرار رقم 58 سنة
1983م يتبع إدارة المرافق ببلدية طرابلس، إلا أنه فشل في تحقيق الطموحات باعتبار
أن المدينة القديمة كانت مصنفة من المناطق المتخلفة عمرانياً ولم تصنف كمدينة
تاريخية يجب حمايتها والحفاظ على معالمها التاريخية والمعمارية حيث قام هذا الجهاز
بناءً على دراسة قدمتها شركة أجنبية لإحياء المدينة القديمة من خلال وضع تصور
لتوسعة شارعين رئيسيين يبدأ الشارع الأول من زنقة الفرنسيس إلى الأربع عرصات إلى
جامع الدروج إلى قوس الصرارعي حتى باب الحرية، ويبدأ الشارع الثاني من زنقة الريح
إلى سوق الحرارة إلى تقاطع سيدي الحطاب مع كوشة الصفار إلى حومة غريان حتى باب
الجديد، وقد بدأ في تنفيذ هذا التصور من باب الجديد وبالتحديد المباني المطلة على
سيدي عمران وقد كنت شاهداً على ذلك ولولا تدخل الدكتور عبد الله شيبوب مدير مصلحة
الآثار في تلك الفترة وإيقاف أعمال الإزالة لما تبقى من المدينة القديمة شيئا وكأن
الأمر مدبر من جهات معينة للقضاء على المدينة القديمة.
وبعد
ذلك وضع تصور للمدينة القديمة من قبل شعبة الثقافة بين عامي 83-85م لإنشاء هيكل
جديد للمدينة القديمة يقوم بالصيانة الفعلية للمدينة القديمة دون تخصيص مبالغ
لتنفيذ ذلك والاعتماد على مواردها الذاتية من إيجارات للعقارات الواقعة داخل نطاق
المدينة القديمة ومنح تراخيص مزاولة الانشطة وابرام عقود الانتفاع وغيرها من الأمور
الإدارية الأخرى .
في العام
1985م صدر قرار رقم 40 بإنشاء مشروع تنظيم وإدارة المدينة القديمة بطرابلس كهيئة
علمية ثقافية متخصصة قائم بذاته يعني بتطوير وصيانة المدينة القديمة التاريخية،
يعتمد على موارده الذاتية في إنجاز مهامه واختصاصاته الموكلة إليه. إلا أن الإنجاز
كان بسيطاً جداً فاستمر التخبط لعدم وجود ميزانية خاصة به وتداولت عليه الجهات
الإشرافية تباعاً تحت شركة الألعاب الترفيهية التابعة للضمان الاجتماعي ثم اللجنة
الشعبية العامة "سابقاً" ثم المرافق ثم البلدية ثم السياحة ثم الإعلام
والثقافة ثم شعبية طرابلس ثم السياحة طرابلس ثم السياحة العامة، مما تطلب من
اللجنة الاستشارية لمشروع المدينة القديمة في عام 1994م وضع تصور يدعو إلى وجود
جهاز خاص بالمدن التاريخية يكون تبعيته للجنة الشعبية العامة "سابقاً"
حتى يكون له مورد مالي وتصبح كافة المدن القديمة تابعة لهذا الجهاز. إلا أن القرار
صدر بعد اثنى عشر سنة وذلك عام 2006م تحت رقم 125 ويكون تبعيته للسياحة والصناعات
التقليدية فأصبح الكادر الوظيفي لمشروع المدينة القديمة هو المسئول على كافة المدن
التاريخية في ليبيا فازداد العبء على العاملين مع عدم توفير الميزانية الخاصة به
فأصبح الإنجاز مستحيل. وبعد ثورة 17فبراير 2011م ألحق الجهاز بوزارة الحكم المحلي
وفي الآونة الأخيرة سمعنا بأن هناك عدة تصورات منها دمج الآثار مع الثقافة ودمج
الجهاز تحت الآثار وذلك في تغييب مقصود للخبرات العاملة في جهاز إدارة المدن
التاريخية ويبدو أننا لا نزال نسير بمفهوم تقسيم الكعكة وتفصيل الأجهزة على
الأشخاص دون النظر إلى الخبرات والمؤهلات "المتخصصة".
ويمكن
القول عبر الرحلة المريرة لمشروع أو جهاز أو مكتب المدينة القديمة فإنه لا يوجد حل
في هذه المرحلة لإنقاذ المدينة القديمة سوى التصور التالي:-
يعاد إنشاء مشروع للمدينة
القديمة طرابلس يتولى وضع وتنفيذ الخطط والبرامج الثقافية والهندسية والفنية
الخاصة بترميم وصيانة المدينة القديمة ويكون تبعيته مباشرة للمجلس المحلي طرابلس
وتشكل له لجنة تنفيذية مؤهلة علمياً ومتخصصة من خمس أو ست أعضاء وتكون من الكوادر
الشابة القادرة على العطاء وتمتلك القدرة والحماس لتنفيذ برامج هذا المشروع همها
الأول إنقاذ المدينة القديمة من الضياع، إلى جانب ذلك تشكيل لجنة استشارية متخصصة
في كافة مجالات اختصاصات هذا المشروع وتكون خبرتها في هذا المجال لا تقل عن عشرين
سنة وقادرة على العطاء الي جانب هذا كله توفير السيولة المالية التي كان يعاني
منها الجهاز طيلة السنوات الماضية . كما يجب ان تتحمل الجهات الاخرى مسئولياتها
مثل وزارة الاسكان في توفير مسكن لائق صحيا للسكان الدين يقيمون في مساكن غير صحية
بتاتا ,كذلك على وزارة الشؤن الاجتماعية أيضا أن تتحمل مسئولياتها في رعاية السكان
ووزارة الكهرباء وكذلك المرافق وشؤون البيئة وترك أمور الترميم العلمية للمباني
التاريخية للجهاز.
إن المطالبة بفصل المدينة القديمة
بطرابلس عن جهاز إدارة المدن التاريخية راجع لكونها تعتبر المدينة التاريخية
الوحيدة المتكاملة والمستمرة بها الحياة منذ ثلاثة الاف سنة مضت وما زالت محافظة
على نسيجها المعماري بالرغم من الانهيارات التي تحدث بين الحين والآخر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق