جامع بورقيبة- على يسار الصورة يقع
المستوصف ضمن ملحقاته في الدور الأرضي
في
حديث معماري، تطرق الدكتور مصطفى المزوغي إلى واحدة من تلك المسائل المتعلقة
بالصورة الذهنية للمدينة، من خلال سؤال طرحه علي ونحن في طريقنا إلى برج ذات
العماد منطلقين من مقر مشروع تنظيم وإدارة مدينة طرابلس القديمة بمقره الكائن
بمصنع التبع سابقا (الريجية). وكان ذلك في منتصف التسعينيات. قائلا: عندما طلب أحد
الأساتذة من تلامذته تقديم تقرير يعبر عن خصوصية مدينته ويعكس صورتها الذهنية. أحد
التلامذة قدم في تقريره أمرا غير مألوف، رأى أنه يعكس الصورة الذهنية لمدينته، فما
هو؟
التزمت الصمت. ولم أجب، لأنه
سبق لي العلم بهذا الموضوع، لم أرد أن أدعي النباهة. وتركته يسترسل في حديثه ليجيب
بنفسه عن هذا السؤال، قائلا، أن هذا الطالب أحضر تسجيلا لأصوات تعكس الصورة
الذهنية لمدينة.
نعم،
فواحدة من الصور الذهنية لأي مدينة التي تلتقطها حواس الإنسان الخمسة تأتي عبر
الأصوات التي تسيطر عليها في غالب الأوقات وتشكل جزءا أصيلا من شخصيتها أو طبيعة
الحياة اليومية بها. فقد تعكس تلك الأصوات صورة لمدينة صاخبة يطغى عليها ضجيج
أبواق السيارات المسرعة في عجلة من أمرها أو هدير لآلات المصانع التي تعج بها أو
صراخ الناس على بعضهم البعض في صراعهم اليومي على لقمة العيش. أو قد تعكس صورة
ذهنية لمدينة ريفية هادئة لا تسمع فيها غير حفيف أوراق الشجر وهي تتمايل مع نسيم
الهواء العليل. وزقزقة العصافير. وخرير ماء الغدير. وضحكات الطفولة في العابهم بين
دروب بساتينها. فلكل مدينة أصواتها. أو لنقل بلغة الحاضر (بصمتها الصوتية(.
في
أحد الأيام وعلى غير عادة سيارات الإفيكو العامة، التي كنت استقلها راكبا من منطقة
سكني بالظهرة إلى مقر مشروع تنظيم وإدارة مدينة طرابلس القديمة بمصنع الريجية
سابقا، حيث أعتاد سائقيها الوصول إلى محطة الركاب عبر طريق الكورنيش وصولا إلى برج
ذات العماد حيث المحطة. اختار هذا السائق أن يدخل عبر شارع عمر المختار ليتوقف في
المحطة المقابلة لسوق الحوت. وهو ما اضطرني لتكملة المشوار على قدمي سالكاً الضفة
اليسرى لشارع الرشيد وأنا أسرح بخاطري في شجون العمل. وبمجرد وصولي إلى جامع بورقيبة
لفحني تيار هواء قوي يحمل معه روائح لأدوية وعقاقير طبية اعتدت على استنشاق
رائحتها في طفولتي كلما أتينا إلى المستوصف، الذي يقع ضمن مكونات هذا الجامع،
لتلقي أنواع التطعيمات أو لعلاج بعض الجروح الناتجة عن السقوط أثناء اللعب مع
الأقران في واحدة من عمارات شارع طارق حيث يقع الجامع في أوله وفي نهايته يصل بنا
إلى شارع عمر المختار ومعرض طرابلس الدولي.
انتبهت إلى نفسي عندما شممت
هذه الرائحة ونظرت إلى حيث كان مدخل المستوصف فلم أر غير محل لبيع الأقمشة بدلا
عنه. فقلت في نفسي سبحان الله، كيف استدعت ذاكرتي هذه الرائحة بعد مضي كل هذه
السنين الطويلة، من آواخر الخمسينيات وبداية الستينيات إلى هذا اليوم من منتصف
التسعينيات. لقد احتفظ شارع طارق في ذهني بهذه الرائحة حية في ذاكرتي.
نعم،
مثلما للمكان صورته المرئية التي ترصدها حاسة النظر. وأصواته التي ترصدها حاسة
السمع. فكذلك له رائحته المميزة، التي تعلق بالأذهان حتى بعد مضي عقود من الزمن.
• فمما تتشكل رائحة المكان، أو كيف تسيطر رائحة دون سواها
على أجواء المكان لتشكل هويته التي تعلق بالذاكرة؟
• وكيف يمكننا وصفها، حيث لا نستطيع ملامستها أو نقلها عبر
صور بصرية أو سمعية ليستوعبها الآخرين؟
لو
خُيرنا بالبحث عن الصورة الذهنية لمجموعة من الأماكن داخل مدينة طرابلس القديمة في
أفضل مراحلها- ولتكن فترة السبعينيات من القرن الماضي- وتحديد الحاسة التي سنتعرف
من خلالها على ذلك المكان. ففي اعتقادي الآتي:
• سوق المشير: وبمجرد الدخول إليه عبر باب المدينة فستكون رائحة
الصناعات الجلدية هي الطاغية على الصورة الذهنية لهذا المكان.
• سوق الرباع:
ستكون رائحة الأردية الحريرية هي الطاغية على الصورة الذهنية لهذا المكان.
• سوق القزدارة:
ستكون أصوات الطرق على الأواني النحاسية هي المهيمنة على هذا المكان. مع رائحة
حادة خفيفة هي رائحة معدن النحاس.
• سوق الدباغ:
تسيطر عليه الروائح العطرية للعديد من النباتات العشبية وأبرزها حضورا في الأجواء
رائحة أوراق الحنة.
سوق القزدارة - حيث تختلط أصوات الطرق على النحاس برائحته الحادة النفاذة |
وهكذا بالنسبة لباقي الأماكن
داخل هذه المدينة أو على محيطها كسوق الحوت وغيره. فللمكان رائحة وللرائحة تأثيرها
على النفس سلبا أو إيجابا.
والسؤال: هل يمكننا اليوم
التعرف على هوية أي منطقة داخل مدينة طرابلس أو خارجها من خلال رائحتها المسيطرة
عليها؟
هذه
مجرد خاطرة عابرة. والموضوع يستحق وقفة جادة تتدارسه بصورة أكثر عمقا. مع أهمية
الإشارة إلى أن كتاب (the image of the city) لمؤلفه (Kevin Lynch) لم يهمل الحديث عن حواس الإنسان الخمسة في تحديد الصورة
الذهنية للمدينة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق