كيفية الخروج بالبحث للتفعيل؟[1]
جمال الهمالي اللافي
أضحت العمارة العربية المعاصرة تعاني من خلل في المنتوج المعماري، ناتج عن انصراف البحث العلمي الأكاديمي عن التعاطي مع واقع المجتمع وظروفه وتطلعاته، كذلك غياب المنهجية في الطرح، والتي تتناول الإشكاليات المعاصرة التي تواجه مجتمعاتنا العربية والإسلامية، والممثلة في توفير بيئة عمرانية ومعمارية صحية، تتوفر فيها جميع المعايير التخطيطية والاعتبارات الإنسانية والخدمات الأساسية. وهو ما يدفعنا إلى طرح هذا التساؤل:
لماذا تصدعت أركان العلاقة بين البحث العلمي الأكاديمي والممارسة المهنية في مجالات العمارة والتخطيط العمراني، مما ترتب عنه إنتاج عمارة معاصرة تتعالى عن هموم المجتمع، وتتعامى عن مشكلاته، ولا تواكب تطلعاته؟ وما هي الأسباب التي أسهمت في تعميق هذه الفجوة بين البحث العلمي الأكاديمي، وواقع العمارة العربية المعاصرة. أي بين النظرية وتطبيقاتها؟
قضية شائكة يصعب الإجابة عن حيثياتها باتفاق غالبية إن لم نقل كل من اهتمّ بمسألة البحث العلمي بمختلف تفرعاته وتشعباته، وشغل باله وقضّ مضجعه ما آلت إليه حالة التعليم المعماري، وفي الحالتين لن نختلف مع أحد في أن هناك خللا ما في مجال البحث العلمي في العالم العربي، أسهم بطريقة أو أخرى في نقوص التجربة البحثية وخروجها عن أهدافها المرجوة والمتوقعة منها. الأمر الذي يحدونا لطرح هذه القضية الهامة والمؤثرة في سير المجتمعات الطامحة للرقي والنهضة العلمية، على مائدة الحوار لتكون قضية للنقاش.
وحقيقة الإشكالية والتي أضحت أزمة مستعصية تعاني منها غالبية البلدان العربية، ليست أزمة بحث علمي مشتت الذهن بين النظرية والتطبيق، ولكنها على حسب تقديري في جوهرها تمثل أزمة في الأخلاق والولاء والانتماء وغياب الهدف المشترك الذي يجتمع عليه أبناء الأمة الواحدة أو الوطن الواحد، وهي مشكلة تتعلق بالتربية السلوكية التي يغيب عنها فقه المعاملات والتعاملات والفهم الصحيح لرسالة الإنسان على هذه الأرض. ويشترك في تحمل هذه المسئولية البيت والمجتمع ثم الدولة.
وبالتالي فنحن نتحدث هنا عن:
§ غياب الوازع الديني والأخلاقي وغياب القيم الأخلاقية المبنية على أسس سليمة، التي تربي في الأجيال الإحساس بالمسئولية تجاه أمتهم وتحفزهم على روح البذل والعطاء والتضحية والإيثار.
§ غياب التربية التي تجعل للأجيال رسالة واضحة يسمو بها الفرد لنيل رضا الله سبحانه وتعالى في الدنيا والآخرة، وقضية يعملون لأجلها ويسخّرون كل طاقاتهم الإبداعية لتحقيقها... رسالة ذاتية تشبع لدى كل فرد إحساسه بقيمته ودوره كعنصر فاعل في الحياة وأنه ليس مجرد رقم في إحصاءات التعداد العام للسكان.
§ غياب المعنى من وجود الإنسان في هذه الحياة والغاية من كل أمر يقوم به الفرد، وهي رسالة أخرى عامة تعمق إحساسه بأنه جزء لا يتجزأ من كيان أكبر هو مجتمعه وأمته، تقصيره في تحمل مسئولية قيادتها سيجعلها بالتالي عرضة للعواصف والتيارات وتلاطم الأمواج والرياح العاتية.
§ غياب الخطط الإستراتيجية لدى أفراد المجتمع ومؤسساته، التي تحدد أبعاد ما يقومون به وكيف يؤذونه على أكمل وجه.
وكلها أسباب للكثير من الأخطاء والتجاوزات والتقصير والإهمال والتسيب وربما كانت سببا في الكثير من المآسي التي تعاني منها أمتنا العربية تحديدا.
وسأطرح هنا بعضاً من الأمثلة عن القصور الأخلاقي بالنسبة للباحثين من واقع تجربتين عاصرتهما/
1. مهندساً تبنته مؤسسة تعنى بالحفاظ على المباني التاريخية، صرفت عليه الدولة ليصبح المتخصص الوحيد في مجاله الناذر على مستوى الدولة وهو " ترميم المباني التاريخية" تطلب منه مؤسسته بعد عودته أن يباشر في تقديم إسهامه في حل المشاكل التي تواجهها هذه المؤسسة مع موضوع اختصاصها، فيتلكأ ويسوّف ويقدم الأعذار ويضع العراقيل وشروط التعجيز، ثم ينتقل لمجال التدريس بالجامعة لمادة عفا عنها الزمن بعد دخول تقنية الكمبيوتر.
2. مهندساً آخر، بعد أن حضّر رسالته العليا في مجال آخر مفقود في مجتمعه، تقدم له مؤسسة خاصة فرصة الشراكة والعمل بها، وتقترح عليه الشروع في تقديم خبرته النظرية في هذا المجال من خلال تطبيقها على هذه المؤسسة، فيتمنع ويتسكع ويقدم الأعذار، ثم يلتحق بالجامعة ليقوم بتدريس مواد مختلفة لا يقع من ضمنها مجال اختصاصه الناذر.
واستعرض هنا أمثلة أخرى عن بعض أوجه القصور الأخلاقي للقائمين على إدارة إحدى المؤسسات التي تعنى بالحفاظ على المدن التاريخية /
1. مهندسا حاصلا على رسالة الماجستير، تولى منصبا مهما ومؤثرا في هذه المؤسسة، يقترح عليه رئيسه الأعلى دعم البحوث والدراسات والمشاريع التي يقوم بها طلاب الجامعات والدراسات العليا،التي يكون تراث هذه المدينة موضوعها... فكان جوابه لا نريد أن نميز بين طلبة المشاريع المختلفة في الجامعات. مما تسبب في وأد هذا المقترح في مهده وحرمان هذه المؤسسة من فرص الاستفادة من كم البحوث التي كان متوقعا إنجازها في ظل توفر هذه الحوافز المادية والمعنوية.
كما حرص هذا المسؤول خلال فترة توليه مهامه على ركن جميع المقترحات والأفكار التي تستهدف الارتقاء بهذه المؤسسة في الرف بعد التهميش عليها بكلمة( يحفظ). ولولا تسرب هذه المقترحات عن طريق إدارة أخرى للمسؤول الأعلى لما تمّ تحقيق أي شئ يذكر.
2. مهندسا آخر أتيحت له فرصة تولي قيادة تنفيذية بهذه المؤسسة- خلفا لمسؤول سابق- قام بإيقاف جميع نشاطات هذه المؤسسة وطرد كل الخبرات الهندسية التي كان لها إسهاماتها الجليلة في هذه المؤسسة، وعندما سأله أحد مدراء إحدى إدارات هذه المؤسسة عن السبب في تعطيل الكثير من الأعمال التنفيذية والبرامج العلمية، كانت إجابته باختصار:" حصلت من الدولة على سيارة وهاتف نقال، كل مكالماته على حسابها وأداوم في العمل متى شئت، فلماذا وجع الرأس".... مات ضمير واحد، فماتت معه كل الفرص المتاحة للإرتقاء بهذه المدينة العريقة.
كما أن الدولة تتحمل مسؤوليتها التاريخية من خلال مراقبتها لمنظومتين تقعان تحت مظلتها وهما:
مؤسسات الإعلام المختلفة والفضائيات التي تبثها أو تسمح ببثها على أقمارها أو تشترك في تمويلها والتي أسهمت بدور كبير في نشر القيم الهدامة التي تروج للفساد وحب الذات والخيانة على كافة المستويات، فتلقفتها الأجيال وتربت عليها، وأصبحت مع الزمن قيمة راسخة في وجدانهم، ماتت معها كل القيم الأخلاقية.
مؤسسات البحث العلمي المختلفة وهي مسؤولية أخرى تقع على عاتق الدولة مراقبتها أيضا وتتمثل في مجموعة من الخطوات التي تستدعي أخذها بعين الاعتبار والتحري عن أبعادها ومسبباتها وهي:
§ متابعة الباحث بعد إنجازه لرسالته وحصوله على الإجازة وبامتياز..... ماذا قدم بعدها؟
§ متابعة سير المكاتب الاستشارية التي تؤسسها الدولة لمواصلة تطبيق الدراسات والبحوث العلمية وتقديم خبراتها للمجتمع والدولة. والتي يقف عليها أناس أكاديميون، يفتقرون للأهلية الأخلاقية والعلمية. ويمارسون نشاطاتهم كأي مكتب استشاري روتيني. المهم الراتب المجزي والمكانة الاجتماعية المرموقة، والمصالح الخاصة التي تتحقق من خلال هذه المكاتب.
§ غياب الحوافز التشجيعية المادية والمعنوية ، يقف فيصلا في توجيه البحث العلمي نحو مساره الصحيح أو عرقلته.
§ تهاون القانون في محاسبة كل من يحاول عرقلة سير النهضة العلمية، كنتيجة طبيعية لإنعدام مصداقية أجهزة الرقابة الإدارية ونزاهة القائمين عليها.
والسؤال أخيرا:
كيف لنا أن نشجع البحث العلمي- في مجالات العمران- ليأخذ مساره الإبداعي في تبني مشاكل العصر التي تهم المسلم كفرد وككيان اجتماعي مترابط، لا ينفصم عراه، في ظل سلسلة من الإشكاليات المحيطة بالبحث العلمي في عالمنا العربي من حيث/
§ اتساع الفجوة بين النظرية والواقع المتردي للمدينة العربية المعاصرة ( عمرانيا ومعماريا واجتماعيا واقتصاديا وثقافيا وبيئيا).
§ كون المشاكل التي تعاني منها المدينة العربية المعاصرة ناتجة عن خلل في سياسات بعض الحكومات العربية، الأمر الذي سيضع منهجية أي بحث علمي أمام الكثير من المحاذير والصعاب.
§ مدى قابلية المؤسسات الرسمية للتعاطي مع النتائج المتوقع الوصول إليها من خلال البحوث العلمية.
§ مدى تباين وجهات النظر والتفكير والقناعات والرؤى بين أصحاب المهنة الواحدة والذين قد يشتركون في إعداد بحث علمي حول المنطلقات والأساليب والأدوات والنتائج، "وهي الأهم والأخطر".
الخلاصة/
من خلال مراجعة لإشكاليات البحث العلمي نجد أنها تحط رحالها في ثلاث محطات مهمة:
المحطة الأولى:
وهي من أهم الإشكاليات التي تواجه الباحث، تتعلق بالتوفيق بين المطلب المادي والمطلب العلمي... بين الأنا والمجتمع... بين المصلحة الشخصية والمصلحة العامة... بين حمل الرسالة أو حرقها.
المحطة الثانية:
تتمحوربين التعليم الأكاديمي والممارسة العملية... وهو ما يعني نقل الخبرات والتجارب لأجيال جديدة، ودعم المسيرة العلمية النظرية بالتجربة الميدانية، وهو ما تفتقر إليه جامعاتنا ومؤسساتنا العلمية.
أما المحطة الثالثة:
تتعلق بما يعتري جامعاتنا العربية والمراكز البحثية من خلل وقصور، ناجم بطبيعة الحال عن ممارسات إدارية خاطئة تعيق مسيرة البحث العلمي في وطننا العربي الكبير. وهو مكمن الداء.
التوصيات/
يمكننا أن نطرح هنا مجموعة من الخطوات التي أرى أنها قد تقود البحث للإجابة عن التساؤلات المطروحة:
1. التركيز أكثر على البرامج التي تحث النشء على البحث العلمي والإبحار في فضاءاته المختلفة.
2. أن يتناول البحث العلمي مشكلات حقيقية ترتبط بواقع المجتمع ويسهل تطبيق نتائجه.
3. أن يلتزم الباحث بالمنهج العلمي في التناول للمشكلة ومسبباتها وفي طرح الحلول.
4. أن لا يقتصر عرض هذه البحوث ومناقشتها على اللجنة العلمية المشرفة على الباحث، ولكن يجب أن تقام ندوات علمية تجمع المختصين والمهتمين وذوي العلاقة بمجالات البحث المنجز، لمناقشة ما تمّ التوصل إليه، ومدى امكانية استثماره وتطبيقه على أرضية الواقع.
5. دعوة المؤسسات الرسمية أو المكاتب الاستشارية المعمارية لتبنى هذه البحوث ودعمها والسعى لتطبيق نتائجها. وذلك:
· بتوفير الأرضية السليمة وتذليل الصعاب التي تساعد الباحث على تطبيق نتائح بحوثه ودراساته من قبل الجهات الإدارية وضمان التزامه من قبل الجهات الرقابية.
· أن يكون هناك تواصل مباشر ومستمر بين الباحث( النظرية) والمعماري( الممارسة المهنية).
6. أن تتبنى الدولة طباعة هذه البحوث، لتعميم فائدتها العلمية على ذوي الاختصاص.
[1] - تم طرح هذا الموضوع للنقاش على صفحات ملتقى المهندسين العرب تحت نفس العنوان، وهذه خلاصة مشاركتي فيها، مع التصرف والإضافة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق