أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

{فأما الزَّبد فيذهب جُفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض}- سورة الرعد، الآية 17

الأحد، مايو 11، 2025

مسارات التأصيل: منطلقات فكرية لتشكيل العمارة الليبية المعاصرة

 

جمال الهمالي اللافي

تمهيد:

·     التقليد كمورد لا كقصور: إن الاقتداء بالموروث المعماري أو محاكاته ليس بالضرورة نقطة ضعف في المنهج الفكري للمعماري. بل قد يمثل صونًا لإنجازات الماضي القيّمة، سواء على صعيد المعالجات البيئية الذكية أو الاستجابة الفعالة للمتطلبات الاجتماعية التي لا تزال قائمة بكفاءة حتى يومنا هذا.

·     الحداثة ليست دائمًا تقدمًا: لا يمكن اعتبار التجديد أو الحداثة أمرًا محمودًا بإطلاق، خاصة عندما يصاحبه ميلٌ جارف لتقويض الأسس المتوارثة دون سند من مبررات منطقية أو منهجية مدروسة العواقب والنتائج. فمثل هذا النهج قد يخلف آثارًا سلبية على سلوك المجتمع واستقراره المادي والمعنوي.

من هذا المنطلق، يصبح لزامًا على المعماري الليبي الطموح للتواصل مع عمارته المحلية أن يستوعب هذه الجوانب جيدًا وينطلق منها في رحلة تأصيل العمارة الليبية المعاصرة، مرتكزًا على الآتي:

·     إرث الخبرة المتراكمة: إن ما تركه الأجداد هو خلاصة تجارب متواصلة وتوارث للخبرات بين أسطاوات البناء التقليديين. لقد نجحوا ببراعة في تحقيق التوازن الدقيق بين قيم ومعتقدات المجتمع واحتياجاته الحياتية اليومية، مستفيدين من الإمكانات المتاحة من مواد البناء والتشطيب، وتقنيات الإنشاء، وعناصر التأثيث.

·     صدق التفاني في مواجهة التحديات: إن الكفاءة والاقتدار الذي أظهره أسطى البناء التقليدي في التعامل مع عمارته المحلية نبع من إخلاصه وتفانيه في معالجة الإشكاليات المعمارية وتقديم حلول ناجعة أثبتت جدواها البيئية والوظيفية والاقتصادية، فضلاً عن ملاءمتها لمتطلبات المجتمع وقدرتها على استيعاب المتغيرات والمستجدات حتى عصرنا الحالي.

·     العمارة المحلية: تفاعل الاحتياجات والمعطيات: تستمد العمارة المحلية قوتها من قدرتها الفائقة على المواءمة بين الاحتياجات المادية والعاطفية للمجتمع من جهة، والمعطيات البيئية والاقتصادية التي تحيط به من جهة أخرى.

·     تنوع الأنماط بتنوع السياقات: لا تمثل العمارة المحلية نمطًا معماريًا واحدًا يمكن تعميمه على كافة المدن الليبية. بل هي علاقة وثيقة الترابط بين الشكل والمضمون من جانب، والسياق الاجتماعي والبيئي الفريد الذي نشأت فيه من جانب آخر.

·     وحدة الشكل والمضمون في التعبير عن الهوية: إن العلاقة بين المفردات والتفاصيل المعمارية والزخرفية من جهة، والتوزيع الفراغي للعمارة المحلية من جهة أخرى، هي علاقة عضوية لا يمكن فصلها. بل تشكل كلاً متكاملاً يعكس أساليب التعبير المتنوعة التي تعرّف بهوية المكان والمجتمع الذي يحتضنه.

·     امتدادات أفقية ورأسية تعكس التنوع البيئي: تتجلى أصالة العمارة المحلية التقليدية في تنوع انتشارها المكاني. فهي تمتد أفقيًا في مساكن الريف وضواحي المدن الساحلية وبعض المدن الصحراوية، بينما ترتفع رأسيًا في عمارة مساكن غدامس الفريدة. وهناك عمارة تنحت في صلب الأرض كما هو الحال في بيوت الحفر في غريان، وأخرى تتدرج مع سفوح الجبال أو تخترقها وتحفر في أعماقها كعمارة الدواميس في الجبل الغربي. ونتيجة لهذا التنوع، لا يمكن تصور تصميمات لمبانٍ سكنية بمفردات معمارية وزخرفية منفصلة عن طبيعة التوزيع الفراغي المرتبط بها في بيئتها الأصلية.

·     تأثير التحولات المجتمعية على الموروث: إن الانقلاب الجذري الذي طال هذا الموروث يعود في المقام الأول إلى تحول المجتمع عن قيمه ومعتقداته، وفقدانه لبوصلة التوجيه التي كانت تساعده في تحديد احتياجاته الحقيقية. وهذا أثر بدوره على القدرة على ترجمة هذه الاحتياجات إلى أشكال معمارية وتوزيعات فراغية تعكس الهوية وتحقق المتطلبات المادية والعاطفية في رؤية معاصرة. (لقد لعب الإعلام دورًا كبيرًا في هذا التحول ولا يزال).

·     إهمال الموروث في التعليم المعماري: يضاف إلى ذلك انصراف مؤسسات التعليم المعماري عن التواصل مع هذا الموروث، وتبنيها فكرًا ومنهجًا وتطبيقًا وتشريعًا غربيًا، دون إخضاع ذلك القدر الكافي من المراجعة للتوفيق بينه وبين المعطيات البيئية والخصوصية الاجتماعية والظروف الاقتصادية لكل بيئة محلية.

·         الإبداع: تطوير لا قطيعة: لا يكمن الإبداع في البحث الدائم عن كل ما هو جديد وغير مألوف على حساب القطيعة مع الموروث المعماري الغني.

·     المنهج التصميمي: استلهام الأصالة من الواقع: يعتمد المنهج التصميمي للمشاريع المعمارية بشكل أساسي على استكشاف تلك الملامح الأصيلة لكل عمارة محلية من خلال الزيارات الميدانية للمعالم التاريخية للمدن، والبحث العميق في إمكانيات الحفاظ على أصالة التوزيع الفراغي، وتفرد التفاصيل والمفردات المعمارية والزخرفية التي تميز كل عمارة محلية عن غيرها.

·     احترام الخصوصية الإقليمية في التصميم الجاد: إن المحاولات التصميمية الجادة التي تسعى لإعادة الاعتبار للعمارة المحلية تنطلق في جوهرها من احترام خصوصية كل نمط معماري، وحصر تصميم وتنفيذ هذه الأنماط في البيئة التي نشأت فيها، دون محاولة تطبيقها قسرًا على مدن أخرى تمتلك بدورها أنماطًا معمارية مميزة.

·     التجديد المدروس: ضرورة لا ترف: يستوجب البحث في مسألة الابتكار في تصميم المشاريع المعمارية وتفاصيلها ومفرداتها المعمارية والزخرفية، أو تطوير التقليدي منها، أن يستند المعماري في ذلك على دراسة واعية لمستلزمات هذا التجديد وضرورات الإلغاء أو التعديل.

·     البحث عن جوهر المعاصرة الحقيقية: يجب السعي نحو تحديد تلك القواسم المشتركة التي تصنع (حقيقةً لا وهمًا) صورة العمارة المحلية التي تستحق أن توصف بالمعاصرة، من خلال قدرتها على التوفيق بين الثوابت التي لا يمكن تجاوزها بأي حال (المتمثلة في الظروف البيئية وقيم المجتمع ومعتقداته)، والمتغيرات التي تشكل مساحة واسعة للمعماري للتعبير والتجديد من خلالها (مثل مواد البناء والعزل الحراري ومصادر توفير الطاقة الكهربائية وتقنيات الإنشاء الحديثة، بالإضافة إلى الظروف الاقتصادية للمستعملين التي تؤثر على حجم المبنى وثراء تفاصيله المعمارية والزخرفية).

·     فهم منطق الفراغات ووظائفها: ينبغي بذل الجهد لفهم أبعاد ومنطلقات ودوافع التوزيع الفراغي ووظائفه في العمارة المحلية التقليدية. وفي هذا السياق، تبرز أهمية مفهوم الوظيفية (функциональность)، الذي يعني بالروسية الوظيفية أو الفعالية أو القدرة على أداء وظيفة معينة حيث يشير إلى مدى قدرة الفراغ أو التصميم على تلبية الاحتياجات العملية والوظيفية للمستخدمين، وجعله سهل الاستخدام ومناسبًا للغرض الذي أنشئ من أجله. فعلى سبيل المثال، تتجلى وظيفية غرفة المعيشة في توفيرها مساحة كافية للجلوس والاسترخاء، وإضاءة مناسبة، وأثاث مريح وعملي. وبشكل عام، تؤكد هذه الوظيفية على الجانب العملي والتطبيقي للتصميم ومدى نجاحه في أداء وظيفته. ومن ثم، الإبقاء على شكل وتوزيع كل فراغ وظيفي أثبت ملاءمته لمتطلبات العصر، وتعديل ما يحتاج إلى تعديل من حيث الشكل والمساحة ليتناسب مع هذه المتطلبات، وتحديث عناصر التأثيث لتكون أكثر فاعلية. وقد يتطلب الأمر نقل فراغ من مكان إلى آخر ليواصل أداء وظيفته على أكمل وجه وتنتفي عنه أوجه القصور. وأخيرًا، يجب عدم التردد في إلغاء أي فراغ أو توزيع فراغي لم يكن في حقيقته ملائمًا حتى في عصره، وإنما فرضته ظروف الواقع فرضًا على مستعمليه بتلك الصورة لدواعي عادات اجتماعية تتعارض مع القيم الصحيحة، أو لتأثيرات اقتصادية أو إنشائية بحتة.

·     التركيز على التأصيل كمسار مهني: يجب على المعماري الليبي أن يحصر مساره المهني والبحثي في مهمة التأصيل للعمارة الليبية المعاصرة، متجاوزًا بذلك كل دعوات التشكيك والتثبيط التي ترى في هذا المنهج تقليدًا يتعارض مع متطلبات الإبداع والتجديد من منظور التغريب والاختزال لرسالة المعماري وفهمه لأدواره في المجتمع الذي يعيش فيه.

·     معيار النجاح: تحقيق التأصيل: ينبغي أن يحصر المعماري مناقشة مشاريعه وإدارة الحوار حولها ضمن دائرة مدى توفيقه في حل معضلة التأصيل من عدمها. وأي محاولة لإبعاده عن هذا المنهج الذي اختاره عن قناعة بجدواه كطريق في مسيرته المهنية لتحقيق رسالته السامية في الارتقاء بمجتمعه عمرانيًا وحضاريًا، يجب التعامل معها بحذر.

وما التوفيق في كل ما نسعى إليه إلاّ من عند الله سبحانه وتعالى، وهو الهادي إلى سواء السبيل.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المواضيع الأكثر مشاهدة

بحث هذه المدونة الإلكترونية