جمال الهمالي اللافي
لا يمكن تأسيس معمار إسلامي، إنساني، أخلاقي
في كنف سائد يتجاهل الجذور؛ إنه سعي مضاد للتيار، محكوم عليه بالمقاومة، بالإقصاء،
وبالصمت. الكلمة لن تتجاوز حدود مدادها، والمشاريع ستُوأد في دروب الإهمال،
يلاحقها الإنكار والتشكيك. في أعينهم، هي غربة؛ كل وميض أصيل يُخمد في مهده. سيعلن
المنادي أن كلفته باهظة، وأن أيدي عمالته الفنية التي طالما أبدعت في فنون البناء
التقليدية قد تلاشت، وأن مواده الطبيعية الأصيلة باتت شحيحة في سوق يسيطر عليه
المستورد والجاهز. سيزعمون أن طرازه عفا عليه الزمن، وأنه يعجز عن مواكبة روح العصر، التي يفسرونها بتبني
النمط العالمي الموحّد دون تمحيص، متجاهلين أن الأصالة هي جوهر المعاصرة الحقيقية.
إن جذور
هذه الإشكالية تمتد عميقاً في بنية الوعي الجمعي والسياسات الثقافية والتنموية.
فبعد عقود من التهميش الممنهج للهوية المعمارية المحلية،
وتغليب نماذج التنمية المستوردة التي لا تراعي السياق الثقافي ولا الجغرافي، ترسخ
الانطباع بأن كل ما هو "حديث" يجب أن يكون قادماً من الخارج. أصبح
"التطور" مرادفاً لـ"التبعية"، و"الحداثة" تُختزل
في الاستنساخ البصري لمفردات غريبة
عن روح المكان والإنسان.
لقد غابت
المبادرات الحكومية والمؤسساتية الفاعلة لدعم البحث في العماره التراثية وتأهيل
الحرفيين والعمالة المتخصصة في تقنيات البناء التقليدية، كما تم إهمال إنتاج
وتطوير مواد البناء المحلية التي كانت تشكل أساس عمارة تاريخية غنية. بل الأدهى من
ذلك، أن تدهور الوعي الجمالي العام قد أدى إلى تراجع الحس النقدي، فبات أي
"جديد" يُقبل دون تفكير في مدى تناغمه مع الذاكرة البصرية للمدينة
والقرية، أو مدى تلبيته للاحتياجات الروحية والاجتماعية للسكان.
إن هذا
التماهي في التبعية والانسلاخ عن القيم ليس مجرد جهل، بل هو في كثير من الأحيان خيار واعٍ، مدفوعاً بقناعة بأن
طريق التقدم الوحيد يكمن في التخلي عن "الماضي" لصالح
"المستقبل" المزعوم، الذي هو في حقيقته استهلاك لما هو سائد عالمياً.
هؤلاء المعارضون يمتلكون قيماً مختلفة تماماً، تتناقض وتتضارب مع الدعوة للأصالة.
ولذا، فإن إهدار الوقت والجهد في محاولة إقناع من اختار هذا الطريق عن قناعة هو
محض عبث، ولن يقود إلا إلى صراعات لا طائل منها.
ويبقى السؤال المُرّ يطرح نفسه:
هل سيؤول هذا الإصرار إلى تنازل؟
وسيبقى الجواب الصادح يتردد:
لا، أبداً.
فما قيمة الإنسان دون مبدأ راسخ يوجه بوصلته؟
وما جدوى العقل دون رؤية تُضيء دروبه نحو البناء
المستنير؟
وما معنى الروح دون انتماءٍ لجذورها العميقة التي
تمنحها الثبات والقوة؟
وأي قيمة لإنجاز معماري يُفتقد الأصالة، فلا يحمل
بصمة المكان والإنسان، ولا يروي حكاية حضارة؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق