التخطي إلى المحتوى الرئيسي

في مواجهة غياب الأصالة: تأملات في العمارة الليبية المعاصرة وجذور الإشكالية

 

جمال الهمالي اللافي

لا يمكن تأسيس معمار إسلامي، إنساني، أخلاقي في كنف سائد يتجاهل الجذور؛ إنه سعي مضاد للتيار، محكوم عليه بالمقاومة، بالإقصاء، وبالصمت. الكلمة لن تتجاوز حدود مدادها، والمشاريع ستُوأد في دروب الإهمال، يلاحقها الإنكار والتشكيك. في أعينهم، هي غربة؛ كل وميض أصيل يُخمد في مهده. سيعلن المنادي أن كلفته باهظة، وأن أيدي عمالته الفنية التي طالما أبدعت في فنون البناء التقليدية قد تلاشت، وأن مواده الطبيعية الأصيلة باتت شحيحة في سوق يسيطر عليه المستورد والجاهز. سيزعمون أن طرازه عفا عليه الزمن، وأنه يعجز عن مواكبة روح العصر، التي يفسرونها بتبني النمط العالمي الموحّد دون تمحيص، متجاهلين أن الأصالة هي جوهر المعاصرة الحقيقية.

إن جذور هذه الإشكالية تمتد عميقاً في بنية الوعي الجمعي والسياسات الثقافية والتنموية. فبعد عقود من التهميش الممنهج للهوية المعمارية المحلية، وتغليب نماذج التنمية المستوردة التي لا تراعي السياق الثقافي ولا الجغرافي، ترسخ الانطباع بأن كل ما هو "حديث" يجب أن يكون قادماً من الخارج. أصبح "التطور" مرادفاً لـ"التبعية"، و"الحداثة" تُختزل في الاستنساخ البصري لمفردات غريبة عن روح المكان والإنسان.

لقد غابت المبادرات الحكومية والمؤسساتية الفاعلة لدعم البحث في العماره التراثية وتأهيل الحرفيين والعمالة المتخصصة في تقنيات البناء التقليدية، كما تم إهمال إنتاج وتطوير مواد البناء المحلية التي كانت تشكل أساس عمارة تاريخية غنية. بل الأدهى من ذلك، أن تدهور الوعي الجمالي العام قد أدى إلى تراجع الحس النقدي، فبات أي "جديد" يُقبل دون تفكير في مدى تناغمه مع الذاكرة البصرية للمدينة والقرية، أو مدى تلبيته للاحتياجات الروحية والاجتماعية للسكان.

إن هذا التماهي في التبعية والانسلاخ عن القيم ليس مجرد جهل، بل هو في كثير من الأحيان خيار واعٍ، مدفوعاً بقناعة بأن طريق التقدم الوحيد يكمن في التخلي عن "الماضي" لصالح "المستقبل" المزعوم، الذي هو في حقيقته استهلاك لما هو سائد عالمياً. هؤلاء المعارضون يمتلكون قيماً مختلفة تماماً، تتناقض وتتضارب مع الدعوة للأصالة. ولذا، فإن إهدار الوقت والجهد في محاولة إقناع من اختار هذا الطريق عن قناعة هو محض عبث، ولن يقود إلا إلى صراعات لا طائل منها.

ويبقى السؤال المُرّ يطرح نفسه:

هل سيؤول هذا الإصرار إلى تنازل؟

وسيبقى الجواب الصادح يتردد:

لا، أبداً.

فما قيمة الإنسان دون مبدأ راسخ يوجه بوصلته؟

وما جدوى العقل دون رؤية تُضيء دروبه نحو البناء المستنير؟

وما معنى الروح دون انتماءٍ لجذورها العميقة التي تمنحها الثبات والقوة؟

وأي قيمة لإنجاز معماري يُفتقد الأصالة، فلا يحمل بصمة المكان والإنسان، ولا يروي حكاية حضارة؟

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

التهوية الطبيعية في المباني

م/ آمنه العجيلى تنتوش المقدمة تتوقف الراحة الفسيولوجية للإنسان على الثأتير الشامل لعدة عوامل ومنها العوامل المناخية مثل درجة الحرارة والرطوبة وحركة الهواء والإشعاع الشمسي . وللتهوية داخل المبنى أهمية كبيرة وتعتبر إحدى العناصر الرئيسية في المناخ ونق الانطلاق في تصميم المباني وارتباطها المباشر معها فالتهوية والتبريد الطبيعيين مهمان ودورهما كبير في تخفيف وطأة الحر ودرجات الحرارة الشديدة ، بل هما المخرج الرئيسي لأزمة الاستهلاك في الطاقة إلى حد كبير لأن أزمة الاستهلاك في الطاقة مردها التكييف الميكانيكي والاعتماد عليه كبير والذي نريده فراغات تتفاعل مع هذه المتغيرات المناخية أي نريد أن نلمس نسمة هواء الصيف العليلة تنساب في دورنا ومبانينا ونريد الاستفادة من الهواء وتحريكه داخل بيئتنا المشيدة لإزاحة التراكم الحراري وتعويضه بزخات من التيارات الهوائية المتحركة المنعشة . فكل شي طبيعي عادة جميل وتتقبله النفس وترتاح له فضلا عن مزاياه الوظيفية . وعلى المعماري كمبدأ منطقي عام البدء بتوفير الراحة طبيعياً ومعمارياً كلما أمكن ذلك ومن تم استكملها بالوسائل الصناعية لتحقيق أكبر قدر ممكن ...

بيوت الحضر: رؤ ية معاصرة للمسكن الطرابلسي التقليدي

تصميم وعرض/ جمال الهمالي اللافي في هذا العرض نقدم محاولة لا زالت قيد الدراسة، لثلاثة نماذج سكنية تستلهم من البيت الطرابلسي التقليدي قيمه الفكرية والاجتماعية والمعمارية والجمالية، والتي اعتمدت على مراعاة عدة اعتبارات اهتم بها البيت التقليدي وتميزت بها مدينة طرابلس القديمة شأنها في ذلك شأن كل المدن العربية والإسلامية التقليدية وهي: · الاعتبار المناخي. · الاعتبار الاجتماعي ( الخصوصية السمعية والبصرية/ الفصل بين الرجال والنساء). · اعتبارات الهوية الإسلامية والثقافة المحلية. أولا/ الاعتبار المناخي: تم مراعاة هذا الاعتبار من خلال إعادة صياغة لعلاقة الكتلة بمساحة الأرض المخصصة للبناء، بحيث تمتد هذه الكتلة على كامل المساحة بما فيها الشارع، والاعتماد على فكرة اتجاه المبنى إلى الداخل، وانفتاحه على الأفنية الداخلية، دون اعتبار لفكرة الردود التي تفرضها قوانين المباني المعتمدة كشرط من شروط البناء( التي تتنافى شروطها مع عوامل المناخ السائد في منطقتنا ). وتعتبر فكرة الكتل المتلاصقة معالجة مناخية تقليدية، أصبح الساكن أحوج إليها من ذي قبل بعد الاستغناء عن البنا...

المعلم/ علي سعيد قانة

موسوعة الفن التشكيلي في ليبيا 1936- 2006 جمال الهمالي اللافي الفنان التشكيلي" علي سعيد قانة " هو أبرز الفنانين التشكيليين الذين عرفتهم الساحة التشكيلية في ليبيا... انخرط في هذا المجال منذ نحو أربعة عقود. ولد بمدينة طرابلس الموافق 6/6/1936 ف ترعرع في منطقة سيدي سالم (باب البحر) بمدينة طرابلس القديمة.والتحق بأكاديمية الفنون الجميلة بروما- إيطاليا سنة 1957 وتخصص في مجال النحت بمدرسة سان جاكومو للفنون الزخرفية، كما حرص خلال وجوده في روما على دعم قدراته الفنية من خلال دورات تخصصية في مجال الرسم الحر والطباعة والسباكة وبرز في هذه المجالات جميعا.• التحق عند عودته إلى ارض الوطن بمعهد للمعلمين ( ابن منظور ) للتدريس سنة 1964ف• انتقل للتدريس بكلية التربية جامعة الفاتح سنة1973 ف• انضم إلى كلية الهندسة/ جامعة الفاتح بقسم العمارة والتخطيط العمراني سنة 1974- وتولى تدريس أسس التصميم و الرسم الحر لغاية تقاعده سنة 2001 ف• عمل مستشارا للشئون الفنية بمشروع تنظيم وإدارة المدينة القديمة. مساهماته الفنية/ اقتنى متحف مدينة باري للفنون بإيطاليا لوحتين من أعماله الفني...