أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

{فأما الزَّبد فيذهب جُفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض}- سورة الرعد، الآية 17

الاثنين، مايو 26، 2025

مدرسة العمل الجماعي: دروس من مكاتب العمارة الكبرى وتحديات الواقع الليبي


 

جمال الهمالي اللافي

لطالما كانت مكاتب العمارة الكبرى، عبر التاريخ، بمثابة مدارس حقيقية لصقل المواهب وتشكيل الرؤى المستقبلية للمهنة. الصورة المرفقة، والتي تُظهر عدداً كبيراً من المهندسين والمعماريين يعملون جنباً إلى جنب في مساحة مشتركة، تجسد بوضوح هذا المفهوم. هذه المشاهد ليست مجرد لقطات أرشيفية من الماضي، بل هي شواهد على نهج مهني عميق الأثر كان يسعى إلى بناء القدرات وتوريث الخبرة.

نموذج التعلم بالانغماس:

إن التجمع الكثيف للمعماريين، رجالاً ونساءً، في مكتب واحد لإنجاز المراحل الأخيرة من مشروع ضخم صممه معماري بارز، لم يكن مجرد ترتيب لوجستي. لقد كان، في جوهره، نظاماً تعليمياً قائماً على الانغماس والممارسة المكثفة. الهدف الأساسي لم يكن حصر العمل في يد معماري واحد، بل تمكين هذا "المعلم" من نقل فلسفته المعمارية، منهجيته التصميمية، وتفاصيل رؤيته الفنية لجيل من المهندسين الشباب.

لم يكن الدافع وراء هذا الالتزام هو الكسب المادي في المقام الأول، بل كان شغفاً بالتعلم العميق وتشرباً لفكر المعماري الذي آمنوا بمقاربته كسبيل نحو عمارة المستقبل في زمنهم. هذا النوع من التتلمذ، الذي يتجاوز حدود التعليم الأكاديمي النظري، يوفر للمتخرجين فرصة لا تقدر بثمن لاكتساب الخبرة العملية، فهم تعقيدات المشاريع الكبرى، وتطبيق المبادئ النظرية في سياقات واقعية. إنه يهيئهم للانطلاق في عالم المهنة بأساس متين من الخبرة والممارسة المستقاة من العمل الجماعي تحت إشراف مباشر.

الواقع الليبي: فجوة بين الطموح والخبرة:

على النقيض من هذا النموذج البناء، يواجه الواقع المعماري في ليبيا تحديات جسيمة، خاصة فيما يتعلق بتأهيل الأجيال الجديدة من المعماريين. للأسف، يتخرج العديد من أقسام العمارة في ليبيا وفي أذهانهم تصور مغلوط عن مدى إتقانهم للمهنة. هذا "الريش المنتفخ" أو الشعور المبالغ فيه بالذات، يؤدي إلى اعتقاد خاطئ بأنهم قد بلغوا ذروة الإبداع والمهارة، مما يجعلهم في غنى عن التتلمذ على يد خبرات معمارية لها تجربتها العميقة ورؤيتها المعمارية الثاقبة.

هذا العزوف عن الانخراط في بيئة عمل جماعية تحت إشراف معماريين ذوي خبرة، يحرم هؤلاء الخريجين من فرصة لا تعوض لصقل مهاراتهم، وفهم تعقيدات السوق، واكتساب "الخبرة المطبخية" التي لا تُدرس في الجامعات. إنها الخبرة التي تكتسب من معالجة المشاكل المعمارية المعقدة، والتفاعل مع العملاء، وإدارة المشاريع، وفهم الجوانب التنفيذية التي لا غنى عنها لأي ممارس معماري ناجح.

النتائج على أرض الواقع:

تُفصح جودة العمارة في ليبيا، في الكثير من الأحيان، عن النتيجة المباشرة لهذه العقلية. فبدلاً من أن تكون العمارة مرآة للابتكار والإبداع والجودة، تتحول في بعض الأحيان إلى انعكاس لـ"عقلية مسطحة"، تفتقر إلى العمق والرؤية والفهم الشامل للمتطلبات المعمارية. هذا النقص في الخبرة المكتسبة من خلال الممارسة المنظمة والعمل الجماعي يؤدي إلى مشاريع تفتقر إلى الأصالة، الفاعلية، والجمالية، وتستوي في بعض الأحيان بـ"تراب الأرض الموحل" من حيث القيمة والتأثير.

نحو مستقبل معماري أفضل:

لإصلاح هذا المسار، يتطلب الأمر إعادة تقييم شاملة لكيفية تأهيل المعماريين الشباب في ليبيا. يجب أن تشجع الجامعات والمؤسسات المعمارية على إقامة روابط أقوى مع مكاتب العمارة المرموقة، وتسهيل برامج التوجيه والتدريب العملي. الأهم من ذلك، يجب غرس ثقافة التواضع المهني والإيمان بأهمية التعلم المستمر والتتلمذ على يد من سبقوهم. فالعمارة ليست مجرد موهبة فردية، بل هي أيضاً تراكم خبرات جماعية وموروث فكري وفني ينتقل عبر الأجيال. إن إعادة إحياء نموذج "مدرسة العمل الجماعي" في مكاتب العمارة الليبية هو السبيل نحو بناء جيل من المعماريين القادرين على صياغة مستقبل معماري يليق بطموحات البلاد.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المواضيع الأكثر مشاهدة

بحث هذه المدونة الإلكترونية