التخطي إلى المحتوى الرئيسي

مدرسة العمل الجماعي: دروس من مكاتب العمارة الكبرى وتحديات الواقع الليبي


 

جمال الهمالي اللافي

لطالما كانت مكاتب العمارة الكبرى، عبر التاريخ، بمثابة مدارس حقيقية لصقل المواهب وتشكيل الرؤى المستقبلية للمهنة. الصورة المرفقة، والتي تُظهر عدداً كبيراً من المهندسين والمعماريين يعملون جنباً إلى جنب في مساحة مشتركة، تجسد بوضوح هذا المفهوم. هذه المشاهد ليست مجرد لقطات أرشيفية من الماضي، بل هي شواهد على نهج مهني عميق الأثر كان يسعى إلى بناء القدرات وتوريث الخبرة.

نموذج التعلم بالانغماس:

إن التجمع الكثيف للمعماريين، رجالاً ونساءً، في مكتب واحد لإنجاز المراحل الأخيرة من مشروع ضخم صممه معماري بارز، لم يكن مجرد ترتيب لوجستي. لقد كان، في جوهره، نظاماً تعليمياً قائماً على الانغماس والممارسة المكثفة. الهدف الأساسي لم يكن حصر العمل في يد معماري واحد، بل تمكين هذا "المعلم" من نقل فلسفته المعمارية، منهجيته التصميمية، وتفاصيل رؤيته الفنية لجيل من المهندسين الشباب.

لم يكن الدافع وراء هذا الالتزام هو الكسب المادي في المقام الأول، بل كان شغفاً بالتعلم العميق وتشرباً لفكر المعماري الذي آمنوا بمقاربته كسبيل نحو عمارة المستقبل في زمنهم. هذا النوع من التتلمذ، الذي يتجاوز حدود التعليم الأكاديمي النظري، يوفر للمتخرجين فرصة لا تقدر بثمن لاكتساب الخبرة العملية، فهم تعقيدات المشاريع الكبرى، وتطبيق المبادئ النظرية في سياقات واقعية. إنه يهيئهم للانطلاق في عالم المهنة بأساس متين من الخبرة والممارسة المستقاة من العمل الجماعي تحت إشراف مباشر.

الواقع الليبي: فجوة بين الطموح والخبرة:

على النقيض من هذا النموذج البناء، يواجه الواقع المعماري في ليبيا تحديات جسيمة، خاصة فيما يتعلق بتأهيل الأجيال الجديدة من المعماريين. للأسف، يتخرج العديد من أقسام العمارة في ليبيا وفي أذهانهم تصور مغلوط عن مدى إتقانهم للمهنة. هذا "الريش المنتفخ" أو الشعور المبالغ فيه بالذات، يؤدي إلى اعتقاد خاطئ بأنهم قد بلغوا ذروة الإبداع والمهارة، مما يجعلهم في غنى عن التتلمذ على يد خبرات معمارية لها تجربتها العميقة ورؤيتها المعمارية الثاقبة.

هذا العزوف عن الانخراط في بيئة عمل جماعية تحت إشراف معماريين ذوي خبرة، يحرم هؤلاء الخريجين من فرصة لا تعوض لصقل مهاراتهم، وفهم تعقيدات السوق، واكتساب "الخبرة المطبخية" التي لا تُدرس في الجامعات. إنها الخبرة التي تكتسب من معالجة المشاكل المعمارية المعقدة، والتفاعل مع العملاء، وإدارة المشاريع، وفهم الجوانب التنفيذية التي لا غنى عنها لأي ممارس معماري ناجح.

النتائج على أرض الواقع:

تُفصح جودة العمارة في ليبيا، في الكثير من الأحيان، عن النتيجة المباشرة لهذه العقلية. فبدلاً من أن تكون العمارة مرآة للابتكار والإبداع والجودة، تتحول في بعض الأحيان إلى انعكاس لـ"عقلية مسطحة"، تفتقر إلى العمق والرؤية والفهم الشامل للمتطلبات المعمارية. هذا النقص في الخبرة المكتسبة من خلال الممارسة المنظمة والعمل الجماعي يؤدي إلى مشاريع تفتقر إلى الأصالة، الفاعلية، والجمالية، وتستوي في بعض الأحيان بـ"تراب الأرض الموحل" من حيث القيمة والتأثير.

نحو مستقبل معماري أفضل:

لإصلاح هذا المسار، يتطلب الأمر إعادة تقييم شاملة لكيفية تأهيل المعماريين الشباب في ليبيا. يجب أن تشجع الجامعات والمؤسسات المعمارية على إقامة روابط أقوى مع مكاتب العمارة المرموقة، وتسهيل برامج التوجيه والتدريب العملي. الأهم من ذلك، يجب غرس ثقافة التواضع المهني والإيمان بأهمية التعلم المستمر والتتلمذ على يد من سبقوهم. فالعمارة ليست مجرد موهبة فردية، بل هي أيضاً تراكم خبرات جماعية وموروث فكري وفني ينتقل عبر الأجيال. إن إعادة إحياء نموذج "مدرسة العمل الجماعي" في مكاتب العمارة الليبية هو السبيل نحو بناء جيل من المعماريين القادرين على صياغة مستقبل معماري يليق بطموحات البلاد.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

التهوية الطبيعية في المباني

م/ آمنه العجيلى تنتوش المقدمة تتوقف الراحة الفسيولوجية للإنسان على الثأتير الشامل لعدة عوامل ومنها العوامل المناخية مثل درجة الحرارة والرطوبة وحركة الهواء والإشعاع الشمسي . وللتهوية داخل المبنى أهمية كبيرة وتعتبر إحدى العناصر الرئيسية في المناخ ونق الانطلاق في تصميم المباني وارتباطها المباشر معها فالتهوية والتبريد الطبيعيين مهمان ودورهما كبير في تخفيف وطأة الحر ودرجات الحرارة الشديدة ، بل هما المخرج الرئيسي لأزمة الاستهلاك في الطاقة إلى حد كبير لأن أزمة الاستهلاك في الطاقة مردها التكييف الميكانيكي والاعتماد عليه كبير والذي نريده فراغات تتفاعل مع هذه المتغيرات المناخية أي نريد أن نلمس نسمة هواء الصيف العليلة تنساب في دورنا ومبانينا ونريد الاستفادة من الهواء وتحريكه داخل بيئتنا المشيدة لإزاحة التراكم الحراري وتعويضه بزخات من التيارات الهوائية المتحركة المنعشة . فكل شي طبيعي عادة جميل وتتقبله النفس وترتاح له فضلا عن مزاياه الوظيفية . وعلى المعماري كمبدأ منطقي عام البدء بتوفير الراحة طبيعياً ومعمارياً كلما أمكن ذلك ومن تم استكملها بالوسائل الصناعية لتحقيق أكبر قدر ممكن ...

بيوت الحضر: رؤ ية معاصرة للمسكن الطرابلسي التقليدي

تصميم وعرض/ جمال الهمالي اللافي في هذا العرض نقدم محاولة لا زالت قيد الدراسة، لثلاثة نماذج سكنية تستلهم من البيت الطرابلسي التقليدي قيمه الفكرية والاجتماعية والمعمارية والجمالية، والتي اعتمدت على مراعاة عدة اعتبارات اهتم بها البيت التقليدي وتميزت بها مدينة طرابلس القديمة شأنها في ذلك شأن كل المدن العربية والإسلامية التقليدية وهي: · الاعتبار المناخي. · الاعتبار الاجتماعي ( الخصوصية السمعية والبصرية/ الفصل بين الرجال والنساء). · اعتبارات الهوية الإسلامية والثقافة المحلية. أولا/ الاعتبار المناخي: تم مراعاة هذا الاعتبار من خلال إعادة صياغة لعلاقة الكتلة بمساحة الأرض المخصصة للبناء، بحيث تمتد هذه الكتلة على كامل المساحة بما فيها الشارع، والاعتماد على فكرة اتجاه المبنى إلى الداخل، وانفتاحه على الأفنية الداخلية، دون اعتبار لفكرة الردود التي تفرضها قوانين المباني المعتمدة كشرط من شروط البناء( التي تتنافى شروطها مع عوامل المناخ السائد في منطقتنا ). وتعتبر فكرة الكتل المتلاصقة معالجة مناخية تقليدية، أصبح الساكن أحوج إليها من ذي قبل بعد الاستغناء عن البنا...

المعلم/ علي سعيد قانة

موسوعة الفن التشكيلي في ليبيا 1936- 2006 جمال الهمالي اللافي الفنان التشكيلي" علي سعيد قانة " هو أبرز الفنانين التشكيليين الذين عرفتهم الساحة التشكيلية في ليبيا... انخرط في هذا المجال منذ نحو أربعة عقود. ولد بمدينة طرابلس الموافق 6/6/1936 ف ترعرع في منطقة سيدي سالم (باب البحر) بمدينة طرابلس القديمة.والتحق بأكاديمية الفنون الجميلة بروما- إيطاليا سنة 1957 وتخصص في مجال النحت بمدرسة سان جاكومو للفنون الزخرفية، كما حرص خلال وجوده في روما على دعم قدراته الفنية من خلال دورات تخصصية في مجال الرسم الحر والطباعة والسباكة وبرز في هذه المجالات جميعا.• التحق عند عودته إلى ارض الوطن بمعهد للمعلمين ( ابن منظور ) للتدريس سنة 1964ف• انتقل للتدريس بكلية التربية جامعة الفاتح سنة1973 ف• انضم إلى كلية الهندسة/ جامعة الفاتح بقسم العمارة والتخطيط العمراني سنة 1974- وتولى تدريس أسس التصميم و الرسم الحر لغاية تقاعده سنة 2001 ف• عمل مستشارا للشئون الفنية بمشروع تنظيم وإدارة المدينة القديمة. مساهماته الفنية/ اقتنى متحف مدينة باري للفنون بإيطاليا لوحتين من أعماله الفني...