جمال الهمالي اللافي
في
صميم العمارة، وبعمق أوسع في رحاب الفن التشكيلي، يكمن افتراض جوهري: تضمين رسالة
جلية، قادرة على استنطاق المتلقي وإدراكه بمجرد التحديق فيها. الحالة الجمالية
ليست سوى واجهة مُغرية، بينما الرسالة هي الكنه الحقيقي. وعليه، فإذا تعثر فهم
المتلقي في استشفاف هذا المضمون، يصبح الشرح المفصل ضرورة مُلحة لإزالة الغموض.
وإن
غاب التفسير المُجلي لمحتوى العمل المعماري والتشكيلي، أو جاء مُناقضًا له،
مُدعيًا صفات لا يكتنزها، حينها يفقد العمل قيمته الحقيقية، ويتزعزع رصيد المصمم
والفنان التشكيلي من المصداقية. ويجد المتلقي نفسه تائهًا في دهاليز الجهل بقيمة
ودور ورسالة العمارة والفنون التشكيلية في شموليتها. ليصبح الجمال السطحي معيارًا
وحيدًا للتقييم، مُتجاهلاً العمق والمحتوى وتأثيرهما البالغ.
الجمال
عنصر جاذب للأنظار، والقبح عنصر مُنفر للطباع، وكلاهما ليسا سوى قشرة خارجية، لا
يمثلان جوهر العمل. فكم من عمل بهيج المظهر يُخفي في طياته قبحًا تستنكره النفوس
السليمة. والعكس قد يكون صحيحًا، وإن كان القبح في ذاته مُستكرهًا ولا يُعوّل عليه
في حمل أي رسالة قابلة للفهم والقبول وتحقيق الهدف المنشود من العمل. بل إن الآثار
النفسية السلبية للقبح في العمل أشد فتكًا في إفساد الفطر السليمة والسلوك القويم،
مهما تعددت المبررات الأخلاقية الواهية.
لهذا،
فالقبح نادرًا ما يستهدف إيصال رسالة، بقدر ما يسعى إلى تطويع السلوك ليصبح
مُستسيغًا لكل فعل شائن في الحياة. أما الجمال، فهو أداة جذب وإثارة للحواس،
تستدرجها لتقبل ما قد ترفضه. وتعيش نشوة اللحظة دون اكتساب أي منفعة مُستدامة، سوى
المزيد من الانغماس في الملذات والذهول عن البحث عن الفائدة وتحقيق المصلحة
النافعة للفرد والمجتمع.
وعليه، فإن لوحة الخط العربي التي تحمل آية قرآنية
مُنيرة أو حديثًا نبويًا بليغًا أو حكمة راسخة، تكون أعمق أثرًا في نقل معنى مُحدد
وهدف واضح. وهذا لا يقلل من قيمة فن الحروفيات الذي يُمثل بدوره احتفاءً فريدًا
بجمال الحرف العربي وقوته الكامنة. ففي تركيزه على جماليات التكوين الشكلي للحروف
والألوان، يُبرز فن الحروفيات جوهر الحرف العربي ككيان جمالي مستقل، قادر على
إثارة المشاعر وتقديم متعة بصرية راقية. ولعل في إشارات المولى عز وجل في العديد
من سور القرآن الكريم، التي استُهلت بحرف أو عدة حروف لا يزال سرها مُستغلقًا على
الفهم، دليلًا على القوة الخفية والقيمة الذاتية العميقة التي تحملها هذه الحروف.
الأمر
ذاته يتجلى في العمارة المُفتقرة للهوية، فهي خليط مُشوّش من تراكيب الكتل
الإسمنتية والزجاج وأنواع الأحجار وتشكيلات المعادن والخشب. تُبهرك بجمالها
الصامت، دون أن تُحدّثك عن شيء. تستغفلك بواجهاتها البراقة لتُخفي خلفها عيوبًا
ومساوئ لا تُحصى. تأخذ بك مذاهب شتى، ولا تُمكنك من الاستقرار للحظة على أرض
ثابتة. تُحوّلك إلى ريشة مُعلّقة في مهب الريح.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق