التخطي إلى المحتوى الرئيسي

جمال الظاهر.. ورسالة الباطن: قراءة في العمارة والفن التشكيلي


 

جمال الهمالي اللافي

في صميم العمارة، وبعمق أوسع في رحاب الفن التشكيلي، يكمن افتراض جوهري: تضمين رسالة جلية، قادرة على استنطاق المتلقي وإدراكه بمجرد التحديق فيها. الحالة الجمالية ليست سوى واجهة مُغرية، بينما الرسالة هي الكنه الحقيقي. وعليه، فإذا تعثر فهم المتلقي في استشفاف هذا المضمون، يصبح الشرح المفصل ضرورة مُلحة لإزالة الغموض.

وإن غاب التفسير المُجلي لمحتوى العمل المعماري والتشكيلي، أو جاء مُناقضًا له، مُدعيًا صفات لا يكتنزها، حينها يفقد العمل قيمته الحقيقية، ويتزعزع رصيد المصمم والفنان التشكيلي من المصداقية. ويجد المتلقي نفسه تائهًا في دهاليز الجهل بقيمة ودور ورسالة العمارة والفنون التشكيلية في شموليتها. ليصبح الجمال السطحي معيارًا وحيدًا للتقييم، مُتجاهلاً العمق والمحتوى وتأثيرهما البالغ.

الجمال عنصر جاذب للأنظار، والقبح عنصر مُنفر للطباع، وكلاهما ليسا سوى قشرة خارجية، لا يمثلان جوهر العمل. فكم من عمل بهيج المظهر يُخفي في طياته قبحًا تستنكره النفوس السليمة. والعكس قد يكون صحيحًا، وإن كان القبح في ذاته مُستكرهًا ولا يُعوّل عليه في حمل أي رسالة قابلة للفهم والقبول وتحقيق الهدف المنشود من العمل. بل إن الآثار النفسية السلبية للقبح في العمل أشد فتكًا في إفساد الفطر السليمة والسلوك القويم، مهما تعددت المبررات الأخلاقية الواهية.

لهذا، فالقبح نادرًا ما يستهدف إيصال رسالة، بقدر ما يسعى إلى تطويع السلوك ليصبح مُستسيغًا لكل فعل شائن في الحياة. أما الجمال، فهو أداة جذب وإثارة للحواس، تستدرجها لتقبل ما قد ترفضه. وتعيش نشوة اللحظة دون اكتساب أي منفعة مُستدامة، سوى المزيد من الانغماس في الملذات والذهول عن البحث عن الفائدة وتحقيق المصلحة النافعة للفرد والمجتمع.

وعليه، فإن لوحة الخط العربي التي تحمل آية قرآنية مُنيرة أو حديثًا نبويًا بليغًا أو حكمة راسخة، تكون أعمق أثرًا في نقل معنى مُحدد وهدف واضح. وهذا لا يقلل من قيمة فن الحروفيات الذي يُمثل بدوره احتفاءً فريدًا بجمال الحرف العربي وقوته الكامنة. ففي تركيزه على جماليات التكوين الشكلي للحروف والألوان، يُبرز فن الحروفيات جوهر الحرف العربي ككيان جمالي مستقل، قادر على إثارة المشاعر وتقديم متعة بصرية راقية. ولعل في إشارات المولى عز وجل في العديد من سور القرآن الكريم، التي استُهلت بحرف أو عدة حروف لا يزال سرها مُستغلقًا على الفهم، دليلًا على القوة الخفية والقيمة الذاتية العميقة التي تحملها هذه الحروف.

الأمر ذاته يتجلى في العمارة المُفتقرة للهوية، فهي خليط مُشوّش من تراكيب الكتل الإسمنتية والزجاج وأنواع الأحجار وتشكيلات المعادن والخشب. تُبهرك بجمالها الصامت، دون أن تُحدّثك عن شيء. تستغفلك بواجهاتها البراقة لتُخفي خلفها عيوبًا ومساوئ لا تُحصى. تأخذ بك مذاهب شتى، ولا تُمكنك من الاستقرار للحظة على أرض ثابتة. تُحوّلك إلى ريشة مُعلّقة في مهب الريح.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

التهوية الطبيعية في المباني

م/ آمنه العجيلى تنتوش المقدمة تتوقف الراحة الفسيولوجية للإنسان على الثأتير الشامل لعدة عوامل ومنها العوامل المناخية مثل درجة الحرارة والرطوبة وحركة الهواء والإشعاع الشمسي . وللتهوية داخل المبنى أهمية كبيرة وتعتبر إحدى العناصر الرئيسية في المناخ ونق الانطلاق في تصميم المباني وارتباطها المباشر معها فالتهوية والتبريد الطبيعيين مهمان ودورهما كبير في تخفيف وطأة الحر ودرجات الحرارة الشديدة ، بل هما المخرج الرئيسي لأزمة الاستهلاك في الطاقة إلى حد كبير لأن أزمة الاستهلاك في الطاقة مردها التكييف الميكانيكي والاعتماد عليه كبير والذي نريده فراغات تتفاعل مع هذه المتغيرات المناخية أي نريد أن نلمس نسمة هواء الصيف العليلة تنساب في دورنا ومبانينا ونريد الاستفادة من الهواء وتحريكه داخل بيئتنا المشيدة لإزاحة التراكم الحراري وتعويضه بزخات من التيارات الهوائية المتحركة المنعشة . فكل شي طبيعي عادة جميل وتتقبله النفس وترتاح له فضلا عن مزاياه الوظيفية . وعلى المعماري كمبدأ منطقي عام البدء بتوفير الراحة طبيعياً ومعمارياً كلما أمكن ذلك ومن تم استكملها بالوسائل الصناعية لتحقيق أكبر قدر ممكن ...

بيوت الحضر: رؤ ية معاصرة للمسكن الطرابلسي التقليدي

تصميم وعرض/ جمال الهمالي اللافي في هذا العرض نقدم محاولة لا زالت قيد الدراسة، لثلاثة نماذج سكنية تستلهم من البيت الطرابلسي التقليدي قيمه الفكرية والاجتماعية والمعمارية والجمالية، والتي اعتمدت على مراعاة عدة اعتبارات اهتم بها البيت التقليدي وتميزت بها مدينة طرابلس القديمة شأنها في ذلك شأن كل المدن العربية والإسلامية التقليدية وهي: · الاعتبار المناخي. · الاعتبار الاجتماعي ( الخصوصية السمعية والبصرية/ الفصل بين الرجال والنساء). · اعتبارات الهوية الإسلامية والثقافة المحلية. أولا/ الاعتبار المناخي: تم مراعاة هذا الاعتبار من خلال إعادة صياغة لعلاقة الكتلة بمساحة الأرض المخصصة للبناء، بحيث تمتد هذه الكتلة على كامل المساحة بما فيها الشارع، والاعتماد على فكرة اتجاه المبنى إلى الداخل، وانفتاحه على الأفنية الداخلية، دون اعتبار لفكرة الردود التي تفرضها قوانين المباني المعتمدة كشرط من شروط البناء( التي تتنافى شروطها مع عوامل المناخ السائد في منطقتنا ). وتعتبر فكرة الكتل المتلاصقة معالجة مناخية تقليدية، أصبح الساكن أحوج إليها من ذي قبل بعد الاستغناء عن البنا...

المعلم/ علي سعيد قانة

موسوعة الفن التشكيلي في ليبيا 1936- 2006 جمال الهمالي اللافي الفنان التشكيلي" علي سعيد قانة " هو أبرز الفنانين التشكيليين الذين عرفتهم الساحة التشكيلية في ليبيا... انخرط في هذا المجال منذ نحو أربعة عقود. ولد بمدينة طرابلس الموافق 6/6/1936 ف ترعرع في منطقة سيدي سالم (باب البحر) بمدينة طرابلس القديمة.والتحق بأكاديمية الفنون الجميلة بروما- إيطاليا سنة 1957 وتخصص في مجال النحت بمدرسة سان جاكومو للفنون الزخرفية، كما حرص خلال وجوده في روما على دعم قدراته الفنية من خلال دورات تخصصية في مجال الرسم الحر والطباعة والسباكة وبرز في هذه المجالات جميعا.• التحق عند عودته إلى ارض الوطن بمعهد للمعلمين ( ابن منظور ) للتدريس سنة 1964ف• انتقل للتدريس بكلية التربية جامعة الفاتح سنة1973 ف• انضم إلى كلية الهندسة/ جامعة الفاتح بقسم العمارة والتخطيط العمراني سنة 1974- وتولى تدريس أسس التصميم و الرسم الحر لغاية تقاعده سنة 2001 ف• عمل مستشارا للشئون الفنية بمشروع تنظيم وإدارة المدينة القديمة. مساهماته الفنية/ اقتنى متحف مدينة باري للفنون بإيطاليا لوحتين من أعماله الفني...