أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

{فأما الزَّبد فيذهب جُفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض}- سورة الرعد، الآية 17

الأحد، يونيو 15، 2025

مدن الجبل الغربي


قرية طمزين

الأستاذ/ سعيد حامد

باحث تاريخي

هي من قرى جبل نفوسة القديمة تبعد عن مدينة طرابلس بنحو 250 كم وعن مدينة نالوت بنحو 55 كم و يتم الصعود إليها عن طريق يصعد إليها من تيجي ويعرف باسم شليوني طمزين. الاسم باللغة الأمازيعية وتعنى الشعير وحسب الرواية المتداولة بين أهلها باختصار أن رجلا غنيا كان يستشير من بين أهلها ولكنه افتقر ولم يعد يستشار و أكرمه الله بزرع كما يقال صابه فأصبح من من الأغنياء واستدعى مع جماعة للاستشارة وطلب منه الحضور فقام باحضار صرة صغيرة معه ولما تم الإلحاح عليه ليقول رأيه فتح الصرة وكان بها شعير وقال باللغة الأمازيغية ما معناه تكلم يا شعير كناية عن أن من دعى إلى الاجتماع المال وليس شخصه وهذه بالطبع من الروايات التي تؤل الاسم كما في بعض المدن الأخرى

وهذه القرية كما يقول عنها الشيخ علي يحيى معمر كانت عامرة برجال فيهم علم وفضل. تذكر الرواية المتداولة بين أهالي طمزين أنها تأسست سنة 777 هجرية إذ وجد هذا التاريخ مكتوبا على صخرة بجوار قصرها  وأن أهل قرية تحارت والتي تبعد عنها بنحو 1 كم قد انتقلوا إلى موقعها وتم بناءها ومهما كان التاريخ فهي قرية قديمة إذ ينسب بعض العلماء الذين عاشوا في القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي إليها .

القرية القديمة ما تزال تحتفظ بمعالمها وإن أثرت  فيها عوامل الزمن والاهمال وانتقال أهلها إلى مبان جديدة خارجها ويلاحظ الزائر لها اليوم الاهتمام من أهلها في تنظيف الطرق و محاولة ترميم بعض بيوتها و هنا لا يسعنا إلا أن أن نشكر السيد عبدالله الهوفاري الهوفاري على مجهوداته في ذلك مع تعاون بعض الأهالي والخيرين في دعمه ماديا ومعنويا ويلاحظ مدى الجهد المبذول وتجميعه لمقتنيات تقليدية تعد نواة لتأسيس متحف وهو بمجهوده وتعاون بعض الأهالي قام بعرضها ويستقبل زوار القرية القديمة ويطلعهم على المقتنيات مع تقديم الشروح عليها.

لا يختلف معمار طمزين عن بقية مدن وقري جبل نفوسة وأيضا المواد المستعملة في البناء من حجارة صغيرة وطين وجنس وجذوع النخيل وأغصان شجر الزيتون. ومن أهم معالم المنطقة مدرسة أبي عثمان سعد بن أبي يونس الطمزيني وقد عاش في القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي تلقى تعلمه بمدينة تاهرت عاصمة الدولة الرستمية على يد حاكمها عبد الوهاب بن عبد الرحمن بن رستم وكان متبحرا في العلوم الشرعي ولاه  على قنطرارة و المنطقة القريبة منها وعرف بالاستقامة والتدين . ولما تم تدميرها على يد إبراهيم بن الأغلب  الثاني بعد موقعة مانو 283 هجرية وكانت  الدولة الأغلبية قد تأسست على يد إبراهيم بن الأغلب سنة 184 هجرية تركزت الحركة العلمية في  قرية تمصمص جنوب طمزين والقريبة منها. وقد استمرت المدرسة تؤدى دورها التعليمي إلى القرن الثامن الهجري / الرابع عشر الميلادي.

ومن المدارس التي نالت شهرة مدرسة أبو محمد خصيب بن إبراهيم التمصمصي  وهو من علماء النصف الأول من القرن الرابع الهجري / العاشر الميلادي أسسها في قرية تمصمص القريبة من طمزين وتخرج منها العديد من العلماء ودرست بها أم ماطوس التي التحقت بها ودرست مع طلبة المدرسة وهي فتاة  وكافحت من أجل تلقى العلم رغم معارضة أهلها ولم يمنعها بعد المسافة بين قريتها والمدرسة وأصبحت عالمة وممثلة للمرأة في المجالس العلمية التي يعقدها المشائخ والعلماء في مختلف القري. من أبرز الطلاب الذين أصبحوا فيما بعد من العلماء أبو زكريا يحيى بن سفيان اللالوتي عاش في النصف الثاني  من القرن الرابع الهجري / النصف الثاني من القرن العاشر الميلادي وغيره.

من معالم طمزين بعض المساجد التي ما تزال قائمة ومنها مسجد أبي عثمان بن سعد بن أبي يونس ومسجد الحاجة مسعودة واشتهر بين الأهالي بهذا الاسم ولا يعرف عنها أية معلومات  المسجدان تعرضا لبعض الانهيارات البسيطة والنبش ويمكن ادارك ذلك بسهولة قبل أن يتسع اخرق على الراقع.  ومسجد تحارت وهي قريبة من قرية طمزين عبارة عن غار تحت الأرض.


وهناك بعض البيوت في القرية القديمة في حالة جيدة  وتوجد بها نحو ست معاصر للزيوت إداها في حالة جيدة  يمكن بتنظيفها وتهيئتها للاستعمال في المهرجانات السياحية لتعرف الأجيال الجديدة طريقة استخراج الزيت الذي كان من أهم  المنتوجات في مدن وقرى جبل نفوسة.

أما قصرها فقد تعرض إلى التدمير في الحملة العثمانية التي  استهدفت قري الجبل في سنة 1843 وتم تهديم القصور التي بين يفرن وكاباو وتعرض قصري قصري كاباو ونالوت إلى القصف بالمدافع وكان سبب الحملة امتناع تلك المدن والقري عن دفع الضرائب ومساندة غومة المحمودي في ثورته التي انتهت بمقتله في منطقة أوال القريبة من غدامس سنة 1858م.


السبت، يونيو 14، 2025

تأملات في العمارة الليبية: هل نحن في صحوة أم غفلة متجددة؟

مدرسة الفنون والصنائع الإسلامية- صرح في التعليم الحرفي، تم تهميش حضوره.

جمال الهمالي اللافي

أُعيد طرح تأملات قديمة، نشرتُها قبل سنوات على صفحتي بفيسبوك ومدونتي "الميراث"، والتي عرضها علي الفيسبوك اليوم ضمن ذكرياتي اليومية. هذه التأملات، التي نُشرت بالتزامن مع احتفال قسم العمارة والتخطيط العمراني بذكراه الثلاثين في العام 1999، لا تزال تلامس واقعنا المعماري بشدة، وربما أكثر من أي وقت مضى.

كانت تلك الفترة شاهدة على تحول لافت في الخطاب الأكاديمي. فبعد عقود من التعصب الشديد لـعمارة الحداثة بين أعضاء هيئة التدريس في ثمانينيات القرن الماضي، استمعنا في الندوة المعمارية المذكورة إلى ورقات بحثية، قدمها أعضاء هيئة التدريس أنفسهم، تمجد العمارة المحلية. هذا التحول دفعني للتساؤل: هل هي صحوة بعد غفلة، أم غفلة أخرى تعقب غفلات؟

تزامن هذا التحول مع بروز عمارة ما بعد الحداثة في ليبيا، وإن كانت متأخرة بما يزيد عن ثلاثة عقود عن العالم الغربي. حينها، خشيتُ أن يكون هذا مجرد امتداد للتبعية الفكرية، وهو ما رأيته "مصيبة". خاصة وأن تلك الفترة شهدت بداية بروز الحركة التفكيكية في أوروبا في أوائل التسعينيات، والتي تدعو إلى هدم كل القواعد الأخلاقية، مدعمة بإرهاصاتها المعمارية التي رأيتُ فيها خطرًا، ودفعتني لنشر مقال في جريدة "الشط" حينها.

واليوم، بعد عدة عقود مضت على تلك الندوة، تتجلى إرهاصات هذه النظرية الفكرية بوضوح مقلق في مشاريع تخرج طلاب العمارة. حيث تفتقر هذه المشاريع للإبداع الحقيقي الذي يجاريها. وما يزيد الأمر سوءًا هو الاعتماد الحصري على الخرسانة المسلحة ونظام الهياكل الخرسانية في المشاريع التي ينفذها خريجو القسم، مما يؤكد أن العقل المعماري الليبي لا يزال أسير التبعية الفكرية، يركض خلف كل صيحة دون إبداع يذكر ودون حتى مواكبة للمواد والنظم الإنشائية المصاحبة لهذه التوجهات الفكرية. (هنا أقف عند المقالة الأصلية التي عرضتها في حينها)

أبعاد التبعية وآفاق التحرر

إن توصيفي للتبعية الفكرية بأنها "مصيبة" هو توصيف دقيق، لأن هذه التبعية لا تقتصر على مجرد استيراد الأنماط، بل تجاوزت ذلك إلى استيراد المنهجية الفكرية التي تقف خلف تلك الأنماط. ففي الثمانينيات، كان التعصب للحداثة ليس فقط اعتناقًا لشكلها الخارجي، بل تبنيًا لرؤيتها الفلسفية التي رأت في كل ما هو تقليدي "تخلفًا". هذا الأمر يطرح تساؤلاً حول مدى النقد الذاتي والفحص العميق لهذه الأفكار قبل تبنيها.

وعندما ننتقل إلى ما بعد الحداثة ثم التفكيكية، أرى أن الأمر يصبح أكثر تعقيدًا وخطورة. عمارة ما بعد الحداثة وإن كانت قد دعت إلى التعددية والتنوع والعودة إلى بعض الرموز التاريخية، إلا أنها في سياقنا الليبي، يبدو أنها لم تُستوعب بما يكفي لتوليد إبداع محلي، بل أصبحت مجرد تقليد شكلي يفتقر إلى العمق الفكري الذي يميزها في سياقاتها الأصلية. أما التفكيكية، التي أشرتُ إلى "خطرها" و"هدمها للقواعد الأخلاقية"، فإنها تمثل تحديًا أكبر. فإذا كانت هذه الأنماط تُطبق دون فهم عميق لفلسفاتها، أو دون تمييز بين ما يتوافق مع قيمنا ومجتمعنا وما يتعارض معه، فإن النتيجة الحتمية هي ما وصفته بـ "الانحطاط الأخلاقي" على المستويين الاجتماعي والمهني، وغياب الإبداع الحقيقي.

ما يزيد الطين بلة هو النقطة التي أضفتُها حول "عدم مواكبة للمواد والنظم الإنشائية المصاحبة لهذه التوجهات الفكرية". فالمشاريع التي تتبنى أساليب معمارية حديثة أو ما بعد حداثية، لكنها لا تزال تقتصر على الخرسانة المسلحة والهياكل الخرسانية، تكشف عن انفصال بين الفكر والتطبيق. العمارة ليست مجرد شكل خارجي، بل هي نتاج تكامل بين الفكرة، المادة، الوظيفة، والسياق. عندما نستورد الفكرة دون استيعاب لتطبيقاتها المادية الحديثة والمتنوعة، ودون محاولة للتكيف مع المواد المحلية المتاحة ومعطيات البيئة، فإن النتيجة تكون أعمالاً غير أصيلة، لا تعبر عن هوية ولا تستفيد من الإمكانيات المحلية.

إن الاعتماد الكلي على الخرسانة المسلحة قد يكون نتيجة لعدة عوامل، منها التدريس الأكاديمي الذي يركز بشكل كبير على هذه المادة، كذلك الممارسات الهندسية السائدة في السوق، بالإضافة إلى غياب الابتكار في استخدام المواد المحلية أو تطوير مواد جديدة مستدامة ومناسبة لبيئتنا. هذا يقودني إلى نقطة أعمق: أين هو دور البحث والتطوير في جامعاتنا ومكاتبنا الاستشارية في إيجاد حلول إنشائية ومادية تتوافق مع التوجهات المعمارية الحديثة مع الحفاظ على الأصالة والاستدامة؟ 

الطريق نحو التحرر: صياغة هويتنا المعمارية

السؤال الذي يفرض نفسه اليوم، ونحن نرى هذه الأنماط تتكرر، هو: متى يتحرر عقلنا المعماري من هذه التبعية؟ ومتى نبدأ في صياغة هويتنا المعمارية الخاصة التي لا تجاري الموجات فحسب، بل تبدع وتثري المشهد المعماري بما يتناسب مع قيمنا وثقافتنا ومعطيات بيئتنا المحلية وموادها الإنشائية المتاحة؟

أعتقد أن التحرر من هذه التبعية يتطلب:

·     مراجعة نقدية للمناهج التعليمية: يجب أن تتجاوز المناهج تدريس الأساليب الغربية كمسلمات، وأن تشجع على التفكير النقدي، والبحث في التاريخ المعماري المحلي، وتشجيع الطلاب على استكشاف حلول مبتكرة تستلهم من البيئة والثقافة الليبية.

·         تشجيع البحث والتطوير: دعم الأبحاث التي تركز على المواد المحلية، وتقنيات البناء المستدامة، وتطوير أساليب تصميم تتوافق مع مناخنا واحتياجاتنا.

·     ربط الأكاديميا بالممارسة: يجب أن يكون هناك جسر أقوى بين ما يُدرس في الجامعات وما يُطبق في السوق. تشجيع المشاريع التجريبية التي تدمج الفكر الجديد مع المواد المحلية والتقنيات المبتكرة.

·     تعزيز الهوية الثقافية: العمارة ليست مجرد بناء، بل هي تعبير عن ثقافة وهوية. يجب أن نعود إلى قيمنا الثقافية والاجتماعية وأن نستلهم منها في تصاميمنا، بدلاً من التقليد الأعمى. هذا لا يعني الانغلاق، بل يعني القدرة على استيعاب الجديد وتكييفه بما يخدم هويتنا.

·     مسؤولية المهندس المعماري: يجب على المعماري الليبي أن يتحمل مسؤولية أكبر في كسر حلقة التبعية، وأن يكون رائدًا في تقديم حلول إبداعية تتجاوز المألوف والمستورد، مع التركيز على الاستدامة والبعد الثقافي.

    إن القضية تتطلب جهدًا جماعيًا من الأكاديميين، الطلاب، المهندسين المعماريين، وحتى الجهات التشريعية. فالعمارة هي مرآة المجتمع، وإذا أردنا أن نرى مجتمعًا مبدعًا ومستقلاً، يجب أن تبدأ هذه الصحوة من صميم عمارته.


الجمعة، يونيو 13، 2025

بنيوية العمارة الليبية المعاصرة: استعادة الهوية من الجذور

 

جمال الهمالي اللافي

إن العمارة ليست مجرد قوالب صماء أو تراكيب وظيفية؛ إنها مرآة تعكس الروح الجمعية لمجتمعها، وتجسد قيمه وتطلعاته. في خضم التحديات التي تواجه المدن المعاصرة، تبرز الحاجة الملحة إلى وقفة مراجعة حقيقية مع الذات. فالسعي وراء الأوهام المعمارية المستوردة أو التصميمات العشوائية هو سراب لا ينتهي، يقود المدن وأهلها إلى متاهات الضياع وفقدان الهوية. هنا، تكمن ضرورة العودة إلى الجذور كفلسفة معمارية وحضرية أصيلة. 

العودة إلى الجذور: إحياء القيم المعمارية

إن مفهوم "العودة إلى الجذور" في السياق المعماري يتجاوز مجرد الحنين إلى الماضي أو تقليد الأشكال القديمة. إنه دعوة لإعادة الاتصال بالجواهر الخالدة والمبادئ الأساسية التي شكلت هويتنا المعمارية عبر العصور. هذا يعني التركيز على القيم الجوهرية التي تحملها عمارة الأجداد ضمن سياقها الثقافي والبيئي والاجتماعي. فالعمارة الليبية التقليدية، على سبيل المثال، لم تكن مجرد فن بناء، بل كانت تجسيدًا حيًا لفهم عميق لـماهية الحياة السعيدة التي يجب أن يحياها المسلم". لقد ارتبطت ارتباطًا وثيقًا بالمفاهيم الإسلامية للحياة، التي تشمل الخصوصية، الترابط الأسري، الضيافة، والانسجام مع البيئة. 

المسكن التقليدي: بوتقة تشكيل الهوية والقيم

لا يوجد مثال أوضح لتجسيد هذه العلاقة الوثيقة بين العمارة والقيم من المسكن التقليدي. لم يكن هذا المسكن مجرد مأوى، بل كان "بوتقة" حقيقية تحتضن ولادة المسلم ونموه الإدراكي وتنامي مشاعره، وتشكل قيمه التي سيسير على خطاها مدى عمره. لقد بُنيت أساساته ورُفعت أركانه على مبادئ الشريعة الإسلامية، ترجمةً لأسس الحياة الإسلامية السعيدة.

تتجلى هذه المبادئ في عناصر تصميمية دقيقة:

·     الخصوصية والستر: يُعد الفناء الداخلي (الحوش) هو القلب النابض للمسكن، حيث يضمن الخصوصية الكاملة للأسرة ويحميها من أعين المتطفلين. الجدران العالية والنوافذ القليلة المطلة على الشارع تؤكد هذا المبدأ، مما يخلق ملاذًا آمنًا وهادئًا للحياة الأسرية.

·     الترابط الأسري والتواصل: الفناء الداخلي ليس فقط خاصًا بل هو أيضًا مساحة مركزية للتجمع الأسري، حيث تتفاعل الأجيال وتنمو العلاقات في بيئة مفتوحة ومريحة تحت السماء.

·     التهوية والإضاءة الطبيعية: يضمن الفناء دخول الضوء والهواء النقيين إلى جميع غرف المنزل، مما يوفر بيئة صحية ومريحة، ويعكس الانسجام مع الطبيعة المحيطة.

·     الضيافة والكرم: على الرغم من الخصوصية، كانت هناك دائمًا مساحات مخصصة لاستقبال الضيوف (مثل الديوان أو المجالس)، مما يعكس قيمة الكرم والضيافة المتأصلة في الثقافة الإسلامية.

·     البساطة والجمال الوظيفي: كانت التصميمات تتسم بالبساطة الأنيقة والجمال المستمد من الوظيفة، مع استخدام مواد طبيعية متوفرة محليًا، مما يعزز قيم الاستدامة والاعتماد على الذات. 

تشريع الهوية: نحو بيئة عمرانية إسلامية أصيلة

لتحقيق رؤية أعمق وأكثر استدامة، لا يكفي الاكتفاء بالدراسات أو المبادرات الفردية. إن الخطوة الجريئة والمحورية تكمن في دمج أحكام البنيان الإسلامية ضمن التشريعات المنظمة لتصميم المشاريع العمرانية والحضرية، والتخطيط المديني، والتصميم الداخلي، وحتى التفاصيل المعمارية والزخرفية. هذا التوجه سيضمن أن البيئة العمرانية الجديدة ليست مجرد هياكل بلا روح، بل تعكس روح العقيدة الإسلامية بكل ما تحمله من معانٍ جمالية ووظيفية وأخلاقية.

هذا التكامل التشريعي يجب أن يغطي مستويات متعددة:

·     التخطيط المديني والحضري: يجب أن تشمل التشريعات مبادئ تخطيطية تعزز المقياس الإنساني للمدينة، وتدعم النسيج العمراني المتماسك الذي يعزز الجوار والتكافل الاجتماعي، مع مراعاة توفير المساحات الخضراء والمرافق العامة. يمكن أن تستلهم هذه التشريعات من تنظيم "الحارات" و"المدن العتيقة" التي كانت تعطي الأولوية للتواصل الاجتماعي والخصوصية في آن واحد.

·     التصميم المعماري للمباني: يجب أن تفرض اللوائح مبادئ تصميمية تعزز الخصوصية البصرية والصوتية داخل المساكن، وتشجع على استخدام الفناءات الداخلية، وتوجيه المباني بما يخدم المناخ المحلي (مثل استخدام المشربيات والعناصر التي توفر الظل والتبريد الطبيعي). كما يجب أن تشجع على استخدام المواد الطبيعية والمحلية التي تتناغم مع البيئة وتحكي قصة المكان.

·     التصميم الداخلي والتفاصيل المعمارية: يمكن للتشريعات أن توجه نحو تصميمات داخلية تحترم فصْل الفراغات (مثل فصْل استقبال الرجال عن النساء في بعض الثقافات)، وتشجع على استخدام الأنماط الزخرفية الإسلامية كالزخارف الهندسية والنباتية والخط العربي، والتي تعبر عن التوحيد والبعد عن التجسيد، وتضيف قيمة روحية وجمالية للفراغ.

هذا الإطار التشريعي سيعمل كآلية قوية لتصحيح الأخطاء التي خلقتها المدن العشوائية والعمارة "المغتربة" التي انفصلت عن سياقها الثقافي والديني، والتي أدت إلى ضياع الهوية والتفكك الاجتماعي في كثير من الأحياء والمناطق الحديثة. 

التحدي الأكبر: إرادة النظام السياسي

يبقى التحدي الأكبر، والذي يشكل العائق الأساسي أمام تحقيق هذه الرؤية الطموحة، هو غياب نظام سياسي يستوعب، بالعمق الكافي، أن تصحيح مسار المجتمع يبدأ من تخطيط مدنه ومشاريعها المعمارية وإحياء فنونها الحرفية على مبادئ العقيدة الإسلامية. فكثيرًا ما تُدار مشاريع التنمية العمرانية بمنطق اقتصادي بحت، أو تحت تأثير نماذج مستوردة، مما يهمل الأبعاد الثقافية والاجتماعية والروحية للمجتمع.

إن هذه التجربة المريرة، التي شهدناها مراراً في سياق العمل المدني والجهود المخلصة لجمعيات مثل الجمعية الليبية لإحياء التراث الثقافي وفق مبادئ الشريعة، حيث سُرقت الجهود ووُظفت لمآرب شخصية بعيدًا عن الغاية النبيلة، تترك شعورًا بالإحباط والعجز. ومع ذلك، فإن إدراك هذه العقبة لا يلغي صحة وضرورة الرؤية. بل يؤكد أن الطريق إلى استعادة بنيوية العمارة الليبية المعاصرة، بما يعكس هويتها وقيمها الإسلامية، يتطلب إرادة سياسية قوية وواعية تضع بناء الإنسان قبل بناء الحجر، وتدرك أن الفراغ العمراني هو في جوهره فضاءٌ لتشكيل الوعي والقيم، ومفتاحٌ لإعادة تصحيح مسار المجتمع نحو الازدهار والأصالة.

المواضيع الأكثر مشاهدة

بحث هذه المدونة الإلكترونية